صحيفة المثقف

عصمت نصار: الجابري والقرآن ورحلة الرجوع (2)

عصمت نصاريعتقد بعض المثقفين أن مصطلح "التهافت" الذي وصفنا به مشروع الجابري يعدُّ شكلاً من أشكال القدح والذم. غير أن الحقيقة دون ذلك؛ فالخطابات التي تفتقر إلى الحيدة والموضوعية والصدق في السرد توصف بالخطابات المتهافتة.

وكذا المشروعات المزعومة التي تعوزها النسقية في البنية والتماسك في البناء والإصلاح العملي في المقصد، أضف إلى ذلك تلك الموسومة بالمعارف الظنية والمعلومات المنقولة من مصادر باطلة وأكاذيب مغرضة وسياقتها مضطربة وحواراتها شاغلة بالمتناقضات وانتقاداتها ذاتية لا سند يبررها من الواقع أو العقل. ولا يعني ذلك أن كل رأي مخالف للمألوف والسائد والموروث والوافد المستحدث يمكن وصفه بالتهافت، وذلك لأن له من حُجة التبرير ما يمكنه من التناظر والتثاقف والتحاور مع المخالفين.

ولعلّ ما أوردناه من أقوال "الجابري" يبرر الوصف الذي اطلقناه على مشروعه المزعوم. فمن ذا الذي يصدق أن الجابري كان يجمع في سياق واحد بين خطاب الإصلاح العربي الذي انتجه الاتجاه المحافظ المستنير واجتراءات وأباطيل غلاة المستشرقين في قراءته النقدية للتراث العربي الإسلامي والقرآن والسيرة النبوية من جهة، وخطته في معالجة الواقع السيء الذي تعيشه أمتنا العربية الإسلامية في القرن الحادي والعشرين من جهة أخرى.

ومن ذا الذي يقتنع أن بعض أرائه الجانحة كان يدفعه إليها عصبة من الرفقاء حرصاً على شهرته بين المثقفين العرب، وطمعاً في اهتمام الدوائر البحثية الغربية بكتاباته ومشروعه. وإليك بعد الأمثلة:

فقد بيّن مفكرنا أن هدفه من تحكيم العقل المعاصر في التراث هو انتخاب النافع من الأصيل والطريف من كتابات الأقدمين دون أدنى تحرّج من استبعاد غير الصالح من العادات والتقاليد والنظم والآداب والحواشي المُلحقة بالتراث الفقهي أو التفسيرات الموجهة من قبل الساسة. والتراث المنشود هو الذي ينطلق من وعي الأنا بحقيقتها لأنها الأقدر على فهم الواقع المُراد تغييره وفهم الماضي بملابساته وواقعاته وثوابته ومتغيراته.

أما اذا حدث العكس، أي قراءة التراث بعيون الأغيار؛ فإنه يُفضي إلى تزييف وعي الأنا وتبديد الفكر الموروث وذلك في كتابه (التراث والحداثة) عام 1991م. ثم نجده يصرح بأن مقصده من نقد التراث وإحيائه هو الكفر بعبادة الموروث وجحد منطق الرجعية، والتقليد، وعرض الوافد من أراء القدماء، والقادم من أفكار الغرباء، ونظم وعوائد الأغيار على مائدة التثاقف العقلي الذي لا ينتصر إلا إلى ما يقبله الوعي والمصلحة المنزهة عن الهوى والغرض الشخصي وذلك في كتابه (المسألة الثقافية في الوطن العربي) عام 1994م.

أمّا عن موقفه من كتب التفاسير فقد أصبح موقفاً نقدياً أقرب إلى الموضوعية منه إلى الراديكالية والتفكيكية؛ إذ ذهب إلى أن كتب التفسير قديمها وحديثها لا يخلو بعضها من الطابع الأيديولوجي لذا لا ينبغي التعويل عليها وحدها في فهم النص القرآني؛ بل الأجدى هو الاعتماد على التفسيرات اللغوية والتأويلات العقلية الموافقة لصريح الدلالة اللفظية من جهة، والمقاصد الشرعية للنص من جهة أخرى. ويعني ذلك أن الجابري قد انتصر لمفهوم التأويل الشرعي ورغب تماماً عن المنهج التفكيكي أو التأويلات المعاصرة التي لا تفرّق بين طبائع النصوص ومكنوناتها. وقد نصح بضرورة قراءة تفسير (جامع البيان في تفسير القرآن) للطبري (225-310هـ) وتفسير (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) للزمخشري (467-538هـ), ويقول في ذلك : (إن الأمر يتعلق هنا أساساً بعزل المضامين الأيديولوجية لتلك الأنواع من الفهم. أما المحتوى المعرفي في كتب التفسير؛ فلأنها في الجملة يكرر بعضها بعضاً فإنه يمكن الاستغناء عن كثير منها والاقتصار على المؤلفات المؤسسة : مثل التفاسير التي ألفها بعض علماء اللغة, وبعناوين لغوية الطابع مثل "مجاز القرآن"، و"معاني القرآن" للفراء. وتنبئنا عبارات الجابري السابقة عن مسيرته في الرجوع عن الشطط ومتابعة المابعد حداثيين، والاعتماد على كتابات غلاة المستشرقين عن القرآن, والعودة إلى قراءة أمهات الكتب التراثية عن علوم القرآن حتى يتخلص من الافتتان بأكاذيب من أخذ عنهم في طور كتاباته الأولى، أعنى الفترة الممتدة من (1980 إلى مطلع القرن الحالي( .

وأعتقد أن هذا القول خير دليل على مراجعات صادقة كتبها "الجابري" للانضمام إلى التيار المحافظ المستنير, وتجربته في ذلك أقرب إلى تجربة "إسماعيل مظهر" و"زكي نجيب محمود" و"عبدالرحمن بدوي"؛ فجميعهم تأثر بشعارات وأفكار التنويريين الغربيين وبعضهم تتلمذ على أيدي غلاة المستشرقين الناقمين على الإسلام والحضارة العربية, وكلهم عاد في نهاية المطاف إلى الاتجاه الذي طالما تهكموا عليه ألا وهو مدرسة التجديد والإصلاح التي فطنت إلى معنى الأصولية الإسلامية الجامعة بين المنقول والمعقول، وفضت النزاع المصطنع بين الدين والعلم، وقدمت النقد على المسايرة والتقليد في تحقيق التراث. أما قضية نقده لكتب السيرة وتحليله لمسألة أمية النبي محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ودلالاتها المعرفية في الكتب التراثية والخلافات التي أثيرت بين المؤرخين حول ملابساتها، وانعكاس ذلك على قضية وحدة الأديان ودراية النبي بثقافة عصره وأخبار الأمم السابقة عليه، وتأويلات المستشرقين، ومصطلح الأمية، وما ترتب عليها من حملات التشكيك في الإعجاز الخبري للقرآن، ونسبة الآيات المقدسة للوحي الإلهي. وغير ذلك من مشكلات عقدية ومعرفية قد صاحبت مبحث السيرة النبوية منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وإن كانت لها جذور في كتابات المستشرقين والمشككين في العقائد منذ أخريات القرن التاسع عشر في الثقافة العربية الإسلامية.

ولعلَّ أشهر الكتب التي أثارت مسألة أمية النبي هو كتاب الهداية للمستشرق الأمريكي "صمويل زويمر" (1867م -1952م) والمستشرق الألماني "رودلف" (1858م -1917م) و"هنري لاماس" (1862م - 1937م) و "مونتجمري وات" (1909م-2006م). وجميعهم قد استند على كتابات تراثية عربية شاذة. والذي يعنينا في هذا الأمر أن مفكرنا قد أثار هذه القضية بلا مبرر في كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم) عام 2001م. وقد ألمح على استحياء أنه لم يتعرض لقضايا السيرة إلا بدافع من بعض رفقائه لإتمام مشروعه النقدي.

والجدير بالذكر في هذا السياق أن هذه المسألة قد حسمت تماماً عقب ظهور كتاب (ماذا حول أميّة الرسول) عام 1978م لـ "علي شواخ إسحاق". الذي حرص مؤلفه فيه على إيراد كل الادعاءات التي شككت في أمية النبي وعدم معرفته للقراءة والكتابة كما بينت المقصد الدلالي من مقولته صلوات الله وسلامه عليه - "ما أنا بقارئ". والمثير للدهشة أن الجابري لم يضف في بحثه شيئاً عما جاء به المستشرقون المشككون في هذه المسألة، وقد أغفل في نفس السياق كتابات الفيلسوف الفرنسي "كارليل" (1795م - 1881م) والمؤرخ الأمريكي "ول ديورانت" (1885م -1981م) وغيرهم من الذين تعرضوا لمسألة أمية النبي في الثقافة الغربية ذلك فضلا عن تجاهله عشرات الردود التي حرّرها الكتُاب العرب الذين تصدوا للسيرة النبوية بالنقد والتحليل ولا سيما في القرن العشرين.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم