صحيفة المثقف

محمود محمد علي: النزعة الأشعرية في فكر الشيخ الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي (1)

محمود محمد علييحتل تجديد الخطاب الديني الإسلامي مكانة بارزة في الفكر الأشعري، فقد تناولوه بالبحث والدراسة واستخدموه كمنهج للتفكير في بعض المشكلات والمسائل الدينية، ولقد واكب ظهور الإمام "أبي الحسن الأشعري" (ت: 324هـ) علي مسرح الدراسات الكلامية تطوراً هائلاً في المنهج الذي كانت تستخدمه المعتزلة، وهو المنهج الذي اعتمد في جانب كبير منه علي العقل؛ من حيث أنهم استخدموا بعض الأقيسة والإلزامات وعمدوا كثيراً إلي ضرب الأمثال واستخلاص الأحكام من المعاني المتضمنة في النصوص (1).

غير أن الإمام الأشعري؛ قد جعل هذا المنهج أكثر إحكاماً ودقة بمحاولته الاستفادة مما ورد في الفقه الشافعي؛ ويشهد كتاب الإبانة عن أصول الديانة بمقدار تأثر الإمام الأشعري بهذا الفقه؛ علاوة علي أن جمهرة من العلماء اعتمدوه ونصروه، وخاصة فقهاء الشافعية، والمالكية المتأخرين، والأعلام الذين تبنوه من أمثال: الباقلاني (338 هـ - 402 هـ)، وابن فورك (ت. 406هـ/1015م)، والبيهقي (458 هـ -384هـ)، والإسفراييني (ت. 418 هـ)، والشيرازي (393 هـ -476 هـ)، والجويني (419 هـ - 478 هـ)، والبغدادي (392-463 هـ)، والغزالي (ت: 505هـ)، والفخر الرازي (ت: 606هـ)،، و سيف الدين الآمدي (551 هـ - 631 هـ)، والعز ابن عبدالسلام (577هـ- 660هـ)، عضد الدين الإيجي (680 هـ -746 هـ)، وتاج الدين السبكي (727 هـ - 771 هـ)، وغيرهم كثير، وتخرج على أيديهم عدد كبير من التلاميذ (2).

وهؤلاء جميعا أجمعوا علي أن تجديد الخطاب الديني الإسلامي يقوم علي فكرة أساسية وهي الوعي والفهم للإسلام من ينابيعه الصافية، بحيث يفهم فهمًا سليمًا خالصًا من الشوائب، بعيدًا عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ونحن في حاجة ماسة إلى رجال يحسنون عرض الفكر الإسلامي ويصيغونه صياغة جيدة، تنقي الفكر من الخرافة، والعقيدة من الشرك، والعبادة من البدع والأهواء، والأخلاق من التحلل والانهيار.. رجال يتبنون كل تجديد مشروع يجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، ويدعو إلى الانفتاح على العالم دون الذوبان فيه، منهجهم الثبات على الأهداف، والمرونة في الوسائل، والتجديد في فهم الأصول، والتيسير في الفروع. وأمتنا الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى من يجدد لها إيمانها، ويحدد معالم شخصيتها، ويعمل جاهدًا لإيجاد جيل مسلم يقوم في عالم اليوم بما قام به الجيل الأول قي صدر الإسلام (3).

ويعد الدكتور "محمد سعيد رمضان البوطي"، واحداً من أشهر العلماء والمشايخ الأشعريين المعاصرين في سوريا في العقود الثلاثة الأخيرة من السنين، فهو متخصص في العلوم الإسلامية، ومن المرجعيات الدينية الهامة على مستوى العالم الإسلامي، وهو عالم عصري مجدّد، ورع مخلص، سليم الطوية، حسن النية والمقصد، غيور على شرع الله والأخلاق الإسلامية، جرئ في الحق، ملأ حياته وحياة الناس بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، والحكمة النافعة بالكتاب والسنة النبوية، متبع للسلف الصالح، محذر من البدع، وداعية إسلامي متفوق في كل ميدان، اختارته جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في دورتها الثامنة عام 2004 ليكون "شخصية العالم الإسلامي"، باعتباره "شخصيةً جمعت تحقيقَ العلماء وشهرةَ الأعلام، وصاحبَ فكرٍ موسوعيّ"، واختاره المركز الإسلامي الملكي للدراسات الإستراتيجية في الأردن في المركز 27 ضمن قائمة أكثر 500 شخصية إسلامية تأثيرًا في العالم لعام 2012 (4)، ويُعد ممن يمثلون التوجه المحافظ على مذاهب أهل السنة الأربعة وعقيدة أهل السنة وفق منهج الأشاعرة.

وقد شغل "البوطي" عدّة مناصب أكاديمية في حياته، فبعد حصوله على الشهادة من جامعة الأزهر عُيّن مُعيدًا في كلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1960م، ثمّ أُوفد إلى كلية الشريعة من جامعة الأزهر للحصول على الدكتوراه في أصول الشريعة الإسلامية وحصل على هذه الشهادة عام 1965م، وفي نفس العام عُين مدرسًا في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ثم أصبح أستاذًا مساعدًا، فأستاذًا، ثم في عام 1975م عُيّن وكيلًا لكلية الشريعة فيها، ثم في عام 1977م عُيّن عميدًا لها، ثم رئيسًا لقسم "العقائد والأديان".

وقد اشترك في مؤتمرات وندوات عالمية كثيرة تتناول مختلف وجوه الثقافة الإسلامية في عدد من الدول العربية والإسلامية والأوربية والأمريكية. وقد كان عضو في المجلس الأعلى لأكاديمية أكسفورد في إنجلترا. كتب في عدد من الصحف والمجلات في موضوعات إسلامية وقضايا مستجدة ومنها ردود على كثير من الأسئلة التي يتلقاها والتي تتعلق بفتاوى أو مشورات تهم الناس وتشارك في حل مشاكلهم (5).

ولذلك عُدّ "البوطي" من أهمّ من دافع عن عقيدتهم في وجه الآراء السلفية، وقد ألف في الموضوع كُتُباً مثل: "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي"، و"اللا مذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية". كما ويُعد البوطي من علماء الدين السنة المتخصصين في العقائد والردّ على الفلسفات المادية وقد ألف كُتُباً عنها، مثل: "أوروبا من التقنية إلى الروحانية، مشكلة الجسر المقطوع"، و"نقض أوهام المادية الجدلية"، هاجم فيه الفكر الشيوعي والإلحادي (6).  ولذلك كان "البوطي" شخصية فكرية علمية لها وزنها في المجتمع السوري، وثقلها الشعبي في سوريا يوازي ثقل الشيخ "محمد متولي الشعراوي" في مصر على فارق بينهما، ولا يمل السوريون من الفخر به في كل مجلس ومحفل، ولا يقبلون النقد فيه، بسبب أسره لهم بأحاديثه في الإذاعة والتلفزة السورية، وهو صاحب بلاغة وفصاحة آسرة إذا تحدث، وصاحب قلم رشيق مؤثر إذا كتب، وكتابه (فقه السيرة النبوية) الشهير تربت عليه كل الحركات الإسلامية المعاصرة.

ترك "البوطي" أكثر من ستين كتاباً في علوم الشريعة، والآداب، والتصوف، والفلسفة، والاجتماع، ومشكلات الحضارة، كان لها أثرٌ كبيرٌ على مستوى العالم الإسلامي؛ وتميّزت كتاباته بأنه لم يقف فيها موقف المدافع الضعيف، بل واجه الغربيين بتسفيه أفكارهم وإبراز الدلائل العلمية على تهافتها، لا سيما تلك التي تتناول حقائق الإسلام، وملتزماً خلال ذلك جانب الدقة والحيطة في كل ما يكتبه أو يقوله.

كما يعد "البوطي" من كبار المهتمين بالعقائد والفلسفات المادية، وقد كانت رسالته في الدكتوراه في نقد المادية الجدلية؛ وهو من الناحية الفقهية يعد مدافعًا عنيدًا عن الفقه الإسلامي المذهبي التقليدي والعقيدة الأشعرية في وجه الآراء السلفية. وله في ذلك كتب، ولم تكن علاقته أيضًا بجماعة الإخوان المسلمين في سوريا جيدة، وكان أبدًا من نابذي التوجهات السياسية والعنف الجهادي، وقد تسبّب ظهور كتابه "الجهاد في الإسلام" عام 1993م في إعادة الجدل القائم بينه وبين بعض التوجهات الإسلامية (7).

وقد استشهد "البوطي" يوم الخميس 21 مارس من عام 2013، وذلك أثناء إعطائه درسًا دينيًا في مسجد الإيمان بحي المزرعة في دمشق، فبحسب الرواية الرسمية، فإن تفجيرًا انتحاريًا قد أودى بحياة البوطي و42 شخصًا من بينهم حفيده، بالإضافة إلى إصابة 84 آخرين بجروح (8).

وقد شُيّع جثمان "البوطي" يوم السبت 23 مارس 2013 من منزله في دمشق، وصُلّي عليه في المسجد الأموي، ثم دُفن بجانب قبر صلاح الدين الأيوبي المحاذي لقلعة دمشق قُرب المسجد الأموي. وقد حضر الجنازة ممثلون من إيران ولبنان والأردن، كما أعلن يومَ السبت الموافق 23 مارس لسنة 2013 يومَ حداد عام في سوريا على الشيخ البوطي ومن سقط معه (9).. وللحديث بقية..

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

الهوامش

1- د. محمود محمد علي: العلاقة بين المنطق والفقه عند مفكري الإسلام (قراءة في الفكر الأشعري) ط1، عين للدراسات والبحوث الإٌنسانية والاجتماعية، القاهرة، 2000م، ص 9-10.

2- فيضل بن فزار الجاسم: الأشاعرة في ميزان أهل السنة، المبرة الخيرية لعلوم القرآن والسنة، الكويت، ط1، 2007، ص 111-119.

3-أنظر: برنامج مع البوطي في قضايا الساعة عبر اليوتيوب، إعداد جمال الجيش، قناة نور الشام.

4- المرجع نفسه.

5- مناف الحمد: محمد سعيد رمضان البوطي (فكر إطلاقي وبراغماتية متطرفة)، نشر بتاريخ- 19 أكتوبر 2020.

6- أنظر: نبذة عن حياة العلامة الأمام الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي، موقع نسيم الشام: www.naseemalsham.com

7- أنظر: معالم مدرسة البوطي، لقاء مع محمد توفيق البوطي، قناة الميادين.

8- أنظر: من قتل الشيخ محمد سعيد البوطي؟، قناة الميادين، وقد أُذيع بتاريخ 27-3-2013.

9- المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم