صحيفة المثقف

صالح الرزوق: صور الميت الحي في الرواية

صالح الرزوقتعود فكرة الميت الميت الحي في الرواية لعدة نسخ وعدة أشكال. لكن أشهرها هي شخصية فرانكنشتاين Frankenshtein لماري شيللي والتي صدرت بطبعتها الأولى عام 1818، ودخلت مباشرة على خط الصراع التقليدي الرومنسي بين مشكلة المعرفة والإيمان. ومن المؤكد أن شيللي لم تقترب من الموضوع السياسي لعصرها، ولذلك بقيت بعيدة عن أي مباشرة اجتماعية، وركزت كل كلامها حول مجموعة ثنائيات أو تقابلات لتطوير الحبكة، ومنها عدم قدرة الإنسان على الحياة بمفرده وضرورة خلق قنوات للتواصل.. إنسانية عامة (أن تكون وسط بيئة حاضنة) وبشرية خاصة (أسرة من امرأة ورجل وأطفال). وهذا هو السبب الحقيقي لتمرد المخلوق المرعب على صانعه وهو الدكتور فكتور فرانكنشتاين.

بالمناسبة هذا الاسم يعود لطبيب جراح شاب اهتم بمشكلة البعث والنشور وبحث عن أسرار الخلود (على طريقة البطل الملحمي الرافديني جلجامش).

لاحقا ظهرت من العمل نسخ معدلة آخرها فرانكستاين  Frankissstein لجانيت ونترسون Jeanette Winterson.  وبها رفعت سقف مطالب مخلوقها الاستثنائي والمرعب، وجعلته نافذة ننظر منها على مجتمع ما بعد - بعد الحداثة. عدا عن تحطيم الشكل التقليدي للحبكة، والتعبير عن الوجود من خلال الفراغ أو بواسطة  تحريض وتنشيط عمل الذاكرة، اختارت أن تضيف إنجازات الصناعية الصغرية في إنتاج المارد، تمهيدا ليواجه أعتى قضايا الألفية الثالثة: مثل الذكاء الصناعي وتبديل الجنس والتمرد على التصور التقليدي للعلاقات بين أفراد المجتمع من جهة والسماء من جهة أخرى. 

ولكن هناك نسخة مزامنة لرؤية شيللي. وهي مثلها تلعب على مسارين: الحب وتلازمه مع الخوف. وأشهر الأمثلة دراكولا لبرام ستوكر التي صدرت عام 1897. وهو مصاص دماء مشهور، ينام نهارا وينشط ليلا. وهذه إشارة واضحة لدراما النور والظلام والصراع الأبدي بينهما كتمثيلات مباشرة عن فكرة الخير والشر. غير أن لدراكولا مضمونا طبقيا، فهو كونت - من طبقة النبلاء. وفقد سلطته بصعود الرأسمالية واندحار الإقطاع. وبما أنه أضعف من أن يعتدي على الطبقة الصاعدة اختار ضحاياه من بين العامة. وتطور دراكولا لاحقا لشخصية زومبي الذي لا يكتفي بدم الضحية بل يستهدف كل شيء فيها.. اللحم والعظم، الأطراف والرأس،  القلب والصدر. باختصار تحول لميت يفرض فلسفته على مجمع الأحياء دون أي شفقة أو رحمة. وباعتقادي هو وريث حركة نهوض أدب الرعب (الأدب القوطي) وليس أدب التشويق (المغامرات والمطاردات الليلية - كما في أشباح والتر سكوت وما يضاهيه)، ويعبر عن مطامع الإمبريالية بالسيطرة والتوسع لدرجة الاستعباد.

وبدمج كل النسخ السابقة وصلت إلى أدبنا العربي صورة مرعبة ومثيرة للشفقة بآن واحد. وتجدها في  (فرانكنشتاين في بغداد) لأحمد السعداوي. وقد صدرت في بيروت عام 2013، وحصدت على الفور تقديرا منقطع النظير. واتفق سوق الرواية العربية والغربية على تتويجها بعدة جوائز لأنها بإجماع الآراء تمثل نقلة نوعية في أسلوب ومضمون رواية ما بعد الاستعمار. وباعتقادي الشخصي إنها عمل وطني يبني على رموز من المخيلة الجماعية. واختار السعداوي لروايته إدارة حبكة مستديرة، وفيها يتعهد الميت التراكمي (المصنوع من ترابط ضحايا مجهولين)  بالانتقام من قاتليه.

2517 قصي عسكرولم تنفرد مغامرة السعداوي بكل المشهد، وفي أدبنا الحديث أمثلة متعددة على شخصية المسخ والقزم والشهيد الذي يستعذب الموت لأسباب متنوعة (انعدام الحرية أو الفقر الأسود إلخ..). وأذكر من هذا النوع: حارس الموتى لجورج يرق (2015)، وآخر من شبه لهم لأديب النحوي (1991) وغيرها. وهي أمثلة أخيولية، بمعنى أنها تتخيل الواقع وتبنيه على أساس الاحتمالات. بلغة مختصرة تدخل في عالم الممكن. وما يبرر لها ذلك أنها تريد التبشير بحياة أفضل، وقد غلب عليها التفكير النضالي والسياسي، ولم تقف عند حدود الأحوال الاجتماعية بعمومياتها.

وأهمها رواية (شيء ما في المستنقع) لقصي الشيخ عسكر (صدرت في دمشق عام 1991)، وتدور فكرتها حول شاب يكتشف في مستنقع قريب من بيته أجزاء تعود لجثة. وبالبحث عن بقية الأجزاء يكتشف أنها جثته.  وغني عن القول إن الحبكة وجودية. فهي تفترض أن الحياة راكدة كمياه المستنقعات، ولا شيء جديد، والإنسان تحول لشيء في مجتمع مجرم وبارد ويفتقد للعواطف الإنسانية. ولا تجد بالرواية فرقا يذكر بين المدينة والمستنقع. كان كلاهما كناية أو مجازا عن حالة موت سريري.

وتتطور هذه الحبكة لاتهام الشاب بالجنون، ومحاكمته، ثم هروبه مستغلا اندلاع حريق هائل يحاصر المدينة.

أكثر ما لفت انتباهي في الأحداث أنها بعيدة عن فكرة فرانكنشتاين. فأجزاء الميت لا تعود للحياة، والشاب لا ينوي على الانتقام. بالعكس حاول الشاب تحذير أبناء مدينته من عواقب الإهمال، وذلك بلغة نبوئية، وبخطاب تبشيري يذكرنا بحالة "نبي" جبران في عمله التنويري المبكر، مع لمحات إضافية من (إنجيل الابن) لنورمان ميلر و(جدار الموت) لسارتر.

ويمكن  أن تقول إن بطل (شيء ما..)  نسخة ضعيفة من مسيح أناني لا يؤمن بدور التضحية في التطهير. وتدعم هذه النقطة عدة لمسات تقريبية. فالابن لا يعرف أباه، ويعيش وحده مع أمه الشبيهة بأيقونات العذراء التي لا يخلو منها جدار كنيسة. وحسب الرواية هي دائما حزينة وساهمة، لا تبدل اتجاه نظراتها. ويعقب الراوي العليم على هذه الصورة بأعلى صوته فيقول: هكذا يجلس الفلاسفة (ص5) وكأنه أراد أن يجعل من هذه الأم البسيطة كائنا فوق الواقع. 

مع ذلك قد لا تكون هناك علاقة مباشرة بين الرواية وما سبقها، ولا سيما نص شيللي أو السعداوي (ناهيك عن نسخة ونترسون). كان فرانكنشتاين صنيعة العقل البشري (الوعي أو العلم في حالة شيلي - والوعي الباطن في حالة السعداوي). وهو بالأساس إعادة تدوير لمبدأ تنويري يعود للقرن التاسع عشر ومضمونه:  لا شيء يأتي من الفراغ، ولا شيء ينتهي للعدم، بل هناك أفكار تغذي التمثيلات، وهي الطبيعة البشرية (الطبع الذي يغلب التطبع عند شيللي) والهوية الوطنية (المضمون الحضاري للمجتمع عند السعداوي).

وقد ذهب السعداوي لما هو أبعد من ذلك حينما وضع للعنف في روايته هدفا نبيلا. وهو انتقام جماعة الضعفاء من واحد أقوى منهم. فمخلوقه من ضحايا المفخخات، وبينهم الفقير والغني. والعبد والسيد. والمؤمن والكافر. واجتمعوا على إرادة واحدة وهي تحرير أنفسهم من قيود المدينة الفاسدة أو الدايستوبيا. وبدواعي الإنصاف يجب أن نعترف أن السعداوي حرر فرانكنشتاين من أفكار شيللي الجاهزة، ووضعه بسياق مبتكر وهو تحرير الإنسان والأرض بنفس الوقت.

ولكن ليس هذا هو مبدأ رواية (شيء ما..). لقد تحركت ضمن إطار واحد بدأ من السأم الوجودي وانتهى به. ولذلك كانت الرموز واضحة ومباشرة وبلا تمثيلات. المستنقع، مثلا، هو طوفان الأخطاء. وسطحه مجرد فاصل رقيق بين الوعي الباطن (لغة الأعماق - الأموات المغمورين بماضيهم ورذائلهم)، والسطح العاكس الذي ترتسم عليه الصور المشوهة كأنها صورة دوريان غراي بطل أوسكار وايلد، المعيار المنظور لمقدار الرذائل التي نرتكبها.

وكان الماء الراكد يدل على أمرين اثنين.

الأول هو كساد الحياة. فقد ترافق صدور الرواية مع فترة كساد مجتمعاني كبير (يعادل الكساد الذي ضرب أمريكا في الخمسينات).  وكنا آنذاك نمر بمرحلة مجتمع ما بعد النكسة وظروف أوسلو ودخول حركة التحرر العربية بموت سريري.

الثاني هو انتشار التفسيرات الذاتية للظواهر على حساب التأويل الموضوعي. وبلغة علمية كان وعي البطل في الرواية  طفوليا يشبه تعرفه على ذاته من خارجها وهو ينظر لصفحة المرآة (حسب بارادايم لاكان).

وحتى لا نحمل الرواية أكثر مما تحتمل أستطيع القول إنها شهادة إنسان أعزل عن فترة مضطربة وحزينة من حياة المنطقة. ولكن هذا لا يعفينا من الإشادة بطموحها الفني. فقد سبق للمرحوم يوسف سامي اليوسف أن اعتبر أنها عمل طليعي تعاقب فيه نوعان: فصل سرد - وفصل حوار في غرفة مغلقة وبالتبادل. وكأنها مسرواية (فن هجين من تداخل المسرح مع السرد).

وأغتنم هذه الفرصة لأذكر أن رواية ماري شيللي كانت سباقة فنيا أيضا. فهي أول رواية فنية بتكنيك الأصوات، وقد تناوب فيها على السرد:

1- شهادة فكتور فرانكنشتاين.

2- وجهة نظر المخلوق المرعب.

3- وأخيرا رسائل القبطان لأخته، وجاءت أشبه بتفسير للفراغات المبهمة التي تخللت الأحداث.

ولم يكن التنقل بين هذه الوحدات السردية ميكانيكيا (فهو عيب فني لم ينج منه حتى نجيب محفوظ معجزة الرواية العربية سواء في "ميرامار" أو "المرايا" حيث كانت الأصوات تتراكم ولا تتطور وتأتي بسياق واحد بسيط وغير مركب). لقد عرفت ماري شيللي كيف تربط وتفصل الأصوات، وكيف توزع حصة كل صوت على الحبكة.  

باعتقادي إن قصي الشيخ عسكر كان يفكر بدايستوبيا وهو يكتب روايته. فقد صور لنا مدينة شريرة تأكل أبناءها. وكانت أشبه بكابوس دائم يجثم على صدره (كما ورد في الفصل الأول - ص 6).

ولم يجد حلا لها بغير ركوب زورقه والهرب. لكن يحسن بنا أن ننتبه هنا لملاحظات عابرة ذات معنى.

أولا المستنقع هو بقايا فيضان أحفوري سابق.

ثانيا الزورق هو رمز لسفينة نوح.

ثالثا وهي أهم نقطة أنه مركب صغير لا يتسع لسوى شخص واحد.

ويعبر عن هذه المشكلة الحوار التالي:

قال الشاب لأمه وهو على متن المركب: هل تركبين معي؟.

قال صانع الزوارق: لكنه صغير ولا يسع لأكثر من واحد.

فردت الأم: عليك أن تنجو بنفسك يا ولدي. الزورق هيأه لك أبوك (ص93).

والتفسير الوحيد لهذه النهاية هو عقدة أوديب مع تبديل في الرموز والأدوار. الأم تتحول لزورق وتحمل ابنها لشاطئ النجاة. والأب يفوز بالأم. لكن بشرط أن يحترق معها في هذا الفرن الكبير، الأتون الذي كان ضروريا لإنقاذ الابن. 

وعموما الإبدال شيء أساسي في الرواية. فالابن الحي -في الرواية - هو الأب الميت أحيانا، والحاكم يتجلى في بعض الأوقات بصورة الأب، والأم يمكن أن تكون ضحية وظالمة (بالتناوب - حسب قانون اللحظة - وهو شيء مختلف عن قانون البنية الثابتة). وبمثل هذا المنطق وظفت الرواية تكنيك الصور عوضا عن أسلوب الأصوات لتغطية الأحداث من عدة زوايا. وهذا فرق جوهري آخر بينها وبين الأسلوب الراديكالي لنسخة شيللي والسعداوي. لجأ الاثنان لبناء شخصيات بذاكرة قوية وواضحة ولكن دون أي تصور عن نهاياتهم.   بينما صور قصي الشيخ عسكر أبطاله دون ذاكرة، وكان يغلب عليهم الالتباس والشك غير أنهم يصنعون قدرهم بأيديهم. وعن ذلك يقول بطل الرواية: كل شيء محسوب حسابه (ص91). وعلينا أن نتصرف لأن البكاء وحده لا ينفع (ص93).

 

د. صالح الرزوق

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم