صحيفة المثقف

عمار عبد الكريم: الحب وثقافة الاعتذار

عمار عبدالكريم البغداديمن وحي شهريار وشهرزاد (10)

قالت شهرزاد: هل تعتقد أن الإعتذار يخفف من آثر الصدمة حينما نخطئ بحق من نحب؟ 

شهريار: بكل تاكيد فالإعتذار الصادق من إطلاقات المحبة التي تتعامل مع الجراح بقدرة عجيبة، إنه أول جرعة لتسكين الألم تمنع خطرالجفاف عن نهر المودة .

وأجد أنّ الناس في صفة الإعتذار ثلاث، أولهم الطيبون الحريصون على دوام المحبة،وأولئك أفضلهم وأكثرهم صدقا، هم الذين إذا اعتذروا غمروا قلوب الناس بأرق العبارات وأكثرها عمقا، وهم يدركون أحقية من أخطأوا بحقه بنيل أعظم إحترام كما تعرض لأشد عبارات التنكيل،او الأفعال الجارحة،ولو بنظرة إزدراء في لحظة غضب، هم من يقول أحدهم: أعتذر لك من أعماق قلبي فانا مخطئ، لم يكن من حقي قول كذا او فعل كذا لقد أسأت إليك .. أعترف بذنبي فاقبل اعتذاري وسامحني، وكلما كانت إساءتهم في وسط جمع من الناس، حرصوا على الإعتذار في جمع مثله، وأنهم ليبذلون الغالي والنفيس،ويتذللون بهامات منحنية في وضعها، عالية بطبعها لقبول إعتذارهم،وإرضاء أحبابهم من العوام والخواص.

أمّا الصنف الثاني فهم المراؤون الذين يخافون من فقدان منصب، او ضياع مصلحة، وهم لا يحملون مشاعر الإعتذار بين كلماتهم وتملأ وجوههم علامات الاضطراب، وتتدفق من ملامحهم عبارات الإستهجان لاعتذارهم الهش،هم الذين لا يمتلكون حكمة الصبر، ويتذمرون من عدم قبول إعتذارهم من الوهلة الاولى، إنهم بكل بساطة لا يحملون مشاعر المحبة  ليغدقوا بعبارات الإعتذار الصادق .

أمّا الصنف الثالث فمجبر على الإعتذار بعد ملامة الجميع، والمصيبة كل المصيبة أنهم لا يعترفون في قرارة أنفسهم بالخطا، تلك (الأنا) المتعالية المتكبرة تمنعهم من الإعتراف بالذنب، وتزيد من مرارة الإعتذار في قلوبهم، والأهون على أحدهم  الموت من أن يقول: أعتذر أنا مخطئ  بحقك،  وهؤلاء أسرع إنفعالا واضطرابا من الصنف الثاني،والمتفحص لأحدهم في تلك اللحظات يجد علامات الكراهية طاغية على ملامحهم، ويود أحدهم أن ينهال بالضرب على من جاء يعتذر منه مجبرا،وجوههم مصفرّة، وأوداجهم منتفخة، ونظراتهم محلقة كأنهم يودعون أرواحهم في لحظات النزع .

 إننا لندرك صدق الإعتذار من نبرات الصوت قبل الكلمات، ومن علامات الندامة قبل  الإبتسامة، ومن تواضع الطلّة قبل تبرير العلّة .

ومع هذا كله فإنني لا اريد أن أرمي بالثقل كله على المخطئ، وأتناسى أن من بين الناس من لا يتقبل الإعتذار وإنْ بذلنا كل جهد صادق لتحقيق ذلك، والذين لا يقبلون الإعتذار الصادق صنفان، الأول إنسان لم تجد المحبة الى قلبه سبيلا، فهو  قاسي القلب تصدت نفسه المتعالية  لإطلاقات المحبة على مدى سنوات، وهو ذاته الصنف الثالث من المعتذرين من ذوي النفوس المتجبرة التي تجد الأعتذار ضعفا غير مبرر يشعرهم بالحرج حينما يعتذرون مجبرين كما ذكرنا آنفا، وهم في الوقت ذاته يرفضون تقبل الإعتذار الصادق لأنهم ينظرون الى صاحبه نظرة دونية، تلك (الأنا المتعالية) توهم صاحبها بانه فوق الكل، وأن المساس بعرشه الواهن بقصد او بغيرهِ خطأ لا يمكن قبول الاعتذار عنه .

وأمّا الصنف الثاني، فذلك الذي كثرت أخطاؤنا في حقه بينما شحت إطلاقات المحبة نحو قلبه، حتى جف نهرها، ومهما كان صدق الإعتذار من هؤلاء فانهم لا يجدون سببا عقليا او التماسا نفسيا لقبوله، فان كثرةَ الطرق تفصم عُقد اللحام كما يقولون، فما بالك يا شهرزاد ونحن نطرق بقساوة تلو قساوة على قلوب أحبَتْنا وأنبتتْ شجرة طيبة تحمل ورود المواقف الجميلة،والدعم والأمانة، والاحترام والثقة المتبادلة، لكنها ذبلت حين انقطعت عنها مياه المحبة، وصارت قاسية بلا روح، وحينها لن يكون للاعتذار إلا فعل المسمار في أخشاب صماء .

نحن نعتذر لنداوي الجراح فان زاد قيحها بضربات متلاحقة صار علاجها مستحيلا، كما إننا نعتذر ابتداءً لنعترف بأن فعلنا، أو قولنا كان جارحا، ولايمت الى المحبة وأحوالها بصلة، ولناخذ على أنفسنا عهدا بالإبتعاد عن مثيلاتها، فإنْ صارت إعتذاراتنا أكثر وأكثر فذلك مؤشر على ضياع المحبة في قلوبنا، وهو مايدركه  المتعرض لقساوتنا المتكررة فلا يقبل الإعتذار .

 

بقلم : عمار عبد الكريم البغدادي

......................

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم