صحيفة المثقف

سامي عبد العال: التَّعْرِي داخل اللغةِ

سامي عبد العال"الثقافة التي تغطي نفسها بأوراق اللغة لن تكون بمأمن يوماً من هبوب عواصفها .."

" تمارس اللغة كلَّ الأدوار على مسرح الحياة، غير أننا نتفرج دوماً على شيء آخر.."

أثناء رؤية صورتَّنا شاخصةً في إطار لّقْطةٍ أو غيرها، قد يلِّحُ هذا البُعد الاستفهامي: ما الذي تلتقطه الكاميرا فينا؟! أو بالأحرى... أيُّ شيء أخذته منَّا لدرجة الانجذاب نحوها كأننا نرى سراً مرغوباً؟! الصورة عادة لها وظيفة تعبيرية لدرجة الإغواء فيما وراء الشكل الصِرْف. فالإحساس التصويري (أو الإحساس الفيلمي film sense بعبارة المخرج والفنان سيرجي أيزنشتين) لا يقف فقط لدى النظر المباشر نحو موضوعه، ذلك باعتباره أبعد من مجرد الإطار الخارجي لوضعية المحتوى في ذاته.

هذه الطريقة نفسها تصحُ بصدد اللغة التي تعبر عن شيءٍ ما، فتتركه مادةً بلا حماية، ولا حصانة ذاتية إلاّ من وجودها القابل للتجلي. ليس هناك في اللغة ما يضمن أية حصانةٍ ضد المساءلة والتنقيب عن الخفي والمتلاشي لو افترضنا الوضع بدلالة معرفية. إنَّ معنى الأشياء واقع هناك داخل العبارات والألفاظ كمحض تعرية متواصلة لما هو كامن فيها. واللغة بخلاف سواها لا تذهب فقط للإضمار والتستر، لكنها تومئ بألف طرفٍ خفي إلى التّعري والإغواء.

أي: يظل موضوع اللغة منكشفاً وفق نظام دلالي آخر بخلاف وجوده. بحيث يكون حدث التعبير فعلَ تجلٍ، ويمارس انكشافاً لا يجدي أيُّ غطاءٌ فوقه. وبدلاً من توقف الكلام عند حدودٍ بعينها كما نتوهم، تصبح  التعبيرات عمليةً لغوية تجتذبُ أطرافها دون نهايةٍ. والمقولة المتداولة بين الأصدقاء ليست ببعيدة عن هكذا حالٍّ: " تعال لنتجاذب أطراف الحديث".

وهذا المعنى أقرب إلى مفهوم الحقيقة عند هيدجر. الحقيقة  (من وجهة نظره) هي اللاتحجب أليثيا a-letheia. إنَّه عمق الأعماق الذي يقطع المسيرة الطويلة نحو الانكشاف، التفتُق، البروز، التفتح. تلك الخطوة المنبثقة من الضمور، من الكمون تجاوزاً نحو الظهور. والحال بهذا الطلوع ليس أقل من الإشراق، أو التشرْيق المرتبط بالخروج من الظلام إلى النور. ولذلك كلمة: phenomenon  (أي الظاهرة) ترتبط بـ pha: المفردة القديمة في اللغات الهند أوروبية الدالة على الضوء الآتي من شروق الشمس في لحظات التماعها. ويمكن ربطها فيما يقول ألبرت اينشتين بالـ photons  (الفوتونات) ...أي الكميات الدقيقة التي يتألف منها الضوء وتشكل حركته.

" اللقطة والكلمة " تندفعان في عمل إضافي بالنسبة إلى كيانهما، لأنَّهما ليستا موجودتين موضوعياً على ما يبدو. فلا موضوعية، هناك عبر دهاليز اللغة وداخل جوانب الصورة. فالاثنتان محط التواء الرغبة التي تنضح بالمزيد من الرغبات الدفينة المتتالية، والأخيرةُ كامنة فيهما إلى حد الإغراق. وتلك هي قوة التجلي والانكشاف أثناء التعبير مهما يكن تكوينها الوسيط. ليست الكلمات بقعاً مظلمةً في مجرة اللغة، لكنها بؤر انصهار تلتهم ما يُغطِّي مدلولها من غلالات الثقافة، فهي تعرضّه للآخر. إنَّ الكلام قدرة إنسانية على التعري الدلالي إمام المتلقي. وعندما يقول جاك لاكان: "اللاوعي هو خطاب الآخر"، فلم يُبعد معنى مقولته عما يظهر مع اندفاع العبارات من مكبوتات واكراهات فيما يذهب فرويد.

إنَّ استدعاء هذا الغائب يعني الافتضاح الذي هو أمر خارج السيطرة. تماماً كما تعتبر اللغة خارج التحكم out of control رغم انطباع نسيجها الداخلي بأنفاس ناطقيها. ولهذا لن تكون النصوص المقدسة والسرديات والوثائق والأضابير الضاربة في الزمن معزولة عن تلك الأنفاس. لأنَّه لا بد أنْ تمُر من هنالك عبر اللغة المعبرة عنها والمكتوبة بحروفها حتى الرمق الأخير.

وسواء أكان نطق النصوص والسرديات ميتافيزيقياً أم إنسانياً، فهي لن تبتعد عن هذا الانكشاف. ومازال مدلول" اللغو" meaningless talk يسكن مفردات اللغة منذ أنْ بلبل الرب ألسنة شعب بني اسرائيل كما ورد بالعهد القديم، وهي أكبر حادثة لغوية لاهوتية في ذاكرة الشعوب السامية. ربما منذ ذلك الاعتقاد وما زال الشرق  (هذا الفضاء الجغرافي الشمسي) موضع الظهور اللغوي الأبرز. فجميع الظواهر لا تخلو من إشراقٍ ما. وبالتالي ترتبط بالشرق على نحو أو غيره الذي هو مهبط الأديان وانتشار الملل والمذاهب والعقائد سماويةً وأرضيةً.

فاللغة بالمضمون السابق تتعرَّى بمكنونها حتى داخل بلاط الملوك والسلاطين. ليس أكثر الغازاً وطلسمة من الخطابات في دول الشرق الاستبدادي وكان زكي نجيب محمود متفائلاً عندما أطلق عليه الشرق الفنان، ومع ذلك هي لغة فاضحة ورغبوية إلى أبعد مدى، واللغة من ثمَّ لن تتواني عن القيام بهذه المهمة السياسية. ليس لأنّها جارية وفقاً لسياق ما فقط، بل لكون بنيتها بنية تعرّية من حيث المبدأ. بحكم أنَّها تحمل انفتاحاً يفضح المقُول. ويصبح  أي خطاب نهباً لهواجس وشكوك تنال منه في الصميم!! وذلك يعني على المدى البعيد استحالة الهيمنة على اللغة مهما تكن.

ورغم ذلك الوضع، فهذه الهيمنة هي الغاية التي ما بعدها غاية لكل مستبد ولكل كاهن ولكل لاهوتي قُح. ونحن نعرف أنّه في الأنظمة الاستبدادية يكون الشغل الشاغل للحكام كيف يستطيعون " إلجام العوام عن الكلام في الشأن العام" على إيقاع عنوان كتاب الأمام الغزالي (إلجام العوام عن علم الكلام). والعوام مصطلح يلتهم لدينا كل ما يقابله من أية رمزية لأفراد الشعب (الرعية). ولأنَّ اللغة تحتاج إلى تحرُر جذري مما يقمعها، فإنها ستكون ميداناً للصراع غير المباشر إلى سنوات عديدة، كما نراها في العوالم الافتراضية ووسائط التواصل الإلكتروني.

ولهذا حينما نتكلم تتجلى (عبر الكلام) دوال الرغبات التي هي رغباتنا ورغبات سوانا في الوقت نفسه. وإذا توجهنا إلى أحدنا بالكلام لن يكون هناك ما نفكر فيه ولا ما نضمره، بل ما يأتي بصيغة الجمع. التعرية ستكون جمعاً على نطاق واسع رغم كون الناطق فرداً ليس أكثر. ذلك أن" الصورة والكلمة " لا تمثلان ممارسةً أحادية الدلالة بحالٍ.

1- الكلمات ما كانت لتُقال سوى بمحاولة التواصل مع آخر. وهو ما تسميه جوليا كريستيفا الرغبة في اللغة. وهي رغبة تتجاوزنا قطعاً كما نوهنا لتستقر عند  مواقع الآخر المتفلت باستمرار.

2- الصورة هي صورة لسوانا كما نراه، من حيث كوننا نطرح كياننا أو هيئتنا المرئية بالأساس. وإذا كنا نرغب في  النظر كثيراً إلى الصورة، فلأنها تلبي حاجة الآخر الساكن بداخلنا. أي أننا نلتقط صورتنا بالجانب الغائر من أعماقنا.

3- الكلمة هي الإغواء في أنْ يتكلم ما هو صامت فينا. ومازالت الكلمات ترتبط بفحوى الإيجاد، الخلق. وهذا الوضع للتكلم يردد طيفاً لاهوتياً في النصوص المقدسة، إذ ورد بالعهد الجديد " في البدء كان الكلمة". ومن هذا المنطلق لا يوجد بدء على نحو جديد سوى كلمة.

4- الصورة هي إيماءة نرجسية بلا نارسيس الأصلي... هذا البطل اليوناني خلال الأسطورة القديمة الذي كان معجباً بصورته المنعكسة في ماء البحيرة وحين فشل في معانقتها أو الإمساك بها اعجاباً وهياماً سقط غارقاً فيها. الصورة هي الموت المؤجل الذي يرانا عبر أنفسنا يومياً، ومع ذلك تمارس الصورة تعبيراً عن المضمون النرجسي نفسه . فكلُّ صورة لا تخلو من قوة معكوسة هي نحن. لأنها في الوقت عينه الذي تنفصل فيه عنا نحن نترك شيئاً داخلها وداخلنا. ولئن كانت تبدو قائمة على الفقدان، فإنها تستبقي شيئاً وراءناً. ولهذا ترتبط الصورة بعمل الذاكرة، لأنها نوع من الحفظ للمعاني في شكل متجسد.

5- الكلمات لا تتلاشى بسهولة. لأنَّها حالما تخرج، سرعان ما تكبر وتنمو في مكان ما عبر فضاء اللغة الرحب. وبالتالي تبقى الكلمات كأشجار عملاقة تتغذى على بقايا الزمن. والزمن مصدر الانطلاق فيما وراء أحداث الكلام كما أنه يتخلله في كافة التفاصيل.

6- الكلمة والصورة تقاومان الانقطاع عن الوجود، هما يأتيان كأشباحٍ فقدت أصولها. فلماذا نلتقط صورة من حين لآخر. لأننا نريد إضافة شيء إلى ما نحن فيه، نريد التقاط الهارب من كياننا. وهو الاتصال المأمول الذي يضرب موعداً مع الآتي. وكأنهما (أي الكلمة والصورة) ينبثقان من بعضهما البعض بشكل متواترٍ.

7- الصورة تأخذ مكانها في أعماق اللغة من جهة المعاني والاستعارات. وأن واو العطف التي قد تجمعهما (اللغة والصورة) ليست إلاَّ فاصلة هي تعلم كونها مؤقتة عادةً. لأنَّه بين كل لقطة ولقطة وبين كل كلمة وكلمة يتوسط المتلقي حتى ولو كان أنتَ. فإذا كانتا متفرقتين، فهناك وعي وسيط يمد الخطوط إلى اتجاهات تالية. وقد تمرق الكلمات واللقطات من حزمتها البصرية أو التعبيرية لكنها تنكشف لدى متابع ما افتراضاً.

وذلك الأمر يجعل فعل التعرّية هبة بلا مقابل بمقدار التفاعل داخل اللغة. فتتحول المعاني إلى صورٍ ليست كخاصية ثانوية، إنما نتيجة التقاط الجوانب الغائبة ضمن الكلام. لأنَّ تمثيل المعاني مجازاً ورمزاً هو الأساس، فالأداء يعد مخزوناً يحول اللغة إلى صور مجازية والصورة إلى لغة رمزية.

المخرج السينمائي سيرجي ايزنشتين المشار إليه  كان مبدعاً في تلك التحولات عبر النصوص البصرية السينمائية التي قدمها. كان يقصد تحويل الصورة السينمائية إلى خطاب معبر بقدرات اللغة على الإفضاء. ليس ذلك من مجرى الفيلم تحديداً في كل الأوقات، بل بواسطة إدخال ذهنية المتلقي في اللعبة. فنتيجة الانتقال ما بين الصور والحوار (السيناريو) ينكشف نسيج آخر للأحداث. وهو ما يعرف بـ"المونتاج الذهني".

وهو الأسلوب الذي يقول بضرورة الاختيار القصدي intentional للقطات السينمائية بمعزل عن سياق الحدث، ذلك ضمن خلق كل ما من شأنه أحداث التأثير النفسي في أبلغ صوره. وبذلك سيكون هناك دروب خفية لإنشاء تواصل بنَّاء يهدف إلى إعادة تشكيل وعي المتلقي. أي شحذه باحتمال الفرجة على نفسه متموضعاً ومفتوحاً على الآخر مع الحوار الداخلي.

واللغة هنا بنية تعرية تمارس هذا العمل من خلال نماذج أخرى في الحياة. على طريقة رولان بارت  (ومن قبله دي سوسير) الذي اعتبر أن نظام اللغة يستطيع تفسير الأنظمة الدلالية الأخرى، أي يكشف جوانبها ويعطيها مسرحاً للظهر. وقد جاءت رؤية أيزنشتين حول المونتاج السينمائي وليدة دراسته لمسرح "كابوكي" الياباني (مسرح ذو طابع شعبي مفتوح يشمل الغناء والرقص والأداء المجازي)، ثم انبهاره باللغة اليابانية وأشكالها المصورة، كذلك كانت وليدة دراسته لأشعار "هايكو". لأنها أشعار مليئة باللقطات كأنها بروق ورعود جياشة وحرة تحمل كامل سمات المعاني العميقة.

تاريخياً لعلنا نلاحظ في سرديات اللاهوت تزامن لحظة العُري المتبادلة بين آدم وحواء عندما أكلا من الشجرة المحرمة. وكانت الثلاثية واضحة: " الكلام- الجسد- الخطيئة". وهي ثلاثية  متزامنة جرت على خلفية المقدس (الأمر الإلهي) والغواية  (المعصية). جاء في القرآن: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاَّ إبليس أبى. فقلنا يا آدم إنَّ هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنةِ فتشقى. إن لك ألاَّ تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ومُلك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى".

ولأنَّ بنية الغواية واحدة من جهة اللغة، فجميع تفاصيل الآية تؤكد على فعل القول (قلنا يا آدم). القول قد يوجه للملائكة ولإبليس ثم لآدم. ويظل النص يكرر"قلنا". ثم يكون القول مبطناً بالأمر ثم الرفض ثم الغواية فالخطيئة فالنزول إلى الأرض وفقدان النعيم. إنّ هذا الإغواء ميراث الكلام في الثقافة الشفاهية حتى اللحظة. وإذا كان آدم قد تعرى بعد أن أنصت لغواية إبليس كما ورد في بعض الروايات حول قصة الخلق، فإنَّ العري لم يكن في الجنة، بل أصبح داخل اللغة على الأصالة. في إشارة أن ثمة تكراراً للجنة بمنطوقين: إحداهما كانت في بداية الخلق مع آدم وحواء. والأخرى هي اللغة حيث سيتحدثان فيها وبها طوال حياتهما وحياة أبنائهما.

ويبدو أنَّ الجنة الأولى طُرد منها آدم وزوجه فنزلا أرضاً حيث نشأة الحياة الدنيا. بينما الجنة الثانية (وهي اللغة) فقد طرد فيها (أي وجدا داخلها). أي أن آدم (الذي هو نحن) سيعيش في اللغة بلا قرار، بلا إيواء، سيظل متشرداً حائراً. إنَّها اللغة المطرود عبرها إلى أبد الآبدين. اللغة في عمقها هي صحراء هذا الترحال المستمر، ويظل الوصول إلى ركن ركين داخلها أمراً مستحيلاً بالضرورة. لدرجة أنَّ اللغة هي التعرّي بانكشاف الآخر الذي لا ينتهي. وهي فوق ذلك الوجه الثري للحياة، فقد التحما (أي اللغة والحياة) لدرجة التماهي التام.

وهذا التعري جاء كحال النفي عندما لم يسمع آدم كلام ربه. وهو سيشكل صورة الخطيئة طوال هذا العصيان. لأنَّ وضوح العري في الجنة سيكون واقعاً فيما دونها أيضاً وبخاصة إذا كانت اللغة هي مضماره. وتبدو اللقطة القرآنية فاعلة في تجسيد المشاهد (الرؤية- النظر). فالعري الذي حدث تجسيد كمشهد إغواء ما بلغة الصورة.  تماماً مثلما هو الكلام الذي يجسد الرغبة بإيقاعها الجسدي كما في الجنس وعلاقات الحب والغرائز المكبوتة.

لأن الحس في هذا السياق يتحول إلى مادة لغوية متجسدة تلتقي بدلالتها البعيدة والقريبة معاً عبر الخيال. وهو الأمر نفسه الحادث في ظواهر السياسة أيضاً. فالكلام في هذا الإطار السياسي أو ذاك قد يتشخص كما لو كان مادة مشمومة أو متذوقة أو ملموسة أو متلونة. حتى أن كلام السياسة يغوى أو يخاتل متلقيه على طول الخط. ولذلك ليس مستغرباً أن تنتشر هناك كلمات التزلف والمداهنة والفخر والحماسة في عودة لا تنتهي إلى الإغواء.

بينما في الكتاب المقدس الإشارة واضحة بسفر التكوين: " أمَّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتاه. فقالت الحية للمرأة لن تموتاه بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهية للعيون وأنَّ الشجرة شهية فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر".

إنَّ لغة الوصف النصي هنا لغة حسية بكل محمولات المعاني المتصورة. كانت اللغة  في أصلها هي الحياة التي تخرج في دوال مثل: الحية، حواء، المرأة، آدم، الشجرة، الأكل، العيون. لأن معنى آدم يجيئ من أديم الأرض، أي أنه مادة ملموسة (صورة) هو الآخر. وبمقدار ارتباط الشهوة بالعُري والتغطية ستكون اللغة أحد متعلقات الحادثة كأمر وارد باستمرار. ولم تكن هناك سوى كلمات الرب والأشجار ومواد الحياة وغرائزها.

لكن الجانب الذي يضم ذلك كله هو  (الجنة واللغة بالتبادل). وهما اللذان كما في نص القرآن يجريان حواراً بينهما من نوع آخر. ذلك بناء على الإغواء الممتد لدى الآدميين والذي لن ينتهي وما زال ساكناً في أفعال الكلام والسرد والحكي. إذن لن يكون الانتقال الآدمي (على صعيد المعاني والصور) اختلافاً إلاَّ بقدر ما هو داخل اللغة. والصورة التي وُجد فيها آدم وحواء تحت تجلي الجسد أمام بعضهما البعض هي بنية اللغة كنظام جديد أعاد التعارف على العالم من حولهما. بل وعرفهما على الحياة الأرضية الجديدة، لأنه من بنية الغواية وجدت جوانب الحياة وما زالت.

أما تعبير" شجرة المعرفة " فيكشف الخلود من خلال الأسماء والكلمات والصور. لذلك (كما ورد بالكتاب المقدس والقرآن) تعد الأسماء  ممارسة لوجود الصور المعبرة عن الرغبات بالنسبة لآدم تجاه العالم والأشياء. والدليل أن الكلام الإلهي مع المخلوق الآدمي الجديد كشف جميع هذه المعاني المتقدمة جداً في خطابه لآدم وحواء. ثم بحكم تلك المكانة المرغوبة والمحفورة في كل اسم نشأت السلطة تاريخياً عبر جسد اللغة، لأنَّ كل كلمة مسكونة بأثر لمعنى سابق يدفع التعبيرات إلى مفترق طرق. حيث أخذ الإغواء يتشكل مع السلطة التي تركت أصدائها في أجسادنا وأهوائنا منذ ذاك الوقت. عندما يتنكر الحس الشعبي لشخص يعلن أنه بلا اسم" هذا الذي لم يسمَّ"  (اللي ما يتسْمّاش) وعندما يعترف بشخص آخر يعطيه ألقابا بطولية وأسطورية. في إشارة إلى  (إسقاطه أو تدعيم مكانته) من الوجود الذي لم يبعد كثيراً عن علاقة الرب بآدم قديماً بعمر ذاكرة آدم داخلنا نحن الأبناء.

وفي هذا الإطار، مازالت الثقافة العربية تعتبر الكلام الكاشف نوعاً من الفضيحة. فالإنسان لدينا مخبوءٌ تحت لسانه كما يشار في الأقوال العربية القديمة. وكأن العبارات تكشف (رويداً رويداً) الجسد الذي هو العورة الآدمية القديمة بمنطوق أنثوي. لأنَّ الدلالة تختمر بصراع المضمون الأخلاقي والإلهي والبشري في ذاكرة اللغة. وعلى خلفية سياسية يقال: "الجدران لها آذان" حيت نتكلم عن أمور محظورة تمس شخصيات مهمة. أي لا يجب أن تتكلم في شيء سري مخافة أنْ يستمع أحد فيأتي الأثر بالوبال عليك.

وهناك الرد غير الإيجابي حينما يقول شخص لآخر" لابد من قطع لسانه" وهو تعبير رمزي عن إيقاف تداعي صور اللغة الكاشفة. ذلك حتى لا يتفوه هذا الشخص مرةً ثانيةً بكلمة من شأنها الحط منه. وقيل أيضاً بتحذير لا هوتي حول جنوح الكلام العام: "من كثُر كلامه كثر لغطُه". إنَّ اللغة هي جنة العراة بامتياز، هؤلاء الذين لا يستمعون لكافة النصائح بستر العورات، إذ يظنون كونهم بعيداً عن مسرح الحياة حيث يتفرجون على أنفسهم في سيناريوهات لم يكتبونها حصرياً، إنما تأخذهم الأهواء نحو الغواية المتكررة.

 

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم