صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: بين الادب والجمال

يسري عبد الغنينؤكد على أنه لا يتعلق الذوق الأدبي في حقيقة الأمر بالشكل الفني فحسب، بل به وبالمضمون معًا؛ إذ هما مرتبطان، بل ملتحمان، بحيث لا يمكن الفصل بينهما، اللهم إلا على المستوى النظري فقط، أما في الواقع فالفصل غير ممكن، والذين يظنون أن التذوق الأدبي لا عَلاقة له إلا بالجانب الفني في القصيدة أو المقال أو المسرحية... إلخ هم ناس يهيمون في الفراغ، أو يجرون وراء الأوهام؛ إذ أين يمكن أن نجد الشكل الفني منفصلًا عن مضمونه؟!

إننا لو عملنا على مسايرة هؤلاء النقاد، وحاولنا التوصل إلى شكل قصيدة من القصائد، فأين يا تُرى نجد الوزن دون الكلمات التي وُزِنَتْ عليه؟ وأين نجد البناء بعيدًا عما احتوته من أغراض أو أفكار، أو أحداث أو مشاعر، أو ما إلى ذلك؟! وأين نجد حرف السين - مثلًا - الذي يكثر في البيت الفلاني للإيحاء بجو الهمس والإسرار، إلا إذا أوردنا الألفاظ التي يظهر فيها هذا الحرف؟!

إذ أن الأدب بطبيعته وأهدافه ووظيفته بحثٌ عن الأخلاق من خلال الجمال، كما أن الأخلاق تريد أن تبرز بصور جميلة من خلال أشكال معينة، أحدها الأدب، وليس هناك قضية أكثر إلحاحًا على عقل ونفس وروح الإنسان من البحث عن الجمال، الذي يبعث في الروح الطمأنينة والسكينة، وينفخ في النفس روح الاستقرار، ويطلق الخيال من عنانهفي الطرف المقابل يقبع مفهوم مناقض وهو: الشذوذ الأدبي: يأتي من شذوذ الكاتب ذات نفسه، حيث إنه يستسلم لنوازعه الخاصة، وهوى نفسه، دون أن يُحِسُّ أو ييب أو غضاضة.

أو هو بهذا يقدم أدبًا مسمومًا غالبًا، يحمل بذورًا منحرفة، وفكرًا هشًّا، ولا يحمل رسالة فريدة وسامية، ويعتبر أدبًا غير سويٍّ؛ نظرًا لفكره غير الطبيعي عمومًا.

أقول لكم الأصل في الأدب أن يتجه لمكارم الأخلاق، وأن يسهم في تغيير الواقع المملوء بِقِيَمٍ غير سوية ليضع مكانها قِيمًا سوية تتفق مع ثوابت الأمة، والأديب يتصف ليس فقط بكونه مؤدِّبًا - بكسر الدال - وقائدًا اجتماعيًّا وفكريًّا، لا بل يتعداه إلى أن يكون مؤدَّبًا - بفتحها - بحيث يبتعد فيه عن الفحش والسِّباب والشتم والتقزيم والشخصنة، وكل ما من شأنه أن يخدش بلور شخصيته، وغني عن القول: إن على الأديب أن يكون قدوة ومنارة يرى فيها الناس الصورة المشرقة الخالية من الشروخ والخدوش والتشويه.

فالشذوذ الأدبي إذًا هو شذوذه عن رسالته الخلقية، والدينية أو السلوكية، والتزام ما يخدم قضايا الإنسان المصيرية. وكلمة شذوذ مرتبطة بالسلوك غير السوي، ولو حاولنا تفسير معنى كلمة شذوذ ، لقلنا: إنها الخروج عن المنطق، والمنطق يتبع لظرف زمان مكاني. وبالتالي فإن الشذوذ في موقع ما، ربما لا يعتبر شذوذًا في موقع آخر.

مثال على ذلك قصيدة النثر التي تلاقي صعوبة في تجنيسها عندنا، قد لاقت القبول في الغرب. والقصة القصيرة أيضًا بدأت تأخذ مسارًا غير الذي عهدناه في كلاسيكياتنا، ألا يعتبر هذا شذوذًا إلى أن تفرض هذه الأجناس الجديدة نفسها ويتقبلها المتلقي؟

أما الشذوذ بمفهومه السلبي في الحرف المكتوب، من خدش لطهارة الأدب بشكل عام، وتضمين النصوص ألفاظًا لا تليق، فهي مسؤولية الكاتب، ومن بعدها مسؤولية المتلقي الذي لا يرضى بمثل هذا الشذوذ.

نأتي للأفكار والمضمون والرسالة التي من أجلها كُتب النص، نقول: إن للكاتب كامل الحرية في طرح أفكاره، ولا يعتبر ذلك شذوذًا بمفهومه السلبي، إلا إذا ترتب من جرَّاء ذلك ضررًا للمجتمع.

أناشدكم جميعًا قائلين : لا تقيِّدوا المبدع وتقولوا له أبدع! إلا إذا ترتب من جراء ذلك ضرر للمجتمع؛ أي إبداع مشروط وليس حرية مطلقة. والضرر للمجتمع بمعنى كتابة أو تناول كل ما يمس القيم والعادات والعرف بطريقة فجة منفِّرة (وطبعًا الدين أسمى وأجلُّ) . أو بمعنى آخر: الضرر قد يقع على الأفراد، وأيضًا قد يكون ضررًا على المجتمع.

ولا أظن أن كاتبًا محترمًا، صاحب رسالة، يهدم ما يود إيصاله للقارئ لمجرد معالجة موضوعات خارجة - له الحق في معالجتها - بطريقة فجة - إلا إذا كان مهووسًا مريضًا يضر المجتمع أكثر مما يفيده.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم