صحيفة المثقف

محمود محمد علي: سيف الدين الآمدي.. مُنظر الثقافة المنطقية في الفكر الأشعري (1)

محمود محمد عليسيف الدين الآمدي (551 هـ - 631 هـ) هو سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم بن محمد العلامة الآمدي التغلبي الحنبلي ثم الشافعي. فقيه أصولي وباحث. ولد في آمد من ديار بكر ونُسب إليها، وقرأ بها القراءات على الشيخ محمد الصفار، وعمار الآمدي. وحفظ " الهداية " في مذهب أحمد بن حنبل. ونزل بغداد وهو شاب وقرأ القراءات بها على ابن عبيدة. وتفقّه على أبي الفتح ابن المني الحنبلي، وسمع من أبي الفتح بن شاتيل. ثم انتقل شافعيا وصحب أبا القاسم بن فضلان، واشتغل عليه في الخلاف، وبرع فيه. وانتقل إلى القاهرة، فدرّس فيها واشتهر. وحسده بعض الفقهاء فتعصبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة والتعطيل ومذهب الفلاسفة، فخرج مستخفيا إلى حماة ومنها إلى دمشق فتوفي بها.

ويعد الإمام سيف الدين الآمدي، من كبار الأشاعرة المبرزين في الفقه الشافعي والمنطق معا بعد الرازي. ويمكن أن يتجه مقالنا هنا لبيان هذا الجانب إلي ناحيتين: الأولي دراسة سيف الدين الآمدي للمنطق ذاته كعلم وتأليفه فيه ونظرته إليه .والثانية: أثر المنطق في تفكيره عامة وتفكيره الفقهي علي الأخص، ويمكن توضيح ذلك فيما يلي:

1- الثقافة المنطقية لسيف الدين الآمدي:

من  حيث صلة سيف الدين الآمدي بالمنطق كعلم نظري، تقدم أنه درسه علي يد الشيخ " ابن المني (ت: 583هـ)"، ويقال أنه أخذ عنه وأجاد عليه علوم الجدل والمناظرة .

وبعد فترة من إقامته ببغداد توثقت صلته بسيخ الشافعية فيها: وهو جمال الدين أبو القاسم يحيي ابن الفضل المعروف بابن فضلان، وكان عالما في الفقه الشافعي، وفي علوم الجدل والمناظرة وأصول الفقه والكلام والمنطق ".

ويعتبر ابن فضلان من أبرز شيوخ الآمدي وأقواهم تاثيراً فيه، فقد تفقه به في المذهب الشافعي، وترك المذهب الحنبلي، وأـقن عليه الجدل وبرع في النظر والخلاف والمنطق .

وتلك الجوانب التي عرفها ابن بطلان، وهي التي ازدهرت فيما بعد في شخصية الآمدي وغلبت عليه طوال حياته .

وعندما أردا الآمدي أن يستكمل ثقافته العقلية، اتصل بأحد النصاري المشتغلين بالفلسفة في دير لهم ببغداد وتلقي عليه دروسا .

ثم عندما اعتنق المذهب الأشعري ازداد تمكن الآمدي بالمنطق وقواعده، وتبيين خفاياه بما قد لقح من محصوله النظري فيه بتطبيقات عملية أثناء دراسته علي كتب الغزالي والفخر الرازي، وخاصة تلك الكتب التي امتزج فيها المنطق بالمسائل الفقهية .

ولما انتصب الآمدي للتدريس في دمشق وحلب ومصر، فألف في المنطق "دقائق الحقائق في المنطق " وشذرات منطقية واسعة أودعها في بطون كتاباته الكلامية والفقهية.

وقد عرض فيها مسائل المنطق علي طريقة المختصرات التي آل إليها التأليف في العلوم في ذلك العهد . فأبتدأ بقسم التصور، فقرر مبحث الألفاظ، من حيث الدلالة وأنواعها، ثم المعاني المفردة، ثم الجزئي والكلي، ثم التعريف وانواعها . ثم انتقل إلي قسم التصديق، فبحث القضية وأنواعها، واورد بعد ذلك أحكامها من تناقض،وعكس وتلازم، وانتهي إلي القياس وأنواعه ولواحقه .

وقد سلك في تحرير هذا مسلك الإيجاز الذي يبلغ إلي حد التلميح أحياناً، وذلك في أسلوب توخي فيه إيراد أقوال المناطقة السابقين عليه، أمثال ابن سينا والغزالي والرازي.

2- وإذا كان سيف الدين الآمدي قد خبر المنطق وعلمه وألف فيه، فإننا نتساءل: هل كان تاثر به في الفقه، وفي تقريراته وتخريجاته الفقهية علي الأخص؟

والإجابة علي هذا السؤال تتمثل في جانبين: الجانب التصوري، والجانب الاستنباطي .

يمكن أن نبحث في فقه الآمدي، من حيث علاقته بالمنطق، وذلك من خلال الجانب التصوري للمصطلحات الفقهية، من حيث تعريفاتها، وبيان حقائقها .. ويمكن أن نتلمس تلك العلاقة في كتاين: احدهما: الإحكام في أصول الأحكام " وثانيهما: غاية المرام في علم الكلام ".

ففي هذين الكتابين: نجد أن الآمدي يعمد في رأس كل مسألة فقهية إلي التعريف المقصود، وإذا اتجهنا إلي التعاريف ذاتها لنتأكد من هذا المعني بدراسة بنيتها، فأول ما نلاحظه أن الآمدي يراعي مقولة المعرف، فيصدر التعريف بلفظ يناسب تلك المقولة ويدل عليها، مثال ذلك: تعريف الآمدي للأحكام الشرعية، وهو تعريف لا يختلف كثيرا من تعريف الأشاعرة السابقين عليه، وخاصة فخر الدين الرازي، ويتمثل هذا التعريف في قول الآمدي:" أن الأحكام الشرعية هي خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، وهي تنقسم إلي واجب ومندوب ومباح ومكروه، فأما الواجب فهو ما يستحق تاركه العقاب علي تركه، وأما المندوب، فهو ما يمنع علي فعله ولا يذم علي تركه، وأما المباح فهو ما دل الدليل السمعي علي خطاب الشارع بالتخيير فيه الفعل والترك من غير بدل . وأما المكروه فهو ما نهي عنه نهي تنزيه لا تحريم كالصلاة .

فإذا كان المعرف مثلاً من مقولة الكيف أو النسبة صدر التعريف بمثل عبارة " صفة حكمية"، كما عرف التواتر بانه" صفة حكمية تعني الخبر المفيد للعلم اليقيني بمخبره"، ما عرف أيضاً حقيقة أخبار الآحاد بقوله " صفة حكمية تفيد ما كان من الأخبار غير منته إلي حد التواتر . وهو منقسم إلي مالا يفيد أصلاً، وهو ما تقابلت فيه الاحتمالات علي السواء، وإلي ما يفيد الظن، وهو: ترجيح أحد الاحتمالين الممكنين علي الآخر في النفس من غير قطع . فإن نقله جماعة تزيد علي الثلاثة والأربعة سمي مستفيضاً مشهوراً .

أما إذا كان المعرف من مقولة الفعل صدر بمثل عبارة " طلب فعل"، كما عرف الأمر بقوله " ذهب بعض الفقهاء إلي أن الأمر، هو طلب لفعل علي وجه يعد فاعله مطيعاً . وهذا باطل لما فيه من تعريف الأمر بالطاعة المتعلقة بالفعل لا تعريف إلا بموافقة الأمر، وهو دور ممتنع . وكيف وأن فعل الرب تعالي لما طلبه العبد منه بالسؤال بقال له باعتبار موافقة طلب للعبد مطيعاً . بدليل قوله عليه السلام " إن أطعت الله أطاعك" أي إن فعلت ما أراد فعل ما تريد، وليس طلب العبد من الله تعالي بجهة السؤال لله أمرا، إذ الأمر لله قبيح شرعاً، بخلاف السؤال . ويمكن الاحتراز عنه بما يعد فاعله مطيعا في العرف العام ن والبارئ تعالي ليس كذلك . والأقرب في ذلك إنما هو القول الجاري علي قاعدة الصحاب، وهو أن يقال: " الأمر طلب الفل علي جهة الاستعلاء" .

ثم إننا كثيرا ما نجد الآمدي يشير في التعريف إلي أنه من باب الحدود والرسوم، ويبدو ذلك واضحا في مناقشته لمسألة الأحوال، حيث يقول " ذهب أبو هاشم إلي القول بإثبا الأحوال، ووافقه علي ذلك جماعة من المعتزلة والكرامية، وجماعة من أصحابنا كالقاضي أبو بكر الباقلاني والإمام أبو المعالي الجويني ونفاها من عدا هؤلاء من المتكلمين ".

وقبل النظر في تحقيق مذهب كل فريق يجب أن نعرف الحال ومعناها ليكون التوارد بالنفي والإثبات علي مجرد واحد، من جهة واحدة، ثم التعريف بماذا . قال بعض المتكلمين: ليس إلا بذكر أقسامها ومراتبها، ولا بالحد والرسم، إذ الحد والرسم لابد أن يكون متناولاً لجميع مجاري الأحوال، وإلا فهو أخص منها، والحد والرسم يجب أن يكونا مساويين للمحدود لا أخص منه ولا أعم، وألا يفضي إلي ثبوت الحال للحال، من جهة أن الحد لا يتناولها إلا وقد اشتركت كلها في معني واحد، وكل ما وقع به الاشتراك والاقتراف من الذوات والمعاني فهو حال زائده عليها . لكن هذا القائل إما أن يفرق بين ما به تتفق الذوات وتفترق، وبين ما به تتفق الأحوال وتفترق علي ما يقوله القائل بالأحوال، فإن عنده الذوات هي التي تتفق وتفترق بالأحوال، أما اتفاق الأحول ليس إلا بذواتها كما يأتي، أو أنه لا يتعرف بالفرق، فإن، اعترف فلا اتجاه لما ذكره، وإن لم يعترف بالفرق، فليس ما أبطله بأولي مما عينه، فإنه كما يتعذر التعريف بالحد، لما فيه من إثبات الحال للحال . وكذا يمتنع التعريف بما ذكره، إذ في ضرورة الاعتراف بالانقسام وقوع ما به الانقسام، وإن ما أشار إليه أشعر بجهل صناعة الحدود والرسوم . وذلك أن ما ذكروه، وإن إتجه في الحدود التي لا يستعمل فيها غير الذاتيات، فهو غير متجه في الرسوم من جهة أن المقصود من الرسم ليس إلا تمييز اشئ عما عداه تمييز غير ذاتي.

يتضح لنا فيما سبق أن الإمام سيف الدين الآمدي كان علي هذا المستوي التصوري، قد تأثر بالمنطق في تقريره لتصوراته للحقائق الفقهية، من حيث قد جري علي قواعده في تحرير الرسوم والحدو . وقد تأثر في هذا بسابقيه، وبخاصة الفخر الرزي . غير أن الآمدي يغلب عليه في تعريفاته الفقهية الأخذ بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل، وإن لم يكن يحتفي بالإكثار من الحجج والأدلة بنفس درجة احتفاء الرازي بها، ولذلك اختلفت طرائقهما في عرض المنهج الفقهي بين التحقيق والحجاج .. وللحديث بقية..

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم