صحيفة المثقف

مريم لطفي: البارانويا.. جنون الارتياب

"إنما يستأذنك الذين لايؤمنون بالله واليوم الاخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون".. التوبة 45

تعرف البارانويا على انها الشعور بالاضطهاد والقلق والخوف والملاحقة الدائمة من قبل الاخرين للنيل من المريض الذي يكون في حالة ترقب دائم وحذر شديد وعلى اهبة الاستعداد للدفاع عن نفسه، وهي احد الاعراض المركزية للذهان.

ومصطلح "جنون الارتياب" ياتي من الكلمة اليونانية "بارانويو" والتي تعني "اختلال" او الخروج عن المالوف وقد ظهر هذا المصطلح لاول مرة اثناء مسرحيات الممثلين المأساويين "التراجيديين" اليونانيين، واستخدمه عدد من المفكرين مثل "افلاطون" و"ابقراط" والذي يعادل كلمة الهذيان او الحمى الشديدة، وقد فسره كريبلن على انه وهم منهجي مستمر ينشأ لاحقا في الحياة دون هلوسة او دورة انتكاس، اي ذهان تخيلي كمتلازمة متطابقة لجنون الارتياب ولكن مع الهلوسة، وهي اضطراب عقلي يتميز به المصاب بخصال ابرزها الشك والارتياب والحسد والشعور بالاضطهاد واساءة فهم وتقدير الامور على انها ازدراء، وكثيرا ماتؤدي هذه الحالة الى شعور المريض بانه عظيم او مخترع او فيلسوف كبير.

ويمر الجميع بحالات عدم ثقة قد تولد افكارا مريبة لكن عندما تتخندق الافكار حول مفهوم التهديد دون مبرر عندها تدخل المجال المرضي بامتياز ويكون المريض مصاب بالهذاء او "جنون الارتياب".

وتختلف حدة المرض تبعا للشخصية المظطربة فهو حاله حال اي مرض نفسي فيه الخفيف والمتوسط والشديد وتخضع شدة المرض لتجذر الجنون الارتيابي لدى المريض الذي يعززه ويغذيه بل ويتمسك به معتبرا ذلك خطا دفاعيا وحصنا حصينا للدفاع عن النفس والذي يرتبط بمجموعة متنوعة من الفصام الارتيابي والاكتئاب ناهيك عن ردود فعل وحالات ذهان تنتاب المريض كالذهان التخيلي، والكارثة ان المريض يشعر بانه معافاً تماما وعلى اتم صحة مادام انه يبتعد عن الاخرين ويكشف نواياهم السيئة ضده- حسب مفهومه- فهو اذن بامان، وعليه يقسم جنون الارتياب الى:

- هذاء الاضطهاد وهو اعتقاد المريض ان الناس يتامرون عليه ويحاولون النيل منه والحاق الاذى به.

- هذاء العظمة وهو اعتقاد المريض انه شخصية عظيمة بالغة الاهمية.

- هذاء توهم المرض وهو اعتقاد المريض بانه مصاب بمرض عضال ويبقى يرتاد العيادات ويكون ذلك شغله الشاغل.

- هذاء التلميح وهو الاعتقاد بان الكل يتهامس عليه ويتكلم عنه بالسوء ممايؤدي الى اعتزال الناس.

- الهذاء السوداوي وهو الاعتقاد بانه اس المشاكل والمصائب والكوارث ممايؤدي الى شعوره الدائم بالذنب بل انه يبحث عن اي ثغرة تشعره بالذنب.

وبشكل عام فان الافراد الذين يعانون من الارتياب يميلون الى اتخاذ نمطا سلوكيا بناءا على معتقداتهم، وعلى وجه عام فان الارتياب بمعناه الاعتيادي يكون ضمن مفردات الشخصية الانسانية ولكن بدرجات متفاوتة كل حسب شخصيته وتربيته كالريبة من بعض الاشخاص لسبب اولاخر او الشك ببعض السلوكيات التي تبدو غريبة وهي حالة طبيعية، لكن المبالغة المفرطة التي يجسدها الوعي الذاتي للمريض والاجترار لمعالجة المعلومات والسلوكيات الاجتماعية من سوء الفهم والتقدير والاستسلام الى الشعور ب"نظرية المؤامرة"وبان المحيط الخارجي برمته وجميع الكائنات قد تكالبت للنيل منه والقضاء عليه، وتتمحور اعراض جنون الارتياب بالاتي:

- الحذر الشديد من التعامل مع الاخرين مهما كان هذا الاخر.

- الميل الى الانعزال والانطواء ومقاطعة العالم الخارجي.

- الشعور بالعجز والاكتئاب وعدم الرغبة ببمارسة الامور الحياتية.

- الدوامة الفكرية التي يعيشها المريض خلال تعامله مع الناس وارشفة كل صغيرة وكبيرة وكل كلمة وتحية على انها فعل معاد.

- الشكوك غير المبررة تجاه الاصدقاء والمعارف وزملاء العمل، واعتبار اي عرض او استشارة او دعوة هي فعل مغرض.

- انعدام ثقة كامل بالمحيطين بالمريض وتبريرذلك على انه نوع من الحذر والحماية.

هذه الاعراض وغيرها تجعل مريض البارانويا يعيش في دوامة الشك والارتياب المرضي الذي وللاسف الشديد سينقله راغبا او راهبا لاطفاله الذين سيحملون نفس المرض، وتتحكم بهذا المرض عدة عوامل منها:

- عامل الوراثة "الجينات" وهو اس البلاء والعامل الاكثر تاثيرا بالكثير من الامراض الاجتماعية والنفسية الفتاكة.

- التربية وهذه هي العمود الفقري لحياة الانسان، فالسلوكيات المريضة تنتقل عن طريق الاكتساب وتزدهر بوجود عوامل خصبة لانباتها، فالطفل مهيأ فكريا وسلوكيا للاكتساب، وكل مايراه في طريقة سيحدد فيما بعد طريقة حياته.

- اسباب نفسية تفرضها حالة معينة او موقف بعينه يترك اثرا سلبيا وردة فعل عنيفة لدى الشخص الذي سيبقى يعاني طيلة حياته ثم ينقل المرض المكتسب لاطفاله ديناميكيا، كفشل علاقة عاطفية او خيانة اوالتعرض للقتل او الاختطاف او السرقة مثلا.

- الظروف الطارئة كالحروب والاوبئة التي تترك اثرا سيئا بالنفس من خلال التعرض الى ازمات عنيفة تكون نتيجتها مرضية.

- الشخصية القلقة والعصبية تكون اكثر استعدادا لهذا المرض لان القلق والاكتئاب يؤدي الى ضعف التقدير الذاتي وبالتالي الخطا في تقدير الامور.

- تاثير العقاقير والكحول والمنشطات على كيمياء الدماغ مما يؤدي الى حصول اضطرابات نفسية وسلوكية.

- التنشئة الاجتماعية والاسرية الخاطئة القائمة على التسلط والاضطهاد ومصادرة الراي.

- صراعات ذاتية نتيجة التعرض للفشل والاخفاق اكثر من مرة يترك اثره واضحا.

وقد عرف "كولبي" ادراك جنون الارتياب على اسس الاوهام الاضطهادية والمعتقدات الخاطئة التي يتجمع محتواها حول افكار التعرض للمضايقة والتهديد والايذاء والقهر والاضطهاد والاتهام وسوء المعاملة والظلم والعذاب والتحقير والتشهير من خلال الاشخاص الحاقدين.

ان علاج اي مرض نفسي ليس بالامر الهين خصوصا اذا كان المريض مقتنعا بانه سليم لكن محاولة اقناع و مساعدة المريض على العلاج تعتبر الخطوة الاولى للعلاج وتتسم بالاتي:

- زرع بذور الثقة في نفس المريض عن طريق اقناعه بالتخلي عن الافكار الهدامة التي تحاول النيل منه وبانها وساوس لااساس لها من الصحة.

- محاولة دمجه بالحياة عن طريق تعويده على ممارسة نشاط معين يجعله يشعر بالسكينة.

- اقناع المريض بان المحيطين به لهم شؤونهم الخاصة وهو ليس المعني على الاطلاق باي شكل من الاشكال.

- استخدام الايحاء البنّاء عن طريق ضخ برامج تنمية بشرية بصورة غير مباشرة كاهداءه كتاب مثلا او الاستماع الى محاضرة شيقة وبرامج تحفيزية عن طريق النت مع الحذر بالتعامل والحديث غير المباشر الذي ياتي ا’كله غالبا.

ولعل برامج التنمية البشرية هي الاكثر تاثيرا على النفس البشرية لما لها من قدرة على انعاش الطاقات الروحانية العالية من خلال العودة الى الطبيعة وممارسة طقوس تعبدية مريحة للانسان عن طريق الصلاة وقراءة كتاب الله، هذه الروحانية العالية تترك اثرها الايجابي بالنفس واضحا"ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين"

وقد ورد الارتياب والريبة في القران الكريم بمعنى الشك مع التهمة يقال رابني الشئ وارابني بمعنى شككني واوهمني الريبة، وهذا يعني ان الريب ابلغ من الشك واشد وذلك لما فيه من اتهام والتباس، وننتهي الى القول ان حقيقة الريبة والارتياب هي قلق النفس واضطرابها قال تعالى "وإن كتم في ريب ممانزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله"..البقرة23

 

مريم لطفي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم