صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: كارل بوبر

مجدي ابراهيمأحياناً كثيرة يستهوينا الشغف بجلال الشخصيات الكبيرة ذات الأثر المباشر على تقدّم الفكر البشري، فلا نملك إزاءها إلاّ الإعجاب والإكبار، وإلا الأسف الحاضر على غياب القدوة من مفعول النشاط الإنساني العالي. بمُجرد قراءة ترجمتها تفتح أمام الأذهان عوالم أوصدها الواقع المُتخلِّف بكل ما فيه من سقوط وتردي.

ليس أقسى على المرء من أن يرى تردي القيم في واقعنا المعاصر وبخاصّة في مجتمعاتنا العربية من غير أن يأبه أحد بالمشاركة في مسؤولية الضياع الذي نراه أمام أعيننا صباح مساء. أول ما يُلاحظ هو غيبة الإخلاص في التعلم، وتحويل التوجُّه للعلم إلى تحصيل النفع المادي واعتباره وسيلة ارتزاق ليس أكثر. لكن هذه الشخصيات الكبيرة إنْ في القديم وإنْ في الحديث يبرز فيها إعلاء عنصر الوجود الروحي على أي عنصر سواه؛ وفي المجال الذي يخدمه وينتمي إليه صاحبه.

كثيرون فينا هم أولئك الذين ينظرون إلى أمثال هذه الدعوات وإلى أصحابها نظرة نكاية وازدراء، يعدُّونها منفصلة عن حاضراتنا الواقعية، ويعتبرون أصحابها منعزلين عن عصب الحياة؛ إذْ يعيشون بأعمالهم في وادٍ غير وادي الحياة الصاخبة بغريب الأقوال والأفعال، حتى إذا ما برزت أمامهم قيمة عليا لاقوها باستخفاف جانح نحو البهتان. هنالك تصبح كفة التخلف أرجح في ميزان الوجود؛ لتكون ظلمة الغسق في القلوب والعقول أظهر من طاقة النور.

إسقاط القيمة من العمل تعني إسقاط الإنسان، بمقدار ما يسقط فيه من جوانب وجوده الروحي، العاقل المفكر، وليس أهم في الحياة من ارتقاء هذا الجانب فيه، وكل الجوانب الأخرى لا حقة عليه وليست سابقة، من شأنها أن تشكل تقدّمه وقرابته من الكمال الإنساني إذا أوفى حق الوجود الروحي فيه: خدمته وترقيته بصنوف الترقي وتنوع الخبرات عليه.

من هذ الشخصيات المؤثرة كارل ريموند بوبر Karl Raimund Popper" (1902-1994)، فيما نشير إلى جانب من حياته كما وردت بها ترجمته، ذلك الفيلسوف النمساوي المولد، الإنجليزي الوفاة، المولود في (28يوليو 1902م في فيينا - المتوفى في 17سبتمبر 1994في لندن)؛ ولئن كنا نتذكر هذه الشخصية اليوم فهى بلا شك إشارة مقصودة لدينا؛ لأنه من الأهمية بمكان الاطلاع على حياة العباقرة من الفلاسفة الذين لهم تأثير على العقول والعصور، ولأن حياة الفيلسوف جزءٌ لا يتجزأ من فلسفته، كما أنها حياة جديرة بكشف القدوة الحسنة للشباب حين ينظر إلى عظمة تلك الشخصيات العلمية المؤثرة، فيحذو حذوها وينهج طريقها. وفي حياة هذا الفيلسوف نموذج يحتذى من الكفاح والصبر ومعاناة المعرفة في سبيل المعرفة وتقدُّمها، والإخلاص في طلبها.

كان شاعرنا العربي يقول:

والنشء إنْ أهْمَلتُه         طفلاً تعثَّر في الكبر

"وكارل بوبر" لاقى عناية بالغة من الاهتمام البالغ من والديه حتى وصل إلى ذروة المجد العلمي. وكان لآخر يوم في حياته على اعتقاد راسخ بأن تربية النشء والتعليم في كل صورها أقدس مهمة عرفتها البشرية.

لم يكن هذا مجرد كلام؛ بل كان فعلاً تجسّد في حياته العلمية والمعرفيّة. وعلى الرغم من أن أحد مبادئ الإسلام العليا، الاهتمام بالعلم والتعليم والتعلم إلا أننا في ثقافتنا الإسلامية لا نكاد نجد الآن صورة تطبيقية حاضرة لهذه المبادئ نتمثلها واقعاً ونربي شبابنا عليها، فقد سقطت القيم، وبالغنا في اعتقاد التفاهات والسير على دربها، ولم نعد نجد تقديراً للعلماء، ولا للقيم التي ينادوا بها في مجتمعاتهم.

في كتابه "قراءة المستقبل" يتحفنا المرحوم الدكتور مصطفى محمود، بحقائق واقعة في عالمنا المعاصر الذي تعيشه واقعاً مجتمعاتنا العربية، فلا يخلو مجتمع من الآفات التي يذكرها هنا بالتقصي والمُراقبة؛ إذْ سقطت فيه القيم المرجوّة؛ فنحن بحق نعيش زمن القيم الساقطة، نعيش زمن الهدم والتقويض لكل عناصر الإنسانية فينا: "

عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم، واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدِّة علوه، ولكن خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات. وفى كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية فى حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه؛ بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب. لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس.

نسوا بناء الإنسان؛ فبناء الإنسان يأتي قبل بناء كل شيء، وهذا ما يحتاجه شبابنا اليوم، وفي كل يوم؛ بناء الذات الإنسانية العارفة القادرة.

يقول أحد المستشرقين:

إذا أردت أن تهدم حضارة أمة، فهناك وسائل ثلاث:

(1) هدم الأسرة.

(2) هدم التعليم.

(3) إسقاط القدوات والمرجعيات.

لكي تهدم اﻷسرة: عليك بتغييب دور (اﻷم) أجعلها تخجل من وصفها بـ "ربّة بيت". ولكي تهدم التعليم: عليك (بالمعلم) لا تجعل له أهمية في المجتمع، قلل من مكانته حتى يحتقره طلابه. ولكي تسقط القدوات: عليك (بالعلماء) اطعن فيهم، صغّر من شأنهم، شكك في قدراتهم ورسالاتهم حتى لا يُسمع لهم ولا يقتدى بهم أحد؛ فإذا اختفت (اﻷم الواعية)، واختفى (المعلم المخلص)، وسقطت (القدوة والمرجعية)؛ فمن يربي النشء على القيم؟(!. بالطبع، لا أحد! وبالتالي تنهار المجتمعات وتنهار الحضارة من أساسها.

نحن بحاجة ماسّة إلى إعادة النظر في سير العظماء والعلماء ودعاة القيم العليا؛ ليهتدي من خلالها شبابنا كما أهتدى شيوخنا فكانت قيم؛ وليعرفوا أن الحياة قيمة والتخلي عن الكفاح والمعاناة فيها، نقص ومعابة، وأن قيمة المرء تكمن فيما يقدّمه في حياته بين مولده ووفاته من أعمال، وأن الحياة لا قيمة لها بغير العلم وتحصيله وطلبه والمعاناة فيه، وإخلاص النيّة والجهد في طريقه، وانتظار الجزاء من الخالق لا من المخلوقين.

من أجل ذلك؛ نظرنا في حياة "كارل بوبر"؛ لأنها نموذج للعالم الفذ المتفرد الذي يخدم وطنه بالعلم والمعرفة، ويؤمن بتلك القيمة، وسلاحه الإخلاص، ويبذل في تحقيقها أقصى جهد ممكن، ولأنها جديرة لمن يريد بالاقتداء والاهتداء:

ــ فيلسوف (نمساوي- إنجليزي)، متخصص في فلسفة العلوم. عمل مدرساً في كلية لندن للاقتصاد. ويعتبر "كارل پوپر" أحد أهم وأغزر المؤلفين في فلسفة العلم في القرن العشرين، كما كتب بشكل مُوسّع عن الفلسفة الاجتماعية والسياسية. والداه يهوديان بالأصل لكنهما تحولا للديانة المسيحية، إلا أن "بوبر" يصف نفسه (بالاأدري)، أي ليس لديه عقيدة دينية، ولا ينتمي إلى دين معين، غير أنه إنسان.

درس الرياضيات، والتاريخ، وعلم النفس، والفيزياء، والموسيقى، والفلسفة وعلوم التربية. وفي عام 1928م حصل على درجة الدكتوراه في مجال مناهج علم النفس الإدراكي.

تزوج في عام 1930م، وبدأ كتابة أول أعماله، الذي نُشر في صورة مختصرة بعنوان "منطق البحث" 1934م. وفي طبعة كاملة عام 1979م، بعنوان "المشكلتان الرئيسيتان في النظرية المعرفيّة".

وفي عام 1937م، هاجر إلى نيوزيلندا، وقام بالتدريس في عدة جامعات هناك، وألف كتاب "المجتمع المفتوح وأعدائه" 1945م، اكتسب من خلاله شهرة عالمية ككاتب سياسي. أهم سمة تميز أعماله الفلسفية كما يقول النقاد هي: البحث عن معيار صادق للعقلانية العلميّة.

وفيما بين عامي 1949 ـ 1969م عمل أستاذاً للمنطق والمناهج العلمية بجامعة لندن، وحصل في عام 1965م على لقب "سير".

ــ ولد "كارل بوبر"، كما سبقت الإشارة، لأسرة نمساوية، والده حاصل على درجة الدكتوراه، وكذا أخواه، وكان أستاذاً للقانون في جامعة فينا ومحامياً. كان الأب مثقفاً ثقافة رصينة، حتى إننا لا نجد - كما يخبر كارل بوبر نفسه - حجرة واحدة في منزله غير مكتظة بالمراجع الكبرى، وأمهات الكتب الفلسفية وآيات التراث الإنساني باستثناء حجرة المعيشة كانت بدورها مكتظة بمكتبة موسيقية تحوي أعمال باخ وهايدن وموتسارت وبيتهوڤن. ويعتز "بوبر" كثيراً بأنه يمتلك نسخة من طبعة القرن السابع عشر لكتاب لجاليليو، ونسخة من طبعة القرن الثامن عشر لكتاب "إيمانويل كانط" فيلسوفه الألماني الأثير.

وقد كان والده حريصاً على تنشئة ابنه تنشئة علمية فلسفية. ومنذ نعومة أظفار الصبي "كارل بوبر"، ووالده يحفزه على قراءة الكتب الفلسفية الكلاسيكية، ويناقشه في مشاكل اللامتناهي والماهيّة والجوهر. وحينما تعييه حذلقة الصبي -هكذا تقول ترجمته - يعهد به إلى عمه ليستأنف المناقشة. أمّا عن أمه جيني ني شيف، جيني بوبر؛ فهي تنتمي إلى أسرة تسري في دمائها الموهبة الموسيقية.

كانت هي وشقيقاتها - شأن غالبية مواطني ڤيينا عاصمة الألحان وكعبة الموسيقى - عازفات ماهرات على البيانو. أختها الكبرى وأبناؤها الثلاثة عازفون محترفون. وقد لعبت الموسيقى دوراً كبيراً في حياة "بوبر"؛ فهو أيضاً عازف على البيانو؛ ومتذوق عميق لها، وقد ساعد في صقل شخصيته وإرهاف مشاعره. ويذكر "بوبر" في تفصيلات مُسهبة كيف أن الموسيقى الأوروبية البوليفونية كانت مُلهمة له ببعض توجهاته الفكريّة. وليس أغرب من تلاقي العقلانيّة الصارمة في أطواء النفس البشرية بالحس الموسيقي، وليس أدنى من قرابة صلة الشعور بالعقل كيما يكتمل أثر الإنسان في فعله ومسلكه وإبداعه نظراً وبحثاً وإنتاجاً؛ الأمر الذي يثبت معه أن دفعة الشعور القوية طاقة باقية فاعلة، خادمة للعقل ولو كان في صرامته المنطقية العلميّة، وأن الإنسان لن يكون إنساناً وهو بمعزل عن دفعة الشعور وثراء الوجدان.

ولم يسلم "بوبر" الروح إلا بعد أن حقق حلم حياته وقام بتأليف قطعة موسيقية، وهو في التسعين من عمره.

وحينما شبّ عن الطوق - كما تقول الترجمة - ورث عن أبيه العمل الاجتماعي من أجل الأطفال المهملين والأيتام، ولمّا وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها عام 1919-1920م، وهذا العام حاسم في فلسفته، ترك منزل والديه على الرغم من توسلاتهما كي يستقل بنفسه، وكي لا يشكل عبئاً عليهما. فقد أصبح أبوه شيخاً جاوز الستين، فقد كل مدخراته في التضخم المالي الذي استشرى في أعقاب الحرب، وأقام "بوبر" في مبنى قديم لمستشفى عسكري مهجور، عمل بغير أجر في عيادة النفساني "ألفرد آدلر"، وبأجور زهيدة في أعمال أخرى كتدريس أو تدريب طلبة أمريكيين أو كمساعد نجار.

غير أن هذا النجار له شأن خطير في شخصية "بوبر"، ترك في نفسه رد فعل عكسي عنيف حيث كان "بوبر" يراه دائماً يؤكد أنه يعرف كل شيء، يدّعى امتلاك الحقيقة المطلقة، وأنه دائماً على صواب ولا يخطئ أبداً؛ فأصبحت احتمالية الخطأ الكامنة في كل موقف هي جذع الفلسفة البوبرية، القابلية للتكذيب.

لم يكن "بوبر" يدخن أو يحتسي خمراً، كان يأكل قليلاً ويرتدي ثياباً متواضعة. المتعة الوحيدة التي لم يستطع التخلي عنها إذ ذاك هى التردد على حفلات الموسيقى السيمفونية، وكانت التذاكر رخيصة؛ لأنه كان يستمع واقفاً، بخلاف العمل الاجتماعي من أجل الأيتام والموسيقى.

ــ كان اهتمام بوبر الثالث في يفاعته هو الفلسفات السياسية اليسارية. أمضى إبّان مراهقته ثلاثة أشهر ماركسياً، لكنه انقلب بحماسة إلى الاشتراكية الديموقراطية، وأصبح في النهاية داعية إلى ما يمكن أن تسميته: ليبرالية معدلة، ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين، التي اقترنت باسم "بوبر".

ــ ألتحق بوبر بجامعة ڤيينا العام 1918م، حضر مختلف المحاضرات: تاريخ الموسيقى والأدب وعلم النفس والفيزياء؛ بل حتى العلوم الطبية. وسرعان ما ترك هذا، وقصر حضوره على محاضرات الفيزياء النظريّة والرياضة البحتة؛ إذ كان يرى تلك المحاضرات (رائعة بحق).

وفي العام 1922م قيد طالباً منتظماً بالجامعة؛ فأمضى عاماً للحصول على إجازة للعمل في المدارس الابتدائية؛ حصل عليها إبّان عمله كنجار؛ وواصل دراساته حتى حصل على إجازة التدريس في المدارس الثانوية. ظل "بوبر" لآخر يوم في حياته على اعتقاد راسخ بإعلاء الثقة في تربية النشء، والتشديد على ضرورة التعليم كونه مهمة مُقدَّسة ليس للبشرية رقي ولا تقدم بدونها. وتلك هى أقدس قيمة لرجل ملأه الإخلاص لبني الإنسان.

ثم حصل على إجازته تلك من معهد تربوي أنشئ حديثاً، وفيه تعرف "بوبر" على محبوبته التي أصبحت زوجته حتى آخر العمر.

وما فتئ "بوبر" في كل موضع ينوه بفضلها وفضل حبها العظيم عليه، وبعد تخرجه أستأنف دراساته حتى حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ڤيينا العام 1932م.

أمّا كتابه "منطق الكشف العلمي"؛ فهو يعتبر علامة فتح جديد في مجال المعرفة العلمية مع أن له ثلاثة وثلاثين كتاباً في هذا المجال؛ وقد ترجمه الدكتور ماهر عبد القادر في جزئيين إلى اللغة العربية.

 

د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم