صحيفة المثقف

قحطان الفرج الله: علم كلام جديد أم علم كلام سائل؟

قحطان الفرج اللهيطرح المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي منذ فترة عدّة مفاهيم تثير الأسئلة أكثر من طرح الأجوبة، وهذا بحد ذاته جهدٌ فكري مهم. إن التفتيش عن السؤال يعني ديمومة التفكير، وكذلك يعني فتح آفاق كبيرة لا نوافذ ضيقة، صلابة علم الكلام القديم التي تتوقف عند "معرفة الله وصفاته وأفعاله" تسيل، إذا استعرنا مصطلح بومان بتصرف، نحو معرفة الإنسان نفسه، هل إنسان علم الكلام القديم هو ذاته إنسان العصر الحديث؟ هل طريقته وأدوات تفكيره هي ذاتها؟ بعد حل الكثير من شفرات الطبيعة وشفرات الإنسان وميوله ورغباته، وتحليل دوافعها، وسلوك الحياة بدلا من الغرق في بحار الميتافيزيقا التي صلبت الكثير من المفاهيم التي أصبحت بمرور الزمن "أصنامًا مقدسة". يكون الإنسان بتراكم المعارف والعلوم والأدوات ليس هو ذات الإنسان السابق. يقول الرفاعي: "لكلِّ عصرٍ عقلانيتُه وأسئلتُه وإجاباته، وحتى الأسئلةُ الوجوديةُ والميتافيزيقية الكبرى يعادُ طرحُها في آفاقُ هذه العقلانية ونظامها المعرفي ومنطقها ولغتها. آراءُ المتكلمين الأوائل تعبّر عن عقلانيةِ زمانهم، والنظامِ المعرفي لمرحلتهم التاريخية، والأسسِ والمعاييرِ المعتمدة لديهم في اكتشاف الحقيقة، وتمييز ما هو خطأ وما هو صواب، والمسلماتِ واللاوعي المعرفي الذي كان يتحكم في تفكيرهم آنذاك".

وبالعودة إلى فلسفة عالم الاجتماع البولندي "بومان" الذي يرى أن الحداثة هي مرحلة صلبة أيضًا معرفًا إياها بأنها "مرحلة سابقة من سيادة العقل على كلّ شيء، وظاهرة ما بعد الحداثة التي وصفها بأنها حداثة سائلة وهي حسب رؤيته مرحلة نعيشها حاليًا من تفكك المفاهيم الصلبة والتحرر من الحقائق والمفاهيم والمقدسات" وبذلك هو يقترب من مفهوم (الصلابة الهشة) القابلة للاذابة والتحرك بفعل العوامل الخارجية كأنها جبل جليدي ضخم ولكنه لا يقوى على مصارعة شمس تفكير الإنسان وتطور حياته المستمرة، وهذا الجبل سرعان ما يتصلب من جديد بتوقف عوامل الإذابة.

أما (الصلابة المآسية) التي وقع فيها علم الكلام القديم في تحجير المفاهيم  وعدم قبول تحركها بعوامل الزمن والتطور والمعرفة فهي عاجزة عن تحليل نفسها فضلا عن فهم حاجة الإنسان.

قد يجد بعضهم الحل في (التصوف) أو (البوذية) أو الديانات الروحية، مع التحفظ على هذه المقاربة، ولكن التصوف لم يطرح حلًا كلاميًا، بقدر ما طرح حلًا روحيًا متجرًا من فكرة (الترغيب، الجزاء) (الترهيب، والعقاب) إلى فكرة التوحد مع الخير المطلق من أجل الخير ذاته، وبذلك يكون طرحه فرديًا خالصًا لتجربة تختلف معطياتها من إنسان لآخر. وبهذا  المنهج يكون فهم العالم الخارجي غير قائم على صورة واحدة، فما يراه الحس غير ما يدركه الخيال وهو لا يقع تحت منظومة واحدة منسجمة، بل قد تكون متعارضة ومتقاطعة يفسرها الصوفي (بالكشف)، ويسترها بالكتمان والغموض الشديد.

معايير التميز في علم الكلام الجديد لا تعني استغناء الإنسان عن الله! فالرفاعي يعترف بافتقار الإنسان في طبيعته إلى الاتصال بوجود غني لا نهائي لا محدود كي لا يقع في الاغتراب الميتافيزيقي.

وهو يقر بحاجة الإنسان المستمرة للدين كحاجة روحية لايمكن الفرار منها، ومع ذلك يعترف بعجز الإنسان عن طرح الأجوبة الشافية "للاسئلة الميتافيزيقية الكبرى"، وبذلك هو يقف تجاه الأجوبة السابقة التي طرحها علم الكلام القديم موقف واضحًا حين وصف إجاباتهم (بالإجابات المرحلية) التي يجب أن تخضع لعوامل تغير الزمان والبيئة والثقافة، وعلى حد تعبيره:  "إن استئناف رسالة القران وتموضعها في سياق متطلبات المسلم -الإنسان- الروحية والأخلاقية، لن تنجزها أدوات النظر ومناهج الفهم القديمة، لأنها تمثل عبئًا ينهك دلالة النصوص، عبر تكرار المعنى الذي أنتجته في الماضي، ومصادرة تعدد الدلالة"، وبذلك يضع يده بشكل مباشر على تفعيل عوامل حركية النص الذي يتفاعل مع الإنسان، ولا يمكن أن يعيش دون أن يعطي الإجابات، أو يساعد في الوصول إليها بفعل اذابة الصلابة لا تحطيمها والتخلي عنها. ويشير إلى ذلك بقوله: "دخلت علومُ الدين في الإسلام حلقةً دائريةً تكراريةً منذ عدة قرون، بعد أن توقف إنتاج العلم الدنيوي في عالم الإسلام. واستبدّت الرؤيةُ الكلامية الموروثة للعالَم في حياة المسلمين، فحجبتهم عن رؤية العالَم خارجَ الأسوار المغلقة لعلم الكلام. وأضحت مجتمعاتُنا اليوم ضحيةَ رؤيةٍ ميتافيزيقيةٍ للعالم تتحدّث لغةَ الأموات، ينتجها علمُ كلامٍ قديمٍ لم يعدْ يتبصّر قلقَها الوجودي، ولا يدرك منابعَ ضغائنها".

وهنا يطرح الرفاعي عدة أسئلة ضمنيًا: هل خلقت الحياة من أجل النص (في البعد الدلالي الواحد)؟ أم خلق الإنسان صاحب العقل الذي يرى عدة وجوه؟ هل الدين مختلف بعامل التعدد؟ أم انه متعدد بعوامل الفهم؟ وهل الحل في التمسك بتحجير النصوص، أم البحث عن البعد القيمي للدين؟ كيف يمكن فهم الأبعاد الروحية في الدين كقواسم مشتركة؟

ويشدد على ما ينشده علم الكلام الجديد بقوله: (ينشد علمُ الكلام الجديد إيقاظَ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الدين، بما يتواءم وحاجةَ الحياة للمعنى الديني في زماننا، ويسعى لاكتشاف القيم الكونية المشتركة في الإسلام مع الأديان الأخرى، ويعمل على الكفِّ عن إخراج الدين عن مجاله، وزجِّه في مجالٍ يفتقر للمعنى الذي ينشده. ولا يتحقق علمُ الكلام الجديد من دون تعدّد قراءات القرآن الكريم، واعادة تفسيره وكلّ النصوص الدينية، وتعدّد فهمها تبعًا لتعدّد الأحوال وتنوع الأزمان).

إن التخلي عن  فكرة (الفرقة الناجية) يفتح ابواب حياة للإنسان الحر نحو فهم النصوص وفهم نفسه، وتحرير اختياراته التي أساسها وجود خالق عظيم متعدد الصور، وبذلك يكون الإنسان واعيًا بالاختيارات التي يسلكها في حياته أي متمكنا من خلق قيمه الخاصة، من خلال استخدام أدوات المستمرة بالتصاعد، لا أدوات غيره القديمة. علم الكلام الجديد كما يرى الرفاعي: "يفكّر في آفاق العقل ومعطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والتأويل الحديثة، لأن تجديدَ علوم الدين وإعادةَ بناء علم الكلام يتكفله تجديدُ علوم الدنيا، فكلّما تطورت علومُ الدنيا وتجدّدت تطورت علومُ الدين وتجدّدت تبعا لها. وينشد علمُ الكلام الجديد إعادةَ رسم صورة الله تجعل صلةَ المسلم بالله لا خوفَ فيها. في ضوء هذه الصورة يعيد الكلامُ الجديد بناءَ هذه العلاقة فينقلها من علاقة مسكونة بالخوف إلى صلة تتوطن مقامَ المحبة. لذلك يهتم علمُ الكلام الجديد بالاستنارة الروحية، وهي أجملُ ما أنجزه العرفان في كلِّ الأديان. في الإسلام كانت الاستنارةُ الروحية منبعا غزيرًا لتحوّل الصلة بالله من علاقة يحكمها الخوف إلى صلة تتكلم لغة المحبة".

وهذا ما يعطي للبعد الروحي أهمية قصوى كما يقول (كيركيغورد): "إن الشيء الجوهري أن أجد أن حقيقة تكون حقيقة بالنسبة لي، وأن أجد الفكرة التي أرغب في الحياة أو الموت من أجلها، … وعلى الرغم من المشكوك فيه تمامًا والمليء بتناقضات ظاهرية لا نهاية لها، فإن اليقين العاطفي، والإيمان الأعمى بالله فقط يمكن أن يتجاوز اضطراب الوجود المحدود ".

 

د. قحطان الفرج الله

باحث وناقد عراقي.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم