صحيفة المثقف

علي عمرون: حفلة التيس.. قراءة في فلسفة الطغيان وتهافت الدولة العسكرية

عمرون علي إذا أردتَ أن تتمنى شيئاً لدكتاتور أو أن تدعو عليه، فادعوا الله أن يُسلّط

عليه كاتباً مثل يوسا يُخلّد قذارتهُ ويفضحُ فساده

مدخل عام

الكتاب المفتوح عقل يتكلم والكتاب المغلق صديق ينتظر والمنسي روح تسامح، اما الكتاب الممزق فهو قلب يبكي، هكذا تقول الحكمة الهندوسية، وهكذا كانت رواية حفلة التيس كتابا مفتوحا عن طاغية متسلط مغتصب يلقب بالتيس، رواية عن ديكتاتور استبد بثلاثة ملايين من الناس، عن حاكم مستبد مريض نصب نفسه طبيبا لمعالجة شعبه، سلبهم ارادتهم الحرة ومع ذلك كان اقل الناس حرية في دولة الدومينيكان ارض الشمس والشواطئ ارض الخوف والحزن، عن رافائيل تروخيو الدكتاتور الذي عجز عن حكم نفسه وتحديدا طاقته الشهوانية المتحررة من كل قيد، حكم الناس بالخوف وعاش في خوف، هي رواية تاريخية وفي نفس الوقت تحليل نفسي وقراءة فلسفية لشخصية الديكتاتور ومن دار في فلكه واحترق بناره.

حفلة التيس محاكمة جريئة لدولة الاستبداد والطغيان. رواية عن اورانيا الجميلة رمز الوطن التي اغتصبها التيس وهي في سن الرابعة عشر وقتل في نفسها وفي نفوس الاخرين كل ما هو جميل، اغتصبها بعد ان قرر الجنرال أغوسطين كابرال الموافقة على اقتراح عرض جسد ابنته على الرئيس لجذب انتباهه، ففي الأنظمة الاستبدادية تستمد السياسة طاقتها من شهوة القوة من الإيروس، وبداخلها تتقاطع الرغبات الجنسية الجامحة للمتسلط مع عقدة النقص عند الاخر، فيها تمتزج المازوخية مع الساديّة في شخصية الحاكم والمحكوم من خلال ممارسة العنف وتقبله في ذات الوقت.

على غلاف الرواية اللوحة الجدارية التي رسمها أمبروجيو لورنزيتي، يظهر رجل يرتدي حلة سوداء، مع قرون ومحاط بشخصيات داكنة ترمز إلى القسوة والخلاف والشر والاحتيال والغضب والاستبداد والجشع . وأيضا الى التفاهة والقذارة [1] وهناك خلف الصورة يمكن تخيل شخصية وزير الدولة العلاقات الخارجية في عهد الطاغية تروخيو وهو يصعد ويهبط من طائرات، ليجوب العواصم الأمريكية الجنوبية، منصاعاً لأوامر مستعجلة تنتظره في كل مطار، لكي يواصل ذلك الطريق الهستيري، مزعجاً الحكومات بذرائع فارغة. وكل ذلك من أجل ألا يعود إلى مدينة تروخييو بينما الزعيم يضاجع زوجته.

في احدى فصول الرواية امتزجت فلسفة صاحب الرواية مع تفكير أورانيا "هناك أشياء كثيرة من العهد استطعتِ فهمها؛ بعضها بدت لك في البدء غير قابلة للتفسير، ولكنك من خلال القراءة، والاستماع، والمقارنة والتفكير، توصلتِ إلى فهم كيف يمكن لكل تلك الملايين من الأشخاص المهروسين بالدعاية والافتقار إلى المعلومات، المخبولين بالتلقين العقائدي والعزلة، المحرومين من حرية الاختيار، ومن الإرادة وحتى من الفضول بسبب الخوف وممارسة التذلل والخنوع، أن يصلوا إلى تأليه تروخييو. ليس إلى الخوف منه وحسب، وإنما إلى حبه، مثلما يتوصل الأبناء إلى محبة الآباء المتسلطين، وإقناع أنفسهم بأن الجلد والعقوبات إنما هي لمصلحتهم"

العذراء أورانيا واغتصاب الوطن

رواية حفلة التيس. لماريو بارغاس يوسا*.ترجمة صالح علماني .440 صفحة، تنطلق من قصة أورانيا امرأة ممشوقة القامة لطيفة التقاطيع، ذات بشرة مصقولة، وعينين واسعتين سوداوين. أورانيا اسم حمل دلالة اعتباطية نحت وفق رؤية تعسفية لذلك كان المدلول رمزا لكل البلاد وشعبها الذي عاش ومات افراده بطريقة تعسفية، اسم حمل وحكى واختزل هوية شعب الدومينيكان المفقودة في ظل دكتاتورية تروخيو حاكم البلاد الذي اغتصبها واغتصب من خلالها حرية شعب بأكمله قدمها اليه والدها " السيناتور أغوسطين كابرال، الوزير كابرال، المخيخ كابرال" وزير الدولة، السيناتور، رئيس الحزب الدومينيكاني، هكذا كانت القابه فهو كلب الحراسة الوفي لسيده والذي اصبح يعيش منذ تم الاستغناء عنه واستبعاده من دائرة المختارين على كرسي متحرك، دون قدرة على المشي، على الكلام، معتمداً على ممرضة في أكله، نومه، لبسه، خلع ثيابه، قص أظفاره، حلاقة ذقنه، تبوله، تغوطه . نصحه أحد القوادين بفكرة مقايضة بكارة ابنته بالبقاء في منصبه " فالزعيم يقدر الجمال. وإذا ما قلتُ له: «مخيخ يريد أن يقدم، كدليل على المحبة والولاء، ابنته الجميلة، والتي ما تزال آنسة» فلن يرفضها. إنني أعرفه. إنه شهم، ولديه إحساس مرهف بالشرف. سيشعر بأنك قد لمست قلبه. سيستدعيك.

سادية الطاغية تروخيو واستمتاعه بالتعذيب النفسي والجسدي لضحاياه، وغريزته الجنسية التي لا حدود لها ومضاجعة زوجات الوزراء وتلفظه وتلذذه بالكلام البذيء هو في الحقيقة انعكاس لرغبته في التملك حيث لا حدود بين العرض والأرض حاولت أورانيا الهروب من هذا الواقع المؤلم، بحثت لها عن وطن اخر سافرت هناك الى أمريكا وأقسمت ألا تعود لكنها عادت. الى مسقط رأسها كانت تحكي الرواية انها كانت مدينة أكثر صمتاً وأقل هستيرية مجرد مدينة ريفية، معزولة، هاجعة في الخوف والخضوع والمذلة، روحها منقبضة توقيراً ورعباً من الزعيم، الجنرال يسمو، المنعم، أبي الوطن الجديد، صاحب الفخامة الدكتور رافائيل ليونيداس تروخييو مولينا لكنها اليوم اقوى صخبا وأيضا اكثر رعبا.

يتم اغتصاب الوطن عندما تختفي قيم الشرف والفضيلة ويشيع التزلف والمبالغة في الخوف من الطاغية وتمجيد تفوقه فهو الكائن الخارق البطل القادر على ان ينكح من النساء ما يشاء في الوقت الذي يشاء ومع الشعور بعقدة النقص يصبح الشرف مباحا وبيع الوطن ممكنا.

وكما أن الفضيلة ضرورية في الجمهورية والشرف ضروري في الملكية لا بد من الخوف في الحكومة المستبدة، ولا ضرورة للفضيلة فيها مطلقًا، ويكون الشرف فيها خطرًا.....ولا يمكن المرء هنالك أن يعرض مخاوفه حول حادث قادم بأكثر من الاعتذار عن سوء نجاحه بهوى الطالع، ويقوم نصيب الناس هنالك على الغريزة والطاعة والعقاب كما هي حال الحيوانات. [2]

في أنظمة الطغيان حضور الغريزة الجنسية في اللعبة السياسية، يحمل دلالات عديدة بداية من شخصية الحاكم البهيمية، حيث الايروس هو محرك السلوك ومن ثمة الاشباع الغريزي يدخل في باب مغالطة الشعور الزائف بالتفوق وتضخيم الانا، والذي يصعد في اعلى مستوياته الى ما نسميه جنون العظمة ووصولا الى شخصية المحكوم المازوشية، ومع الاستخدام المفرط للقوة وتفقير الشعب وتجهيله تؤسس دولة الطغيان أركانها وتحافظ على وجودها واستمرارها " ولقد اشرنا في ما سبق الى بعض الوسائل التي يستخدمها الطغيان للاحتفاظ بسلطانه كلما امكنه ذلك القضاء على كل متفوق يرفع رأسه، والتخلص من الرجال اولي الالباب ومنع الموائد العامة والاجتماعات وحظر التعليم وكل ما يمت بسبب الى التنور اعني اتقاء كل ما يؤتي عادة الشجاعة والثقة بالنفس، ومنع ضروب الفراغ وجميع الاجتماعات التي قد يجد المرء فيها تسليات مشتركة وعمل كل ما من شانه ان يظل الرعايا يجهل بعضهم بعضا، لان العلاقات تجلب الثقة المتبادلة وفوق ذلك معرفة تنقلات المواطنين مهما قلت قيمتها واكراههم بوجه ما على الا يجوزوا ابواب المدينة حتى يكون الطاغية على علم بما يعملون وتعويدهم هذا الاستعباد المستمر الضعة ووجل النفس.....مبدأ اخر للطغيان هو افقار الرعايا حتى لايكلفه حرسه شيئا من جهة ومن جهة أخرى ان الرعايا وهم في شغل لتحصيل قوتهم لايجدون من الوقت مافيه يتامرون ...والطاغية يقرر الحرب ليشغل بها نشاط رعاياه ويلزمهم الحاجة الى رئيس حربي ...واباحة النساء داخل العائلات ان يخن ازواجهن واباحة العبيد ان ينموا على اسيادهم لان الطاغية ليس له ما يخشاه من العبيد والنساء" [3]

السادوماخية العنف والرضوخ أساس الحكم

يعرّف جان جاك روسو الطاغية عندما يتحدث في شطط الحكومة وفي ميلانها الى الفساد قائلا: " يحكم الطاغية بالعنف ولا يراعي العدل والقانون .و في المعنى الدقيق ينتحل الطاغية السلطة الملكية بغير حق . هذا ما عناه الاغريق بكلمة طاغية: فبها كانوا ينعتون بلا تميز الامراء الصالحين والطالحين ممن لم تكن سلطتهم مشروعة. وعلى هذا النحو، فان كلمة طاغية وكلمة مغتصب كلمتان مترادفتان كأفضل ما يكون الترادف. ولكي أسمي الأشياء بأسماء مختلفة فاني سأسمي طاغية مغتصب السلطة الملكية، واسمي مستبدا مغتصب السلطة السيادية" [4] في احد مشاهد الرواية وصف تروخييو نفسه بانه قادر على تحويل الماء إلى نبيذ وعلى تكثير الخبز، إذا ما خطر ذلك لخصيتيه. لقد ذكَّر ماريا بذلك في شجارهما الأخير: «إنك تنسين أن هذه الحماقات لم تكتبيها أنت يا من لا تعرفين كتابة اسمك دون أخطاء نحوية، وإنما الغاليسي الخائن خوسيه ألمونيا الذي دفعتُ له أنا.

الطاغية تروخييو تدرب على يد المارينز، وهكذا هو حال اغلب الطغاة هم عملاء، خاطبه الرقيب الأمريكي سيمون جيتلمان «ستصل بعيداً يا تروخييو». وفعل وصل الى حكم دولة الدومينيكان كما خططت وارادت أمريكا، وقد قلد هذا الرقيب وسام الاستحقاق خوان بابلو دوارتي، أرفع الأوسمة الدومينيكانية بعد ان وصل تروخييو الى الرئاسة، هو بالمحصلة صناعة أمريكية، ومن خلاله توصلت الولايات المتحدة إلى امتلاك عميل طوال احدى وثلاثين سنة. مشروعه السياسي ارتكز على خلق عدو وهمي قتل مابين 20000الى 30000 هايتي في مذبحة البقدوني، واغتال ثلاثة من الشقيقات الأربعة الأخوات ميرابال، الناشطات السياسيات والنسويات في جمهورية الدومينيكان. وكان ذلك في مساء 25 نوفمبر عام 1960، أثناء عودتهن من زيارة أزواجهن المعتقلين السياسيين.....مزج بين أسلوب القمع والتزوير في رسالة إلى وزارة الخارجية الأمريكية، كتب السفير الأمريكي تشارلز بويد كورتيس أن تروخيو حاز على عدد من الأصوات يفوق عدد المقترعين الحقيقيين. انزل شعبه الى مرتبة الحيوان " يمكن للدولة أن تمارس ضغطها الساحق في صور شتى كما في علاقتنا بالحيوانات سواء بتعليق الخروف بحبل وشده بعنف، أو عندما يلحق الحمار الجزرة مقتنعاً أن مصلحته في أن يفعل ما نريد، أو الحيوانات التي تتقن (التمثيل) وسطاً بين هذين الصنفين، أو بصورة مغايرة كما في قطعان الأغنام عندما نريد حملها الى البواخر فنجر قائد القطيع بالقوة فلا تلبث حيوانات القطيع الأخرى أن تسير وراءه راضية مختارة. وحسب (راسل) فإن: "حالة الخروف تتمثل في سلطان الشرطة والقوات العسكرية. وتمثل حالة الحمار والجزرة سلطان الدعاية. وتظهر الحيوانات الممثلة قوة التعليم فتؤدي الجماهير التحية للقائد البطل. أما القطيع الذي يتبع قائده المقهور على ارادته فيتمثل في السياسات الحزبية عندما يكون زعيم الحزب أو قائده موثوقاً الى زمرة من الناس [5]

أحاط نفسه بمجموعة من الفاسدين، حيث لا يتحرج أحدهم من يجامع الرئيس زوجته حتى في بيته وهو ينتظر خارج الغرفة، ولم تكن هذه القصص وليدة المخيلة بل هي حقائق مسجلة واعترافات موقعة من أقرب الناس الى الديكتاتور، ولهذا السبب أيضا نجد الطاغية يختار الفاسدين من البشر في نظام حكمه ليكونوا له أصدقاء، فهم عبيد النفاق والتملق، والطاغية تسره المداهنة وينتشي من النفاق، ويريد من يتملقه. ولن تجد إنسانا حرا شريفا يقدم على مثل هذا العمل. فالرجل الخير .يمكن أن يكون صديقا، لكنه لا يمكن تحت أي ظرف أن يكون مداهنا أو متملقا. [6]

اغتيال الديكتاتور

في كتاب عن العنف للفيلسوفة حنة ارندت وهي تفكك إشكالية العنف اشارت الى ان هناك علاقة تبادلية بين ارادة السيطرة ورغبة الخضوع وينسب هذا الموقف الى جون ستيوارت مل واكدت من خلال الغوص في عمق السلطة، انه من دون شعب او جماعة لن تكون هناك سلطة وللتمييز بين العنف والقوة ذهبت الى ان القوة طاقة ناتجة عن الحركات الطبيعة او الحركات الاجتماعية والفرق بين العنف و السلطة، يتمثل في ان السلطة تعتمد على راي الاغلبية في حين ان العنف لا يعتمد على راي الاغلبية او العدد بل يعتمد على ادوات القمع التي تزيد و تضاعف من القوة البشرية واستحضرت قول فانون :" الجوع مع الكرامة افضل من الخبز الذي يؤكل في العبودية "، ونحن هنا نقف عند هذا قول فرانز فانون لنبين ان العنف لا يولد الا العنف وان نهاية كل طاغية هي بالضرورة نهاية مأساوية لقد غرق فرعون وانتحر هتلر بالسم واعدم نيكولاي تشاوتشيسكو ولم يختلف مصير الطغاة على مر العصور عن هذه النهاية البشعة، وسواء نسبنا الفعل الى إرادة الانسان المقهور او الى إرادة متعالية وسواء كان الدافع هو تصفية الطاغية لضعفه وعجزه او لشعور المقهور بعقدة الذنب فان النتيجة واحدة فالتاريخ دائما يعلمنا كيف تكون النهاية مؤلمة للذين يسلمون انفسهم الى شهواتهم وبخاصة شهوة الاستبداد.

ان التحرر من الطغيان مطلب حيوي لكل مجتمع، حيث يحكى أن ليكورج (مشرع اسبرطة) قد ربى كلبين خرجا من بطن واحد ورضعا الثدي ذاته فجعل احدهما يسمن في المطابخ، وترك الآخر يجري في الحقول وراء أبواق الصيد، فلما أراد أن يبين لشعب بلدته (لاسيدمونيا) أن الناس هم ما تصنع بهم تربيتهم، جاء بالكلبين وسط السوق ووضع بينهما حساء وأرنبا فإذا احدهما يجري وراء الطبق والآخر وراء الأرنب فقال ليكورج ومع هذا فهما أخوان، هكذا علم شعبه تنشئة جعلت كلا منهم يفضل الموت الف ميتة على أن يختار لنفسه سيدا آخر سوى القانون والعدل. [7]

في رواية حفلة التيس تحدث ماريو بارغاس يوسا عن اغتيال الطاغية تروخييو، على أيدي من صنعهم وقربهم اليه، على ايدي وزير دفاعه المتزوج من ابنة أخته، و أحد حراسه، ومدير مخابرته السابق ومدراء بمؤسسات إقتصادية. كان سلفادور وآماديتو يشغلان المقعد الخلفي من السيارة المتوقفة قبالة الكورنيش وقد تبادلا الكلام نفسه مرتين على الأقل خلال نصف الساعة التي أمضياها هناك. وكان أنطونيو إمبرت يجلس وراء المقود، وأنطونيو دي لاماثا إلى جواره، يستند بمرفقه إلى النافذة، ولم يتدخلا للتعليق بأي شيء هذه المرة أيضاً. الأربعة ينظرون بجزع إلى السيارات القليلة القادمة من مدينة تروخييو والتي تمر أمامهم مخترقة الظلام بمصابيحها الصفراء، باتجاه سان كريستوبال. لم تكن بينها الشفروليه الزرقاء السماوية، موديل 1957، ذات الستائر على نوافذها، والتي ينتظرونها تساءل أحدهم هل سمعت بكلمة «المستبد»؟ الكنيسة تسمح بذلك في بعض الحالات القاهرة. لقد كتبَ حول الأمر القديس توما الأكويني. أترغب في أن تعرف كيف عرفتُ بذلك؟ عندما بدأت بمساعدة جماعة 14 حزيران وأدركت أنني قد اضطر إلى الضغط على الزناد في أحد الأيام، ذهبت لاستشارة مرشدنا الروحي، الأب فورتين. وهو راهب كندي، في سنتياغو. وقد رتب لي لقاء مع المونسينيور لينو ثانيني، القاصد الرسولي لقداسته. «هل إقدام المؤمن على قتل تروخييو خطيئة أيها المونسينيور؟» أغمض عينيه متأملاً. ويمكنني أن أكرر لك الكلمات التي قالها لي بلكنته الإيطالية. ثم أراني عبارة القديس توما في «خلاصة اللاهوت». ولو أنني لم اقرأ تلك العبارة لما كنت معكم هنا هذه الليلة.

عندما تحين لحظة نهاية الطاغية تجتمع خيوط كثيرة لتلتف حول رقبته فيصبح توظيف الدين مشروعا والحديث عن الوطنية مرشدا وتحالف قوى الفساد في الدولة العميقة شرطا واقتسام الغنيمة هدفا .

في كتاب تاريخ حياة طاغية لجون بول سارتر، وهو عبارة عن سيناريو في احد المشاهد التي تتحدث عن الطاغية جون اجيرا أصوات تتعالى من داخل الصالة التي تم تجهيزها كقاعة لمحاكمة الطاغية بداخلها نهض رجل ووقف على كرسي مطالبا بمحاسبة الطاغية : لقد وجه الثورة لمصلحته، واستبدل زعماء الحزب برجال من اعوانه . و رجل اخر كان يصرخ : لقد قضى على حرية الصحافة، واغتال لوسيان دريلتش، وقام فلاح من بين الحاضرين وصرخ لقد حرق قريتي، و فلاحة من خلف الصفوف تقول لقد نفى زوجي، اجتاحت الصالة زمجرة قوية .....وصرخ عامل في شركة البترول كل هذا لا يهم، المهم انه باع حقول البترول للأجانب .هذه اكبر جرائمه [8] . نعم عندما يسقط الطاغية يتحرر الناس من مخاوفهم لكنهم بجهلهم يعتقدون ان الحرية هدية تعطى وغنيمة تغتصب فيقعون من جديد في قبضة طاغية جديد وهذا حال الشعوب التي تفكر بالعاطفة وتفتقر الى منطق العقل، ان اغتيال الديكتاتور لا يعني بالضرورة نهاية الطغيان. ففي يوم 18 تشرين الثاني، أعلن التلفزيون أن قتلة الزعيم الستة، أربعة منفذين ومتواطئان قد هربوا، بعد أن قتلوا ثلاثة حراس كانوا يعيدونهم إلى سجن لافكتوريا بعد إعادة تمثيل للجريمة. في اليوم التالي لمغادرة الأخوة تروخييو البلاد، أُعلن عن عفو سياسي. وبدأ فتح السجون. وشكل بالاغير لجنة لتقصي الحقائق حول ما حدث «لمنفذي حكم الإعدام بالطاغية». وتوقفت الإذاعات والصحف والتلفزيون منذ ذلك اليوم عن تسميتهم بالقتلة؛ وسرعان ما تبدل لقبهم الجديد «منفذو حكم الإعدام»، ليصبح «الأبطال»، وبعد وقت غير طويل من ذلك بدأت تُطلق أسماؤهم على شوارع وجادات وساحات في كل أنحاء البلاد.ومعهم بدأ عهد جديد للطغيان

التحرر من الطغيان مشروط بتغيير ثقافي ونهضة فكرية ومبادئ أخلاقية، التحرر يحتاج الى روح متحررة متسامية، الى دولة مدنية تخضع فيها القوة الى القانون وتستمد فيها السلطة من الإرادة العامة لكننا اليوم نلاحظ على غرار الكثير من دول العالم سيطرة الدولة العسكرية، في مقال لأوريل كرواسون الجيش في أوقات الاضطرابات السياسية من يحرس الحراس ؟ كتب قائلا :"في الأنظمة الاستبدادية الاسيوية، كانت درجة عسكرة الدولة والمجتمع عالية، مقاسة من حيث نسبة الإنفاق العسكري في الناتج المحلي الإجمالي وحجم القوات بالنسبة للسكان. في جميع الأنظمة الاستبدادية، تم دمج الجيش في تحالف النظام الاستبدادي. في الأماكن التي مارست فيها القوات المسلحة حكمًا مباشرًا، مثل بنغلاديش وباكستان وتايلاند وكوريا الجنوبية، شرع الجيش توليه للحكومة مع الضعف المزعوم للمؤسسات المدنية، وطالب بدور قيادي في تحديث الدولة والمجتمع والاقتصاد، وشغل مناصب رئيسية في السياسة والإدارة والاقتصاد. حتى في الديكتاتوريات المدنية مثل تايوان والفلبين، كان للجيوش امتيازات بعيدة المدى" يبدو ان معادلة الاستقرار السياسي غير ممكنة في المدى القريب في الأنظمة الاستبدادية وان طريق التحول من الدولة العسكرية الى الدولة المدنية لايزال طويلا وشاقا.

 

عمرون علي - أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر-

.....................

الهوامش

[1]  يمكن العودة الى اللوحة من خلال هذا الرابط

http://www.travelingintuscany.com/art/ambrogiolorenzetti/goodandbadovernment.htm

[2] روح القوانين. مونتسكيو .ترجمة عادل زعيتر .مؤسسة هنداوي. ص87

[3] كتاب السياسة .أرسطو طاليس .ترجمه عن الاغريقية جورج بارتملي –سانتهيلير .نقله الى العربية احمد لطفي السيد .المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.ص510

[4] في العقد الاجتماعي او مبادئ القانون السياسي. ترجمة وتقديم وتعليق عبد العزيز لبيب. مركز دراسات الوحدة العربية. ص178

[5] يمكن الرجوع الى مقال. الدولة والعنف بين فوضى الغابة وطغيان الدولة ( بقلم د.خالص جلبي )

[6] الطاغية. دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي. أ.د.إمام عبد الفتاح إمام. عالم المعرفة عدد 183. ص123

[7] مقالة في العبودية المختارة. اتيان دي لابويسيه.ترجمة مصطفى صفوان .ص44

[8] تاريخ حياة طاغية. جون بول سارتر. ترجمة عبد المنعم الحفني. مكتبة مدبولي.ص 22

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم