صحيفة المثقف

كريم المظفر: قراءة في حديث لافروف في منتدى بريماكوف

كريم المظفراسمحوا لنا في البداية ان نلقي الضوء على قصة مهمة في تاريخ السياسية الخارجية الروسية الحديثة، والتي كان بطلها، شخصية عرفها العالم بحكمتها وحنكتها في معالجة قضايا الشرق الأوسط، هي تلك التي حدثت في 24 مارس 1999، والتي يسميها الكثيرون بانها واحدة من أروع خطوات الدبلوماسية الروسية، عندما قرر رئيس وزراء الاتحاد الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف، وهو يحلق على متن طائرته الحكومية في سماء (منطقة جزيرة نيوفاوندلاند)، إلى إلغاء زيارته الرسمية للولايات المتحدة وإعادة طائرته إلى الوراء الى موسكو، معربًا بذلك عن احتجاج روسيا على اندلاع عملية الناتو العسكرية ضد يوغوسلافيا، وأصبحت هذه الحادثة بالنسبة للغرب، رمزًا لحقيقة أنه يجب حساب روسيا مرة أخرى، وعبر عنها العديد من المحللين على أن تصرف بريماكوف، الذي رفض بشكل واضح وظاهري زيارة رسمية إلى الولايات المتحدة، بانه يمثل بداية السياسة الخارجية الحديثة متعددة الاتجاهات لروسيا التي ينتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

لهذه الشخصية السياسية الروسية المرموقة، رؤى مستقبلية لواقع السياسة الخارجية الروسية، ليس على مستوى الشرق الأوسط وحده، بل أيضا في العلاقات مع الغرب والناتو، وقضايا دولية مهمة، وتحرص وزارة الخارجية الروسية بالتعاون مع (منتدى بريماكوف، والذي يعتبر واحدا من أكثر المنصات الدولية موثوقية، للحوار المهني) وتنظيم حلقات نقاشية حول الدور الروسي في القضايا الدولية المختلفة، ومع زخمة التناقضات بين روسيا والولايات المتحدة والغرب، حرص وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على اطلاع المشاركين فيها على الصورة الواضحة والحقيقية للسياسة الخارجية الروسية الدولية والتي ساهم في إرساء دعائمها يفغيني بريماكوف .

وفي نظرة على حديث الوزير لافروف فان جميع القراءات الحالية للسياسة الخارجية في روسيا  ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتراث الفكري لرجل الدولة يفغيني بريماكوف، فخلال فترة توليه منصب وزير خارجية الاتحاد الروسي، تم وضع مبادئ السياسة الخارجية الحديثة لروسيا -كالاستقلال، والبراغماتية، والنهج متعدد الاتجاهات، واحترام القانون الدولي، والانفتاح على التعاون مع كل شخص مستعد للقيام بذلك على أساس المساواة والاحترام المتبادل، والتي شكلت هذه المبادئ فيما بعد أساس مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي، والذي تمت الموافقة عليه في عام 2000 بعد انتخاب فلاديمير بوتين رئيسًا لروسيا وتم تعديله لاحقًا، ورغم التعديلات التي أجريت على مبادئ السياسة الخارجية الروسية، لكن ظلت كل هذه المبادئ، والتي صاغها الأكاديمي إي إم بريماكوف، تحافظ على استمراريتها.

وبالنسبة لروسيا، تكمن ميزة مهمة في حقيقة أن هذه المبادئ تسمح لها بضمان إمكانية التنبؤ واستقرار سياسها الخارجية، وهذا وكما أوضح الوزير لافروف مهم بشكل خاص في الظروف التي يمر فيها النظام العالمي بأكمله بمرحلة متناقضة للغاية من تطوره، وهو في حالة اضطراب متزايد، ولكن، كما تقول الحكمة الصينية، فإن اللحظة الحالية تفتح فرصًا كبيرة مهمة لاستخدامها لصالح تنمية التعاون لصالح جميع شعوب العالم، لذى فان روسيا تركز على تعزيز الاتجاهات الإيجابية، وبادئ ذي بدء، في هذه السلسلة هي تعزيز مراكز النفوذ الاقتصادي والسياسي الجديدة، وإضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات بين الدول بشكل عام، ومثل هذه العملية، بالمناسبة، "تنبأ بها" يفغيني ماكسيموفيتش في منتصف التسعينيات في مفهومه عن تكوين عالم متعدد الأقطاب.

وستساهم روسيا بنشاط في استمرار التغييرات السلمية في اتجاه تعددية المراكز على أساس القيادة الجماعية للدول الرائدة في حل المشكلات العالمية، وبما ان روسيا واقعية ولا يمكنها تجاهل الإحجام العنيد، للغرب في الاعتراف بهذه الحقيقة الموضوعية كما هي، لكن موسكو في نفس الوقت لا يمكنها تجاهل رغبة الغرب الجماعية في تأمين لنفسه موقعًا متميزًا في الساحة العالمية، مهما كانت التكلفة، وسيكون مؤشر الحالة الذهنية في الدول الغربية الرائدة هو نتائج القمم القادمة لمجموعة السبع وحلف شمال الأطلسي وفي تنسيق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولكن ليس فقط روسيا، ولكن أيضًا في العديد من الآخرين يواجهون حقيقة أن ممثلي الغرب ليسوا مستعدين لحوار نزيه قائم على الحقائق، ويفضلون التصرف بروح "الإعجاب رفيع المستوى"، و هناك العديد من الأمثلة على هذا النهج، وهذا بلا شك يقوض مصداقية فكرة الحوار كطريقة لحل الخلافات ويقوض إمكانيات الدبلوماسية كأداة أساسية للسياسة الخارجية.

إن الحماسة التي يبديها "زملاؤنا" الغربيون  كما يشدد عليها وزير الخارجية الروسية، في الترويج للمفهوم السيئ السمعة لـ "نظام عالمي قائم على القواعد"، وللتذكير فأن ميثاق الأمم المتحدة هو أيضًا مجموعة من القواعد، لكنها قواعد مقبولة عالميًا، ومتفق عليها من قبل جميع أعضاء المجتمع الدولي، ولا يطرحها أحد على أي تساؤل، هذا يسمى القانون الدولي، و ميثاق الأمم المتحدة هو الجزء الرئيسي من القانون الدولي وأساسه، ولكن عندما يبتعد الغربيون عن استخدام مصطلح "القانون الدولي" ويستخدمون تعبير "النظام العالمي القائم على القواعد"، فإنهم يعنون شيئًا مختلفًا تمامًا، ومن أجل الحقيقة المطلقة ... يتم اتخاذ مثل هذه الإجراءات في مجال الأسلحة الكيميائية، في مجال الصحافة، في مجال الأمن السيبراني، والقانون الإنساني الدولي، و هناك منظمات عالمية معنية بكل هذه القضايا، لكن وفي المقام الأول في الاتحاد الأوروبي وكذلك في الولايات المتحدة، يريدون الترويج لمفهومهم في كل مجال من هذه المجالات، وبالتالي فمن الصعب جدًا الترويج لبعض المبادرات، للوصول إلى اتفاقيات في شكل عالمي، حيث لا يوجد أعضاء "مطيعون" في النادي الغربي فحسب، بل هناك روسيا والصين والهند، البرازيل والدول الأفريقية.

وأمام كل هذا فإن روسيا تؤيد التعاون مع الجميع، لكن على أساس الاحترام المتبادل والمساواة والبحث عن توازن المصالح، لأنها ترى قيمة مستقلة في كل شريك دولي - سواء في الشؤون الثنائية أو في المجالات المتعددة الأطراف، وتقدر الصداقة مع كل من يرد بالمثل ومستعدة للبحث عن اتفاقيات صادقة، وليس محاولة العمل مع الإنذارات والمطالب من جانب واحد، وتغطي القضايا التي تعلن روسيا عن استعدادها لمناقشتها جميع المجالات ذات الصلة بحياة الإنسان تقريبًا: الأمن والتجارة وحماية البيئة وحماية المناخ والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي وغير ذلك الكثير.

فروسيا تروج لمقارباتها في الفضاء الأوراسي، وتعمل مع رابطة الدول المستقلة (CIS) ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) والاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO) وفقًا للمبادئ التي ذكرناها، لأن هذه المؤسسات مبنية حصريًا على مبادئ التطوع والمساواة والمنفعة المشتركة، ولا يوجد هنا "رؤساء" و "مرؤوسون"، وكل هذه المنظمات تعمل لأغراض بناءة وليست موجهة ضد أي شخص، ناهيك عن التظاهر بنشر ما يسمى، قيم مصاغة بدقة للعالم بأسره، تتطلب مراعاتها من جميع الدول دون استثناء، كما نلاحظ في عدد من هياكل التكامل الأخرى.

كما إن تعزيز المشاركة الشاملة مع الصين من بين أولويات السياسة الروسية الغير المشروطة، ويحتفل هذا العام بالذكرى العشرين للمعاهدة الثنائية الكبرى بشأن حسن الجوار والصداقة والتعاون، في نفس الاتجاه، تعمق روسيا شراكتها الإستراتيجية المميزة بشكل خاص مع الهند، وهذه برأي الوزير لافروف هي الطريقة التي يطلق عليها في الوثائق التي تم اعتمادها على أعلى مستوى، وإن روسيا أيضا بصدد توسيع التعاون مع أعضاء الآسيان ودول أخرى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تماشياً مع الفلسفة الموحدة التي تقوم عليها المبادرة التي طرحها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتعزيز تشكيل الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى، و إنه مفتوح للجميع، دون استثناء، الدول الأوراسية المشتركة، والتي تنتمي إليها تزيد بشكل كبير من المزايا النسبية في عالم تنافسي للغاية لجميع البلدان الأوروبية الآسيوية على أساس أنها ستستمتع بهذه المزايا الطبيعية التي وهبها الله، و لا تحاول رسم خطوط فاصلة جديدة في القارة وتعميق الخطوط القديمة.

وبما أن المنتديات مثل قراءات بريماكوف هي منصات مثالية لمناقشة الأفكار التي تنشأ في هذا الصدد  بالتأكيد، قد تكون هناك بعض الأساليب البديلة، لكن المطلوب هو أن تتحول المناقشة إلى المستقبل لصالح جميع بلدان هذه المنطقة الشاسع، لذلك ستواصل روسيا الإسهام بنشاط في حل النزاعات الدولية، وهي تعمل في سوريا، وتساعد في استعادة الحياة السلمية بعد أن أوقفت إراقة الدماء في ناغورنو قره باغ، وهي تعمل بنشاط على تعزيز الجهود الدولية في أفغانستان وليبيا وحول إيران وشبه الجزيرة الكورية والعديد من "النقاط الساخنة" الأخرى، وان الحديث عن هذا لا من أجل لفت الانتباه إلى إنجازاتها، فروسيا ليست لديها عقدة نقص (مثلما لا توجد "عقدة فائدة" في السياسة العالمية)، لكنها دائمًا على استعداد لتقديم المساعدة لمن يحتاجونها. هذه هي مهمتها التاريخية،والتي تعود إلى قرون من تاريخها لذلك، فانها ستواصل، بما في ذلك المشاكل التي تبدو غير قابلة للحل مثل التسوية في الشرق الأوسط، وتسعى بنشاط إلى استئناف عمل اللجنة الرباعية للوسطاء الدوليين في أقرب وقت ممكن، والعمل على تعزيز مفهوم ضمان الأمن الجماعي في منطقة الخليج، وعقد اجتماعات قادة إسرائيل وفلسطين في موسكو مفتوحة لأقرب تنظيم ممكن، رغم تجاهل تذكيراتها المتكررة والدائمة بأنه من المستحيل الترويج لمفهوم تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعرب على حساب المشكلة الفلسطينية، والتي وصفها الوزير لافروف بانها " واحدة من أخطر المشاكل التي ستزداد سوءًا ".

كما تعمل روسيا بنشاط على تعزيز مهمة الاتفاق، بالفعل في شكل متعدد الأطراف، في إطار الأمم المتحدة، على قواعد السلوك المسؤول في فضاء المعلومات، وتعزز التعاون في مكافحة فيروس كورونا، وعلى على عكس ما يحاول الغرب أن ينسبه إليها، فموسكو مهتمة دائمًا بعلاقات عملية وذات منفعة متبادلة مع أي شخص، بما في ذلك الغرب نفسه - سواء كان الولايات المتحدة أو حلفاء الناتو أو الاتحاد الأوروبي، وتشجع سلسلة كاملة من المبادرات لمنع الانهيار الكامل للاتفاقيات والتفاهم في مجال نزع السلاح والحد من التسلح وعدم الانتشار بعد أن دمر الأمريكيون الكثير، كما هي مستعدة للعمل مع أي شريك، لكن لن تكون هناك "لعبة من جانب واحد"، فلا العقوبات ولا الإنذارات النهائية جيدة لمحاولة التحدث إليها والتوصل إلى نوع من الاتفاق.

واليوم يستذكر الجميع بريماكوف، الذي أكد " على عدم جواز ربط روسيا القوية اليوم بتهديد الاستقرار في العالم، وانه فقط الجمود في التفكير يمكن أن يؤدي إلى استنتاج حول الخطر النابع من روسيا "، لذلك لن تبتعد روسيا أبدًا وفق مفهوم سياستها الخارجية، وعن قيمها الأساسية، وستكون مخلصة لأصولها الروحية ودورها في الاستقرار في السياسة الدولية، وستواصل بذل كل ما هو ضروري لتعزيز مصالحها الوطنية بحزم ولكن بدون مواجهة، وإقامة تعاون مع أوسع مجموعة من الدول، وان الشيء الوحيد الذي تؤكده موسكو أنها لا ينبغي أن تتعامل مع استعدادها للحوار مع أي شريك على أنه ضعف، فقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ وقت ليس ببعيد، رداً على الإنذارات الغربية، " أننا أنفسنا سنحدد الخطوط الحمراء في العلاقات مع الشركاء الأجانب، وقبل كل شيء، سندافع عن آرائنا حول النظام العالمي"، وحول كيفية تطوير العلاقات الدولية، بالامتثال الكامل للمبادئ والقيم التي لا تنص عليها وثائق متفق عليها بشكل ضيق، ولكن في ميثاق الأمم المتحدة .

 

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم