صحيفة المثقف

أمان السيد: صندوق الدنيا

امان السيد كان بدء ذي بدء في بالي أن أتحدث عن صندوق من البطيخ، وحظ المشتري منه، ولأول وهلة وثب أمامي عنوان مستوحى منه، وإذ بي أستبدله بصندوق الدنيا.. على كل قد يكون الأوفر حظا في نقل مشهدية ترتع في مخيلتي وبين أفكاري..

السماء ملتهبة في الخارج، وقد استغرق مني الأمر نصف ساعة مشيا كي أستقر في اختيار المقهى الذي أجالسه، فكم يتلاعب بنا المزاج نحن أصحاب الأقلام، وكم تتوه بساحاتنا أفلاك وأقمار، تنطفئ أنوارها حين ينطفئ ذلك المزاج فجأة، أو يشتعل..

المقاهي الشعبية هي اختياري، ريادة الأرصفة عنوان مزاجي ذلك الذي لم يستطع أن يرى أولئك الذين يرتعون في سماء عاشرة فلا سقف فوقهم، ولا إبصار لمن تحتهم، في اعتقادي أن الكاتب الشغوف نظيري سينحو مثلي إلى تلك الأرصفة حيث يعابث الناس في عوالمهم الحقيقية، واتكاءاتهم فوق منبسطاتهم المنفسحة بلا حدود، هناك حيث تنوء الأرصفة بثقل ما تحمله نفوس روادها من خيبات، وانتظارات، ومسرات..

يحضرني الآن مقهى معنون باسم يلعن في كل مرة متى شبّ حريق بين مهاجم، وناء جانبا في قضية نهشت صدورنا، فسلب بسببها من سلب، وقتل بسببها من قتل، ومتى ماجت الأمور واندلع بركان أثق أنهم لو رغبوه خامدا لخمد منذ بواكيره، تصير مقاه وسلع معينة لعنة على مرتادها... الله، على سيل اللعنات، لعله انتصار دون أن أدري، لكني من أولئك الثابتين على موقفهم، يجاهرون بلا مخاصمة مقهى أو غيره.. هنا يحضر في بالي عمال، وموظفون من شرفاء ليس لهم ذنب سوى أنهم كتب لهم العمل في المكان الملعون ذاك..

لقد استطردت كثيرا، أعرف، في نفسي خوابٍ تريد أن تندلق فمن  بإمكانه ردي، وما حيلتي برأس تفرعت أكثر من فكرة فيه تدفعني إلى الصياح، وبذا انسقت من ساحة إلى أخرى، وتهت عما كنت أكتب؟!

إنه صندوق الدنيا، تدفعني إلى تعريته صورة أبي يوسف بائع سكريات الليمون الجوال في حينا، لقد اختلطت في رأسي الأشيب الذكريات، فغدت هي الأخرى شائبة رمادية الحضور، هل أبو يوسف نفسه الذي كان يمر بعربة خشبية بدائية الصنع، وهو يسوّق لكاميرا سوداء بين يديه يقلّب فيها شريطا دائريا عليه أكثر من صورة صغيرة، تكبرها عدسته، فنصرخ نحن الأطفال مدهوشين.. ذلك النمر، وذاك الأسد، وذاك أرنب أليس في بلاد العجائب، إلى أن امتلكت الكاميرا البدائية ذاتها إثر رجوع أمي من الحج، وكانت  تعرض لنا رحلتها القدسية ما بين الكعبة المشرفة، والحرم النبوي.. لشد ما استوقفني وقتها رف الحمائم الخاشع فوق شرفات المآذن البيض، حتى أني بأذني سمعت رفرفتها الصامتة تسبّح وتهلل، وتكبّر!

أعتقد أن مزاجي الآن قد تعثر، وصار أكثر ميلا إلى استقلالية الفكرة، فهل يسمح لي قارئي بالعودة إلى مصبي ومنبثقي الأساسي؟!

هناك رجل ينكش أنفه غير بعيد رغم أننا في مركز تسوق فاخر، ومعه زوجة شابة لطيفة، أتساءل لم يميل كثير من الأزواج إلى اللاكتراث بعد سنوات من الارتباط، فيخرجوا ما كانوا يوما يتحرجون منه وهم في طريقهم إلى الالتقاء بشركاء العمر، أهو الملل أو تآخي اللحم، أم اطمئنان وارتياح استثنائي لتقبل الشريك في مطلق الأحوال، فما دام الزواج قد وقع، فكل ما سيأتي لن يغير شيئا!

صندوق البطيخ، باب صندوق الدنيا، هل الزواج والعثور بشريك أشبه بالعثور على بطيخة لذيذة المُدام ريقها حلو يجري في الأبدان حتى بعد ذوبانه في الشرايين والأمعاء، وهل هناك طريقة ما للفوز بذاك الحلو، وما الذي يجعل بعضنا يقبل على تجربة جديدة بعد فشل، وإذ به يكرر اختيارا رفضه، فيقع في المطبات نفسها، ومن فشل إلى فشل، إلى أن يفضل واحدهم العيش في عزلة تامة، أو التصبر على قدر يَنسب إليه ذاك القدر؟!

" بعض من ثرثرات لم تكتمل..."

مقهى كاريبو/ دبي

 

أمان السيد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم