صحيفة المثقف

محمود محمد علي: قراءة نقدية لكتاب: جائحة الديمقراطية

محمود محمد عليفلسفةٌ في أزمة فيروس كورونا للكاتب دانييل إنيراريتي

يعد الكاتب والمفكر والفيلسوف الإسباني "دانييل إنيراريتي" واحداً من كبار المتخصصين في تداعيات جائجة كورونا وأثرها في تغيير الأفكار الفلسفية، وهو يشغل منصب مدير معهد الحوكمة الديمقراطية بإقليم الباسك بإسبانيا، وهو بروفسور في الفلسفة السياسية والاجتماعية، وكاتب مقالات دائم الحضور في صحيفة الباييس وغيرها من الصحف الإسبانية. كما سبق له العمل كأستاذ زائر في عدد من المؤسسات الأكاديمية الأوروبية والأمريكية، مثل جامعة السوربون (باريس1)، وكلية لندن للاقتصاد، ومعهد ماكس بلانك بهايدلبيرغ. يُعرف عن دانييل إنيراريتي اشتغاله الكبير على موضوع الديمقراطية، من بين مواضيع سياسية أخرى؛ إذ صدرت له عدة كتب في هذا الجانب؛ منها: "ديمقراطية المعرفة" 2011، و"الديمقراطية في أوروبا" 2017، و"فهم الديمقراطية" 2018. كما صدر له هذا العام كتابان في مسألة الديمقراطية، هما: "نظريةٌ في الديمقراطية المعقدة: الحكم في القرن الحادي والعشرين"، والكتاب الذي بين أيدينا (1).

ويأتي صدور الكتاب في ظل أزمة "كوفيد 19" الذي أعلنت منظمة الصحة العالمية تصنيفه كجائحة في الحادي عشر من مارس 2020، بعد أربعة أشهر تقريباً من اكتشاف أول حالة له في الصين في السابع عشر من نوفمبر من العام الفائت، والذي تسبب - إلى حين نشر الكتاب نهاية شهر مايو الماضي- في وفاة 24 ألف شخص في إسبانيا وحدها، وأكثر من 377 ألفاً حول العالم.

ويسعى دانييل إنيراريتي من خلال هذا الكتاب، كما يشي العنوان أعلاه، إلى تقديم فلسفةٍ ناجعة للتعامل مع أزمة فيروس كورونا، والتنويه بأهمية الدور الذي يمكن لديمقراطية عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية لعبه للخروج من الأزمة الراهنة بأقل الأضرار.

وتتطرق فصول الكتاب الأحد عشر إلى مجموعة من المواضيع ذات الصلة؛ لعل أهمها: التعقيد الذي تتسم به الأزمة الراهنة، والنهج الأمثل لمقاربتها، وحال الديمقراطية في زمن الأزمة (2).

ويسعى دانييل إنيراريتي من خلال هذا الكتاب، إلى تقديم فلسفةٍ ناجعة للتعامل مع أزمة فيروس كورونا، والتنويه بأهمية الدور الذي يمكن لديمقراطية عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية لعبه للخروج من الأزمة الراهنة بأقل الأضرار.

يخبرنا إنيراريتي أن عدم التفكير بطريقة منظومية، والتعامل مع البيانات بمعزل عن السياق العام، يجعل معدلات الإصابات والوفيات تبدو كما لو كانت غير مقلقة، أما حين ننظر إلى ما يحدث من منظور منظومي فإن أصغر الأرقام ستشير إلى كارثة محتملة.

ولا شك أن ثمة نظريات عديدة عن أصل الفيروس: بعضهم يعتقد أنه مُنتج بشري تم تخليقه في المختبرات لاستخدامه كسلاح بيولوجي يُعزز الهيمنة، لكنه فرَّ من مخترعيه فأصابهم، سواء عن غير قصد، أو مع سبق الإصرار والترصد؛ وبعضهم يعتقد أنه مجرد أداة تحصنت بها الطبيعة ضد عبث الإنسان وإفساده اللامنقطع في البر والبحر؛ لكن الفيروس في كل الأحوال يتحدانا بقوة، ويكشف لنا بوحشية عن مدى هشاشتنا، سواء كنا أفرادًا أو جماعات، ويدفعنا إلى إعادة تقييم لحظتنا الوجودية: مَن نحن؟ وما مكاننا في الكون؟ وهل ثمة ما يمكن أن يُهدد بقاءنا كنوعٍ في أي وقت؟! لقد أظهر لنا الفيروس مدى أهمية الحياة، ومدى غباء انخراطنا الدائم في الصراع بدلاً من البحث عن سُبلٍ للتفاهم والتعاون! وعندما ينسحب الجميع في معازلهم، سواء أكانت مختبرات ومشافي تموج بأشرس معارك العلم ضد الفيروس، أو منازل تتضخم فيها مخاوف القدرة على اجتياز الجائحة، تتحول معازل الفلاسفة إلى خلايا فكرية تبسط أشرعة المعنى والمغزى والهدف على الجميع (3).

ومن هنا نجد دانييل يسعي من خلال هذا الكتاب إلي تقديم فلسفة ناجعة للتعامل مع أزمة فيروس كورونا والتنويه بأهمية الدور الذي يمكن للديمقراطية العالمية أن تتجاوز الحدود الجغرافية اللعب من الخروج من الأزمة الراهنة بأقل الأضرار (4).

يخبرنا دانييل أن عدم التفكير بطريقة منظومية والتعامل مع البيانات بمعزل عن السياق العام، يجعل معدل الإصابات والوفيات تبدو لو كانت غير مقلقة؛ أما حين ننظر إلي ما يحدث من منظور منظومي، فإن أصغر الأرقام ستشير إلي كارثة محتملة (5).

صحيح أن الإنفلونزا الموسمية تقتل هي الأخرى أعداداً كبيرة من الناس في كل عام، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن فيما قد تعنيه إضافة جائحة كورونا إلي انفلونزا موسمية في أوج انتشارها، كما أن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه، هو إلي أي مدي أن يتسبب ذلك في انهيار المنظومة الصحية؟

تفرق نظرية المنظومات المعقدة بين التأثرات الخطية والتأثرات غير الخطية أو المعقدة، وفي حالة التأثرات الخطية يتم التعامل مع وقائع متوافقة مع توقعاتنا وبنانا التحية ويمكن بالتالي جمع الكميات المختلفة للتنبؤ بالواقع المشترك لها؛ أما في حالة التأثرات غير الخطية فإنه لا يمكن ببساطة إضافة شئ ما إلي شئ آخر، وإنما تؤثر الأشياء في غيرها بطريقة تراتبية من الأعلى إلي الأسفل فيما يعرف بتأثير الشلال، ما يسمح بأن تؤول التغييرات الطفيفة إلي تحولات هائلة (6).

ووفقاً لدانييل، فإنه لا ينبغي اعتبار النظرية مضيعة للوقت، حتى في هذه الأوقات الحرجة، وحتى لو كانت بعض الأخطاء العملية ناجمةً عن عيوبٍ تنظيرية. فعند محاولة سبر غور الأزمة، تنهض أسئلةٌ تحيل على نظريةٍ لمجتمع ما بعد كورونا، وكل ما تم التفكير فيه، فيما يتعلق بالديمقراطية والسياسة، والعلاقة بين العام والخاص، ومعنى القوميات وتبرير أوروبا، بل وحول طبيعة العالم الذي نحيا فيه، يتطلب تقصياً جديداً (7).

أحد اهتمامات دانييل الأساسية هو ضرورة التفكير بمصطلحات التعقيد المنظومي، وتحويل المؤسسات لتكون قادرةً على حكم المنظومات المعقدة ودينامياتها، خصوصاً حين نواجَه بأخطار متصلة ببعضها البعض، أي حين يمكن أن تمضي عدة أشياء معاً في الاتجاه الخطأ.

ومن الجلي بالنسبة لدانييل كما يقول دانييل أن الجائحة الحالية لم يُتعامل معها من هذا المنظور في جميع مراحلها. ففي البداية شبهها الكثير من الساسة والمحللين بإنفلونزا موسمية متموضعة في منطقةٍ ما في دولة بعيدة، وأن كل ما علينا خشيته هو المبالغة في الهلع. لقد تم الاستخفاف بأرقام الإصابات والوفيات لأنها لم تُفهم كما ينبغي لها أن تُفهم في المنظومات المعقدة: أي في سياق منظومة عامة تأخذ في الاعتبار طريقة تأثير الوباء على البنى التحتية الصحية، وارتدادات هذا التأثير (8).

ويري دانييل أن الديمقراطية تقف اليوم أمام مفترق طرق عير معهود، وأن نجاتها مرتبط بقدرتها علي الفعل في البيئات الحالية المتسمة بالتعقيد، وعلي الموائمة بين تطلعات الفاعلية ومتطلبات الشرعية، ويشير إلي ما يُثار حول وجود انقلاب من شأنه أن يطيح بالرأسمالية، وإلي تحذير البعض من التحكم من يسعي إلي تعزيز التوجهات الاستبدادية فيما يعرف بالديمقراطية والتي غير الليبرالية، مثل إسرائيل والمجر اللتين استغلتا المرض لتقديم صورتهما غير الليبرالية (9).

وفي رأي دانييل فإن التدابير الاستثنائية يشكل سابقة خطيرة وانقطاعا للحريات، لكننها ستقبل من الجموع الخائفة التي ستغريها الوعود بالفاعلية علي حساب الشكليات الديمقراطية .

لقد أخذ الجدل بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع حول الديمقراطية ما بعد كورونا طابعا ملحميا ونبؤينا وسوداويا، فهناك من يعلن أننا سنشهد موجة جديدة من الاستبداد مثل جورج أدامبل، وهناك من يمجد الفاعلية الصينية ويعدها مثالا يحتذي به مثل بيونج شونج هان فيما يحذرنا يوفال نوي هراري من الترصد التوليتارياري الذي تمثله المراقبة الجيوميترية ويعود سلافوي من جدي للقول بالنهاية الحتمية للرأسمالية (10).

ويعيب إناريتي كما يقول دانييل علي تنبؤات هؤلاء المفكرين نغمة المبالغة وضعف الأساس العلمي، ويري أن يعضهم بحاجة إلي دراسة علم السياسة المقارنة ليكونوا علي دراية جيدة بالديمقراطيات الأوربية ودساتيرها، ويتصدي دانييل للدافع عن الديمقراطية مفندا الشبهات المثارة حول موضوعاتها الثلاثة الرئيسة، وهي الاستثناء والفاعلية والتغير الاجتماعي (11).

وفيما يخص مسألة الاستثناء، أي اللجوء إلي تعطيل بعض الحريات ومنح صلاحيات أكبر لطرف من الأطراف يزغم البعض أنه تم استغلال الوباء لجعل الاستثناء الوضع الطبيعي للديمقراطية، بينما يزعم آخرون فينظرون بما أسموه خضوعا لديكتاتورية ضد جماعية تجعل من النظام الغربي مساويا للصين في استبداديته، ويرد دانييل علي هذه المزاعم بالتذكير بأن حالة الطوارئ المفروضة اليوم في أوربا لم تكن موجودة قبل أزمة كورونا، ولن تظل موجودة بعدها، وينفي القول بأن الاستثناء والحالة المعتادة للديمقراطية، مضيفا أن حالة الطوارئ التي فرضتها الحكومات الأوربية مقيدة بثلاثة شروط، هي أن يكون الهدف منها مكافحة مرض كوفيد 19، وأن تكون محدودة الوقت، وألا تؤدي إلي تجاوزات قانونية (12).

يرى دانييل أن الديمقراطية تقف اليوم أمام مفترق طرق غير معهود، وأن نجاتها مرتبطة بقدرتها على الفعل في البيئات الحالية المتسمة بالتعقيد، وعلى الموائمة بين تطلعات الفاعلية ومتطلبات الشرعية (13).

ويشير دانييل إلى ما يثار حول وجود انقلابٍ من شأنه أن يطيح بالرأسمالية، وإلى تحذير البعض من نظام تحكمٍ يسعى إلى تعزيز التوجهات الاستبدادية في ما يعرف بالديمقراطيات غير الليبرالية، مثل إسرائيل والمجر اللتين استغلتا المرض لتأكيد صورتهما غير الليبرالية (14).

وفي رأي دانييل فإن التدابير الاستثنائية تشكل سابقةً خطيرة، وانقطاعاً للحريات، لكنها ستقبل من الجموع الخائفة التي ستغريها الوعود بالفاعلية على حساب "الشكليات الديمقراطية".

أما فيما يتعلق بفاعلية الديمقراطية حين يتطلب الأمر حلولاً عاجلة لأزمةٍ طارئة، فإن دانييل يشير إلى أن الأنظمة الديمقراطية قد تبدو أقل جاهزية لمثل هذه المواقف من الأنظمة الشمولية، نظراً لبطئها في اتخاذ القرارات، وضعف تحكمها في المجتمع، وتواضعها في انتهاك خصوصيات الناس (15).

إلا أنه يؤيد ما أشار إليه فوكوياما كما يري دانييل من أن مشكلات عدم الفاعلية التي تعاني منها الحكومات الديمقراطية لا علاقة لها باحترام الإرادة الشعبية والإجراءات القانونية، كما أن الأوتوقراطيات ليست مثالاً يحتذى فيما يخص الفاعلية. فالصين مثلاً لا يمكن عدها نموذجاً ناجحاً في هذا الجانب؛ مع شح المعلومات حول حقيقة الوضع فيها بسبب الرقابة التي تفرضها على الإعلام، كما أن دولاً عديدة تمكنت من فرض إجراءات الحجر والإغلاق الشامل دون أن تضحي بالقيم الديمقراطية كما فعلت الصين (16).

وأخيرا ينافس دانييل مشكلة التغييرات الاجتماعية : الاصلاحات أو التحولات التي تنتجها الديمقراطيات عن قصد وساء بطريقة تدريجية، أو دفعة واحدة، ولأن مثل هذه التحولات قليلة الحدوث في الديمقراطيات الراهنة، راح البعض يعول علي الكوارث الطبيعية لإحداث التغيير الذي ينشدونه فيما يفسر كلام البعض بأن الشيوعية الجديدة بات وشيكة الحدوث (17).

إن التغييرات الاجتماعية في الديمقراطيات لا علاقة لها بما يسميه دانييل الرؤية القربانية للتاريخ السياسي والتي تعتقد ان الفشل سينتج ضده بطريقة آلية، تلك الرؤية القائمة علي افتراضين خاطئين، وان السلبي ينتج الايجابي، وأن الإيجابي سيتم تقاسمه بالتساوي (18).

هنا يلفت دانييل النظر إلي حقيقة أن أوقات الأزمات علي عكس ما تذهب إليه الرؤية القربانية للتاريخ السياسي، قد تقود إلي أشكال معينة من عدم التوزان الذي سيمثل سانحة مواتية للأنظمة السلطوية والشعبوية غير الليبرالية (19).

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن كتاب ” جائحة الديمقراطية.. فلسفةٌ في أزمة فيروس كورونا " كشف لنا بحق أن الفيلسوف دانييل إنيراريتي نموذجا للفيلسوف الحر النزيه- الذي لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا، أنه كان يقدم مادته العلمية في هذا الكتاب فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

...............

1- فيصل الحضرمي: جائحة الديمقراطية.. فلسفةٌ في أزمة فيروس كورونا، صحيفة التفاهم، مقال منشور بتاريخ 29 يوليو 2020.

2- نفس المرجع.

3- د.صلاح عثمان: جائحة كورونا: فلاسفة في العُزلة، مركز المجدد للبحوث والدراسات، 14‏/05‏/2020.

4- دانييل إنيراريتي: جائحة الديمقراطية.. فلسفةٌ في أزمة فيروس كورونا، نشره غالاكسي غوتنبرغ، إسبانيا، 2020م، ص11.

5- نفس المصدر، ص 14.

6- نفس المصدر، ص 16.

7- نفس المصدر، ص 19.

8- نفس المصدر، ص 45.

9- نفس المصدر، ص 67.

10- نفس المصدر، ص 78.

11- نفس المصدر، ص 89.

12- نفس المصدر، ص 112.

13- نفس المصدر، ص 154.

14- نفس المصدر، ص 167.

15- نفس المصدر، ص 178.

16- نفس المصدر، ص 223.

17- نفس المصدر، ص 256.

18- نفس المصدر، ص 268.

19- نفس المصدر، ص 289.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم