صحيفة المثقف

منى زيتون: الجميلة والوحش

منى زيتونفي مقال سابق بعنوان "الكفاءة في الزواج ما بين العصامي والمتسلق والسيكوباتي" تحدثت عن موضوع خصال الكفاءة في الزواج من منظور اجتماعي، وميزتُ بين العصاميين الذين يرتقون في المجتمع بعلمهم وعملهم، وبين المتسلقين الفاشلين الذين يتصورون أن بإمكانهم أن يصنعوا لأنفسهم حراكًا اجتماعيًا يرفعهم لأعلى بزواجهم من نساء أفضل منهم في جميع خصال التفاضل بين البشر.

وبداية نقرر أن العصامي يفكر في الزواج بإحدى طريقتين؛ فمنهم من يؤخر زواجه حتى يعلو في المجتمع ويستطيع أن يتقدم لمن تتوافق مع مستواه الاجتماعي الجديد الذي طالما طمح إليه، ومن أشهر هؤلاء المهندس عثمان أحمد عثمان رحمه الله، الذي روى في مذكراته كيف أنه أخَّر زواجه كثيرًا حتى حقق درجة من النجاح في عمله وجنى من المال ما جعله قادرًا على التقدم لزوجته. وهناك نوع آخر من العصاميين يتزوج مبكرًا ممن توافقه في مستواه الاجتماعي البسيط ويمكن أن تكافح معه، ومثله يحفظ العشرة لها ويرفع قدرها حتى بعد أن يصير إلى مستوى أرقى في المجتمع، وأحد أشهر الأمثلة على تلك الحالة التاجر الكبير الذي اقتبس قصته إحسان عبد القدوس تحت اسم "عبد الغفور البرعي" في روايته "لن أعيش في جلباب أبي".

في هذا المقال سأتحدث عن كيف أن محاولات المتسلقين عندما تفشل –وغالبًا ما تفشل- قد تفضي إلى حالة هروب من الواقع وخلق الأوهام وكثيرًا ما تتأذى منها النساء، خاصة عندما يكون اختلاق الإفك عن امرأة واحدة يختصها الفاسق ببث سمومه عنها.

الشهريار المزيف

غالبًا ما ينتهي الأمر بالمتسلقين التافهين بعد فشل مخططاتهم إلى ادعاء العلاقات الوهمية، وبعضهم يوهم الناس، وآخرون يوهمون حتى أنفسهم، والحالات الأخيرة –إيهام الذات- هي حالات متقدمة من المرض أكثر ندرة يكون فيها المريض غير واعٍ، وكثيرًا ما يكون مرضه واضحًا لمن حوله، بينما  حالات إيهام الناس هي الأكثر شيوعًا، وفيها يكون المتسلق واعيًا بما يفعل، ويتفاوت غرضه، فقد يكون الغرض هو الظهور بمظهر شهريار أو هارون الرشيد فيوهم الناس بتعدد علاقاته، وقد تناولت السينما المصرية هذه الحالة في دور البطولة الثاني "الأستاذ جمال" الذي قدمه عمر الحريري في فيلم "غصن الزيتون"، وكان كاتب السيناريو حاذقًا وعلى دراية كافية بمسببات هذا المرض النفسي؛ فاعترف الأستاذ جمال في نهاية القصة بأنه يعاني عجزًا جنسيًا ويحاول نفش ريشه كالطاووس تضخيمًا لذاته أمام الناس مداراة لعيبه. فملخص القصة أن شهريار المزيف هذا لديه نقيصة كبيرة –أيًا كان نوعها- ويتجمل لمداراتها.

ولا أنسى كيف أن فتاة تعمل في مركز للعلاج الطبيعي أخبرتني ذات مرة عن شخص كان قد تعرض لحادث سيارة ويستخدم عكازًا منذ فترة ويأتي إلى المركز الذي تعمل به للتأهيل، وكيف أنه كثيرًا ما يأتي إلى المركز في سيارات مختلفة تقودها سيدات، ويحاول التباهي بذلك. ولما كان غالبًا ما يجلس إلى اليمين في الكرسي الخلفي للسيارات –وفقًا لما روته لي الفتاة- فيبدو لي أن السيناريو الأكثر قربًا من الواقع أن أخانا هذا يؤشر لقائدات السيارات من النساء ويستوقفهن لتوصيله إلى مركز العلاج، وأنهن يوافقن لما يرين من حاله، فهو شبه عاجز عن الحركة ويريد حضور جلسة العلاج، ولكن يطلبن منه الجلوس إلى اليمين من الكرسي الخلفي، وهو المتعارف عليه عند النساء عند توصيل الغرباء.

قصة أخرى حدثت منذ عقدين من الزمان، لشهريار مزيف آخر، علمًا بأنه يفتقد الحد الأدنى من الوسامة، كان سببًا في تعاقد أحد أقاربه في وظيفة جيدة خارج مصر، ولكنه ظل يوهمه ويوهم الجميع أن تلك الوظيفة جاءت عن طريق امرأة ويضحك ضحكات خبيثة موحية وكأن هناك علاقة ما بينه وبينها، وهي عادته بوجه عام عندما يتحدث عن النساء لكن دون التصريح بأسمائهن، ولكن قريبه هذا وبعد سنوات من استلامه مهام عمله خارج مصر، وعن طريق الصدفة وحدها اكتشف السبيل الذي يسر الله له به هذا العمل وجعل هذا الرجل سببًا فيه، ولم تكن فيه ثمة نساء أو ما شابه.

الجميلة والوحش

وإن كانت شخصية الشهريار المزيف خطرة على المجتمع لكن الأكثر ضررًا هي شخصية الفاسق الذي يختلق قصة حول علاقته بفتاة معينة. وقد سبق وناقشت في مقال "لماذا لا يفهم الرجال النساء؟" اختلاف درجات مهارات التواصل اللفظي والانفعالي بين الرجال والنساء. والحساسية اللفظية والحساسية الانفعالية منخفضة الدرجة لدى أغلب الرجال تكون السبب في إساءة فهمهم أحيانًا لسلوكيات النساء، لكن المشكلة أن التوضيح قد لا يجدي نفعًا مع أغلبهم بعد ذلك؛ فيبقى يُنكر ويُصر أنه لم يفهم خطأ، أو يكون قد تورط في التباهي بعلاقته الناشئة في خياله أمام أصدقائه وأقاربه، ما يدفعه إلى سلسلة من الأكاذيب بعد ذلك قد تستمر سنوات، وهو ما ينكشف حتمًا ويُفضح لأن الكذب –وكما قال من سبقنا- ليست له أرجل!

وأمثال هؤلاء الفُساق لا يهتمون بما يمكن أن تجره أكاذيبهم على الفتيات والنساء من ضرر، فكل همه أن يتباهى ويخفي نقيصته. وكم سمعت عن حالات لنساء تطلقن لأن إشاعات قد طالتهن عن علاقات مشينة ليس لها أساس من الصحة، وعن طالبة في الصعيد انتهت مسيرتها الدراسية عند المرحلة الثانوية رغم تفوقها، ولم تسمح لها أسرتها باستكمال تعليمها الجامعي في القاهرة؛ لأن فاشلًا ناقصًا لم يكمل تعليمه لفرط غبائه حاول إيهام الناس أنه على علاقة بها، مستخدمًا الإيحاءات في ذلك، فهو يكثر من السفر إلى القاهرة، ويحاول التجسس والتلصص لمعرفة موعد ذهابها وإيابها ليحبك كذباته.

وفي مدينتي، الإسماعيلية، حدثت حادثة إفك صغيرة منذ عدة سنوات، حيث كان أحد المراهقين -وهو طالب في المرحلة الإعدادية- يوهم أصدقاءه أنه على علاقة مع إحدى زميلاتهم المتفوقات في المدرسة، وهي فتاة قمة في الجمال وحُسن الخُلق، فهو يحاول اختلاق أسباب للحديث معها في المدرسة، ويشترك في الأنشطة الرياضية في نادي "الجولف" صيفًا كي يراها مع زميلاتها هناك، ولكنه انكشف أخيرًا عندما حضرت الفتاة مع صديقاتها في يوم ليس لديهن فيه تمرين لأنه كان يوم عيد ميلاد إحدى الفتيات وأردن الاحتفال بها في النادي، وكان أحد أصدقائه هناك بطلب من المدرب، فلما رأى البنات ظن أن صديقه أيضًا سيحضر، ثم اتصل به ليعرف لماذا تأخر طالما أن الفتاة قد حضرت منذ مدة، وقبل أن يسأله عن أي شيء، إذا بالكاذب يرد على اتصال صديقه سريعًا مطالبًا إياه بإنهاء الاتصال لأنه يكلم الفتاة بواسطة أحد برامج التواصل، وصديقه يسمعه يدعي ذلك بينما هو يرى الفتاة بعينه بين صديقاتها يأكلن الحلوى!

وقصة أخرى لطالبة متفوقة، وهي الأولى على شعبتها في كليتها الجامعية، وتطمح للتعيين كمعيدة في الكلية بعد تخرجها، وهناك معيد في الكلية أبدى إعجابه بها، وتقدم لأبيها طالبًا الزواج منها، على أن تسافر معه إلى الخارج بعد تخرجها وتعيينها في الجامعة، ويكافحا معًا لبناء مستقبلهما، وقد وافق أبوها مبدئيًا على الموضوع، ولكنه أجل إعلان الخطبة لأنه من المبكر الحديث فيها، ومن ثم لم تعلم بأمر تقدم المعيد لخطبتها إلا صديقاتها المقربات. وكان هناك طالب فاشل معها في الكلية دائم الرسوب، وقد رسب للمرة الثانية في السنة الجامعية الأخيرة فأصبح زميلًا لها في سنتها النهائية، وقد أشفقت عليه بعد أن أصبح أقدم من عميد الكلية، وأرادت مساعدته لينهي دراسته المتعثرة فأصبحت تعطيه أوراقها وملخصاتها وترشده، وللأسف فقد كاد أن يتسبب لها هذا الفاشل المعاق نفسيًا في تدمير أحلامها؛ لأنه حاول إيهام من يعرفهم من زملائه الشباب في الشعبة –على قلة من يعرف لأنه لا يكاد يحضر إلى الجامعة- بأن هذه الفتاة المتفوقة المميزة تحبه وتهتم لأمره! ولم يقصر بعض زارعي الفتن في إيصال الأمر إلى المعيد الذي يعرف الجميع بشعبتها –عدا هذا الراسب- اهتمامه بها، وحدثت مشكلة كبيرة بينهما، ولولا لطف الله واستخدامه التواصل اللفظي المباشر لإخبارها بما يزعجه لانتزعت الخطبة وفسد مشروع الزواج بينهما.

ولا زلت أذكر قصة حدثت وأنا طفلة صغيرة في ثمانينات القرن الماضي لسيدة من علية القوم وزوجة رجل ذو شأن في الإسماعيلية، كانت في طريق عودتها من القاهرة للإسماعيلية، ويبدو أنها توقفت لتموين سيارتها بالبنزين في أقرب محطة بنزين من بداية الطريق، وإذا بعمال المحطة لما رأوا أرقام سيارتها يطلبون منها أن تصنع معروفًا وتوصل رجلًا رقيق الحال من الإسماعيلية كان يوجد في المحطة –ولا أعلم سبب تواجده فيها- إلى أقرب مكان يمكن أن يستقل منه وسيلة مواصلات تقله إلى الإسماعيلية. ويبدو أن المرأة قد أحرجت فوافقت، ثم إنها لم توصله إلى موقف سيارات الأجرة بل أكملت المسير إلى الإسماعيلية دون أن تنبس مع الرجل ببنت شفة طوال الطريق –وفقًا لكلامه هو نفسه-، وكان الرجل قد عرف من تكون ولكن لم يخبرها أنه عرفها لأنه لم يدر حوار بينهما حتى أوصلته، ولكن بدلًا من أن يحمد لها أنها أعادته إلى مدينته في أيسر مواصلة يمكن أن يتخيلها، لم يكد يترك مكانًا في المدينة الصغيرة إلا ويذكر الحادثة وأن فلانة زوجة فلان بيك أوصلتني بسيارتها، وكأنها اختارات أن توصله أو أنها طلبت ذلك! وبقي يتباهى فترة بهذه الحادثة كما لو كانت السيدة على علاقة به! ورغم أن هذه السيدة كانت زميلة لأمي وخالاتي الكبيرات في المدرسة وجدتي تعرف أخلاقها جيدًا إلا أنني أذكر أن جدتي رحمة الله عليها علقت بأن هذه السيدة مخطئة ووضعت نفسها تحت ألسنة الناس رغم أنها لم تفعل شرًا، وأن الناس قد تغيرت نفوسهم ولم يعد توصيل الغرباء مستساغًا مثلما كان في سالف الأيام.

وقد يبدو عجيبًا لمن لا يفهم طبيعة هذا المرض النفسي أن هؤلاء الفاشلين لا يحيكون قصصهم عن علاقاتهم الوهمية تلك إلا مع فتيات أو سيدات شديدات التميز مقارنة بهم. والحقيقة أن هذا هو الشيء المنطقي الوحيد فلن تجد رجلًا يدعي أنه على علاقة بالمتسولة التي تشحذ بالقرب من باب المسجد، حتى وإن كانت هي من تليق به.

وهناك قصة خرافية شهيرة بعنوان "الجميلة والوحش" حولتها استديوهات ديزني إلى فيلم رسوم متحركة. تحكي القصة عن وحش أحب الفتاة الجميلة ابنة التاجر الذي قضى ليلة في قلعته، وأخطأ بقطف وردة من حديقة الوحش، فاضطر إلى إرسال ابنته إلى قصر الوحش ليسامحه، وتقدم الوحش بعرض زواج من الفتاة عدة مرات وكانت ترفضه، ثم عندما مرض الوحش شعرت الفتاة بالرثاء لحاله وبأنها تحبه لقلبه الطيب رغم بشاعة منظره فأعلنت له موافقتها على الزواج منه، ليتبدل الوحش من فوره ويتحول إلى أمير جميل، ويخبرها أنه كان مسحورًا، وأن الساحرة التي سحرته أخبرته أن السحر لن ينفك عنه إلا عندما تحبه فتاة جميلة وهو على الصورة الممسوخة التي جعلته عليها.

ويبدو أن القصة منتشرة في التراث الثقافي لكثير من الأمم، وفي حكايات الأخوين غريم، التي جمعا فيها كثيرًا من الحكايات الخرافية الشعبية والأساطير الألمانية، تتكرر قصة الشخص المسحور الذي لن ينفك عنه السحر إلا عندما يحبه أو يتزوجه شخص مميز، فكلهم ينتظر عصا سحرية تغير حاله لأنه غير قادر على تغييره بنفسه!

الوحش عندما يلعب دور الجن العاشق!

وقد يدعي "الوحش" أيضًا علاقة زائفة بـ "الجميلة" لإبعاد الراغبين في الزواج منها، فيلعب دورًا أشبه بما يُعرف في المأثور الشعبي العربي وعالم الأساطير العربية باسم "الجن العاشق"! وقد سبق أن رويت في مقال سابق قصة أوردها الأستاذ عبد الوهاب مطاوع في بريد الجمعة بصحيفة "الأهرام" لشاب فاسد أحب فتاة رائعة الخَلق والخُلق، وطلبها للزواج مرارًا، ورُفض من جانبها تكرارًا، ولجأ إلى التشهير بها ليبعد عنها الخاطبين وليجبر أهلها على تزويجها به! وقديمًا فطن العرب في الجاهلية لهذه اللعبة فكان العُرف عندهم ألا يزوجوا المرأة إلى من شبّب بها؛ أي من تغزل فيها في شعره وذكر محاسنها.

والحل بوجه عام بسيط ويتلخص في الالتزام بالأمر القرآني ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى ‏مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾‏ [ الحجرات: 6]، ولكن قل من يتبينوا وكأنهم ليسوا في عداد المؤمنين المخاطبين بالأمر من الله في هذه الآية!

وأعرف قصة أكثر حداثة لتشويه السمعة بغرض الإكراه على الزواج. القصة لامرأة من أسرة طيبة، في أوائل الأربعينات من عمرها، وتسكن في شقة بإيجار قديم في أحد أحياء القاهرة الراقية القديمة، لم تتزوج لأنها كانت في خدمة والدها المسن، ولما مات بقيت تقيم في هذه الشقة وحدها، وكانت هناك قضية أقلقتها لفترة لولا أنها تسكن إلى جوار بعض أولي الفضل من أبناء الأصول الذين ندروا وأجدب منهم المجتمع في السنوات الأخيرة؛ ذلك أن السكان كانوا قد أحضروا بوابًا جديدًا للعمارة ولديه زوجة وابنًا ثلاثينيًا فاشلًا عاطلًا، رأوا هذه المرأة وحيدة في شقة كهذه فطمعوا في تزويجها إلى الابن، ولما ردت المرأة زوجة البواب بتعنيف عندما فهمت قصدها، زيَّن الشيطان لعائلة البواب أن يحاولوا الترصد لها وتشويه سمعتها ظانين أن هذه الأساليب الساذجة تصلح في المجتمعات الراقية، ولتتخيلوا معي كيف أن عامل البقالة يصعد لتسليم الطلبات لتلك المرأة من على باب شقتها، فتتبعه زوجة البواب لتقف تراقب على السلم! ثم تحاول أن تصنع من هذا قصة أمام الجيران، وكما ذكرت آنفًا فإن هؤلاء الجيران لأنهم أبناء أصل وليسوا محدثي نعمة، لم يرضهم ما تفعله زوجة البواب وفهموا غرضها، وكان أن اتفقوا على طرد زوجها من عمله فذهبت معه أسرته. وصدق من قال: "اختر الجار قبل الدار".

وقبيل شهر رمضان المعظم بقليل انقلبت القاهرة لخبر انتحار سيدة بإلقاء نفسها من شرفة منزلها الذي تسكن فيه بمفردها، لأن أحد الأوباش ممن كان يحاول أن ينال منها وفُضح كذبه عنها –كما شهد بذلك بعض جيرانها- داهم شقتها التي كان بابها مفتوحًا محاولًا اصطناع فضيحة لها بينما كان عامل نقل أنابيب البوتاجاز يوصل أنبوبة لبيت السيدة ويهم بأن ينصرف! وكأن لسان حال هؤلاء المرضى إن حق "النتش" مكفول لي، وإن فُضح كذبي فسأضمر لكِ الشر لأنني صرت صغيرًا بسببك وسأنتقم منكِ!

ويعجبني كثيرًا الوصف الذي استخدمه الحق سبحانه وتعالى في الحديث عن حادثة الإفك في سورة النور، فهو يصف النساء البريئات اللاتي تُحاك القصص عنهن من الفُساق بـ ﴿ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ﴾، فهي لم تقترف إثمًا ولم تفعل شيئًا، ويستحيل أن يدور في خلدها أن فاسقًا لعينًا يتقول عليها ويدعي عليها سوءًا، وأن هناك من يلوك ذلك الإفك بلسانه عنها غيرة أو حسدًا أو سفاهة، وهي حقًا غافلة عن كل ذلك! وكم سمعتُ قصصًا من نساء فُضليات قصصنها عليّ بأنفسهن، كان الجزء الأشد وطأة عليهن فيها أنهن اكتشفن أن هناك ممن تتعامل معهم بمنتهى حُسن النية وهم يسيئون إليهن بإدعاء السوء أو بترديد أي كلمة سوء تُقال في حقهن بدلًا من رد غيبتهن، وهم الذين لم يروا منهن إلا خيرًا وإحسانًا.

خاتمة

ولأن الله تعالى أمرنا فقال: ‏﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب ‏بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ ‏رَّحِيمٌ﴾‏ [الحجرات: 12]، وكي لا نسرف في سوء الظن -وإن كان كثيرًا ما يكون من حُسن الفِطن، وبعضه فقط يكون إثمًا-، فينبغي أن نعاود التذكير بأنه أحيانًا ما تكون الفروق في الثقافة سببًا رئيسيًا لسوء الفهم من جانب الرجل أو المرأة. صديقة أعرفها تعمل مع شركات كبرى في دول غربية متقدمة، كانت هناك بعض نقاط في العمل بحاجة لفهمها من أحد زملائها الأجانب، فرحب بشرحها لها أثناء فترة الاستراحة، وذهبت لشراء قهوة لنفسها كعادتها في وقت الاستراحة، ولأننا شرقيون ولا نستطيع أن نأكل ونشرب وحدنا، فقد اشترت كوب قهوة آخر لزميلها الأجنبي الذي تبرع بالشرح لها، ولأنه غربي لا يفهم الكرم الشرقي فقد ظن أنها تظهر اهتمامها به!

والاختلاف الثقافي لا يكون فقط بين المجتمعات المختلفة، ففي كل مجتمع توجد ثقافات فرعية عديدة داخله، والسلوك الذي يعتبره من تربى في بيئة راقية سلوكًا عاديًا يدل على حسن تربية صاحبه، قد يظنه من تربى في ظل ثقافة فرعية أخرى في المجتمع ذاته أنه نوع من الاهتمام الخاص، وقد سبق أن رويت في مقال "العصامي والمتسلق" قصة العامل البسيط الذي يقدم مشروبات في مكتب أحد مديري مصانع الغزل والنسيج بالمحلة، والذي جاملته ابنة المدير طالبة كلية الطب بذوق جبرًا لخاطره، فاعتبر ذلك إعجابًا به، ما شجعه على التقدم لخطبتها من فوره.

وسأبقى أقول إن قلة استخدام أساليب التواصل المباشر بين الناس، والاعتماد بدلًا عنها على قنوات التواصل غير اللفظية هي السبب الرئيسي في سوء الفهم بين البشر، والذي يتسبب بدوره في نسبة كبيرة من مشاكلنا الاجتماعية، سواء عندما يفهم شخص أن شخصًا آخر يهتم به خطأ أو عندما يعتمد الفساق أساليب التواصل غير المباشر للإيحاء والإيهام بـأكاذيب دون التصريح بها، أو عندما يتناقل شرار الناس كل ما يفهمون من التلميحات والإيحاءات، ويسهمون في نشرها، ولا وازع لهم من دين أو عقوبة دنيوية. تكلموا بالتصريح يرحمكم الله.

كما أن شرار الناس يتناقلون كل ما يسمعون، ويتحدثون في أظهر الأخيار من الخلق ويزيدون ويلفقون، وكفى بالمرء كذبًا أن يُحدث بكل ما سمع.

 

د. منى زيتون

الأربعاء 2 يونيو 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم