صحيفة المثقف

علي محمد اليوسف: الشك في منهج الشك الديكارتي

علي محمد اليوسفتقديم: لعل تنسيب المنهج بمفهومه الفلسفي على وجه التحديد لديكارت هو ما إعتبره مؤرخو الفلسفة بداية وضع عدد من التجديدات ألإضافية النوعية الإنعطافية غير المسبوقة  فلسفيا منها على سبيل المثال، إدخال النزعة العلمية في مباحث الفلسفة كمنهج يعلي مكانة العقل، الشك بأعتباره مهماز إستثارة الإهتمام بوجوب الوصول الى يقينية المعارف التي ندركها، الدعوة الى المنهج الذي يقوم على محددات وقواعد وأحكام تجعل من هدف البحث يقوم على ثيمات قصدية يروم تحقيقها إعتماد الشك في المنهج، الإبتعاد عن كل تشتيت ذهني بالتفكير لا يقود الى أهداف محددة سلفا، الحقيقة الفلسفية العقلية التي لا تقاطع المهيمن اللاهوتي الديني ولا المنهج التجريبي العلمي، ألإهتمام باليقينيات البديهية القائمة على الوضوح التام الخالي من الأرتياب والشّك قبل التسليم بتلك البديهيات التي إعتبرها ديكارت تحمل برهانها اليقيني معها في وجودها الحدسّي الظاهرالوضوح لا من خارجها البرهاني وجودا الذي لا تحتاجه. وغير ذلك من تفاصيل فلسفية ظهرت دعوة الإهتمام الفلسفي بها مع إنبثاق المنهج الفلسفي التفكيري الذي ضمّنه ديكارت كتابه المعروف (مقال في المنهج). وهذه الورقة تتعرض بإقتضاب الى مناقشة بعضا من هذه التفاصيل التي ذكرناها متعالقة بالمنهج الديكارتي...

ماذا أراد ديكارت في المنهج؟

يعتبر كتاب ديكارت (مقال في المنهج) إنعطافة مفصلية على صعيد تخليص الفلسفة من هيمنة اللاهوت الديني الذي ساد القرون الوسطى في وصايته على كل من الفلسفة والعلم والعقل على حد سواء. وقد إعتمد ديكارت أسلوب الممانعة الناعمة على صعيد إتبّاع أسلوب ألمهادنة غير ألتصادمية بين دعوته وجوب خلق توليفة فلسفية تتقبل المنهج العام القائم على ألشك الموصل لحقيقة اليقين، كما تتقبّل المنهج التجريبي العقلي القائم على ألتجربة والتطبيق العملي بالحياة، كما تتقّبل اللاهوت في مرتكزه القائم على الإعتراف بوجود الله خالق كل شيء ومنبع كل وجود الضامن لكل حقيقة. دليل ذلك تعبير ديكارت " الفكر هو المدرك – بكسر الراء – لذاته والذي هو في ذاته مدرك الموجود الكامل الله. منبع كل وجود والضامن لكل حقيقة."1 .طبيعي لايكون هذا التعبير الفلسفي لم يسبق به أحدا من الفلاسفة ديكارت، لكن جديد ديكارت في طرحه دعوة التوافق المنهجي الذي تتعايش فيه المتناقضات الاربع (الفلسفة، العقل، العلم، والدين) دونما إختلافات تصل الى حد ممارسة ألعداء المسّتحكم والدموي في أغلب الأحيان بينهم بكل السبل المتاحة المشروعة وغير المشروعة التي سادت العصور الوسطى وفي القرن السابع عشر الذي عاشه ديكارت بكل مهيمناته القروسطية. مثال ذلك تصادم اللاهوت الديني الكنسي الكاثوليكي بالضد من العلم الفلكي والفيزياء وتصفية رموزه العلمية وتحجيم دورهم. برونو، غاليلو، كوبرنيكوس، نيوتن.كبلر وغيرهم.

مطالبة ديكارت أن يكون كل شيء ضمن حدود الوضوح التام كفيل بوضع كل شيء على محك الشّك الذي يعقبه اليقين العقلي في الصدق أو زيفه. الذي يعتبره ديكارت إدراكا لا يقاطع وعي الذات لحقيقتها الوجودية على صعيدي الأنطولوجيا والميتافيزيقا معا. ورغم تأكيد هذه الخصيصة الإنفرادية للذات، التي من خلالها جرى تمجيد وإعلاء نزعة العقل فقد رسم ديكارت هذه الميزة في تعاليها الذي يضمن للانسان إعتلائه الطبيعة، وفي ملازمة هذا التعالي الإقرار اليقيني الإيماني القاطع بوجود الله الذي هو منبع كل وجود والضامن لكل حقيقة.

من جنبة أخرى نجد منهج ديكارت بمقدار تأكيده النزعة العلمية التجريبية وهيمنة العقل وتعالي الذات كجوهر مركزي أكدّه في الكوجيتو أنا أفكر إذن أنا موجود. بمقدار ما جعل هذا التناقض في المنهج القائم على أولوية الشك بكل شيء يسبق  اليقين. فهو متناقض تماما من حيث أهمية التطبيق العملي الذي دعا له، تاركا الإهتمام المفروض في عدم إنسجام ومجانسة جمعه هذه الأقانيم ألمتناطحة الثلاثة (الله، العقل، والفلسفة) في نسق منهجي معرفي نظري محال تطبيقه الواقعي. بل وألأكثر إستحالة إعتماد دلالة أحد هذه الأقانيم في معرفة أحدهما الآخروعدم التقاطع والإصطدام معه. وهي أقانيم لكل منها خصوصية لا تلتقي ولا تتجانس مع غيرها.

دعوة ديكارت أهمية الوضوح اللغوي في كل شيء يجري التعبير عنه كمدرك عقلي رغم إعتمادها بدأب فلسفي مثابر ثيمة فلسفية اولى بعد ثلاثة قرون من عصر ديكارت، في الإهتمام الإستثنائي من قبل عمالقة فلسفة اللغة التحليلية الانجليزية وعلى وجه التحديد فينجشتين وجورج مور، نجد ديكارت يلجأ تحت رغبة تحقيقه التبسيط الواضح هاجسه الفلسفي البحثي الى مثل هذا التعبير الإفتعالي السطحي قوله " لفظ الفلسفة هذا معناه دراسة الحكمة، وليس معنى الحكمة قاصرا على الحيطة والتبصّر بالأمور، بل تفيد أيضا في معرفة جميع الأشياء التي يستطيع الانسان معرفتها إمّا لتحقيق الهداية في حياته أو المحافظة على صحته أو لإختراع جميع الفنون"2

هذه العبارات الانشائية لا حاجة الإشارة الى تفككها الإفتعالي غير المترابط بما تحتويه من قفزات كنغرية من معنى لمعنى آخر لا علاقة ترابطية بينهما في جمع دلالة الحكمة الفلسفية في الحيطة والتبصّر، مع أهمية المحافظة على الصحة، وأخيرا أختراع جميع انواع الفنون.!! لم يضع ديكارت في عبارته مقوّمات وإشتغالات وإختلافات هذه القضايا الجوهرية الإستثنائية التي يقوم عليها جوهر الوجود الانساني التي جمعها في توليفة توفيقية تلفيقية تعسّفية لا يمكنها إلغاء التفاوت الكبير بينها في توزيع مهام الفلسفة على أمور جانبية لا يجمعها جامع بمباحث الفلسفة المهّمة الكبرى.

ديكارت والرياضيات

رغم محاولة ديكارت ربط الرياضيات بالفلسفة التي تعود أصولها الى عصرافلاطون، إلا أن منهج ديكارت دعوته إحياء مبحث الرياضيات في إعتباره مفتاح معرفة كل العلوم، وأنه لا فائدة ترجى من المنطق وحده فهو لا يضيف شيئا للعلم. معتبرا أسس المنهج تقوم على دعامتين إثنتين "جميع الأفعال الذهنية التي لا نستطيع بها أن نصل الى معرفة الأشياء دون أن نخشى الزلل عبارة عن فعلين إثنين هما الحدس والإستنباط."3 ويرى ديكارت" الحدس  ليس شهادة الحواس الكاذبة، ولا الحكم الخادع حكم الخيال، وإنما الحدس هو الفكرة التي تقوم في ذهن خالص يصدر عن نور العقل وحده."4

تجريد الحدس عن شهادة الحواس المضللة المرفوضة، وإبعاده الحدس عن حكم الخيال الخادع، يتطلب ذهنا خالصا يصدر عن نور العقل كما يدعو ديكارت له. كلام أيضا غير مترابط فلسفيا لا يهدف تحقيق نسق تعبيري منّظم يقودنا الى يقينيات لا شك يعتورها ويتداخلها، وكيف نحصل على ذهن صاف يستمد حيويته التوليدية للأفكار من نور العقل في تعبير صوفي ميتافيزيقي ظاهره علمي عندما نعتبر نور العقل هو التجربة العلمية التطبيقية بالحياة.. وليس نور العقل وفق المنطق الصوفي الميتافيزيقي المنفتح على الذات الالهية روحيا.

لا نجد في مثل هذه التعابير تعالقا معرفيا يقوم على حقائق العلم والإستنباط الفلسفي المبني على تحليل العقل الذي يجب تتويج يقينياته العلمية الواضحة بالتطبيق العملاني لها بالحياة كما أراد ديكارت تحقيقه نظريا فقط... الوضوح بالتعبير لايعني تمرير المجازات اللغوية في حمولاتها المتعددة الوجوه في القراءة التأويلية التي تبحث عن تطابق تام بين اللغة ومدلولاتها الوجودية. ثم الوضوح المطلوب لوصول قناعات يقينية لا يتم إلا في إعطاء كل مفهوم دلالته الحقيقية ومجال إشتغاله من غير دعوة الى ربط تعسّفي محال تطبيقه خارج التنظير الفلسفي. فلا تستطيع الفلسفة التوفيق التلفيقي بين نزعة العقل العلمية التجريبية مع ميتافيزيقا وجود الله الذي إعتبره ديكارت ضمانة معرفة كل حقيقة فلسفية وعلمية وأفرد لذلك كتابه (التاملات).

ديكارت ومناوئيه من الفلاسفة

ثم أن ديكارت ذهب ألى التسليم ب(الأفكار الفطرية) التي أورثها لكانط من بعده، الذي هو الآخرقال بوجود أفكار (قبلية) فطرية مركوزة بالذهن والعقل، وهي مباديء سابقة على كل تجربة علمية. وبالخصوص حين ذهب كانط في كتابه نقد العقل الخالص، أن خاصّية الإدراك الجوهرية للانسان تقوم على ركيزتي ما أسماه قالبي الزمان والمكان بإعتبارهما جوهري الإدراك وهما قالبان مركوزان كمعطى فطري عقلي في ملازمتهما الوعي الإدراكي وبغيرهما لا يمكن العقل ألقيام بمهمته الإدراكية . وأنكر كلا من جون لوك وديفيد هيوم مقولة الأفكار الفطرية القبلية، مؤكدين على أن كل إدراك عقلي يقوم على التجربة الحسّية المستمّدة من الواقع وفاعلية العقل التوليدية للأفكار، وما لا تعبّر عنه الافكارالحسيّة يتعّذّر إدراكه العقلي وغير موجود في عالم الاشياء..

لم يكن ديكارت على مقدرة إستشرافية واضحة أن طروحاته الفلسفية ستجد لها معارضة ومداخلات لم يعمل لها حسابا، فقد طالب السايكولوجيين من بعده تطابق العقل مع النفس ليس بالمعنى الذي عبّر عنه ديكارت إعتباره العقل والنفس جوهرين منفصلين غير متطابقين، لكنهما جوهران متلازمان في وحدتهما التي تجمعهما صفة الخلود لكليهما، في حين إعتبر السايكولوجيون " العقل هو الجوهر المتعالي فوق المشاعر والارادة " 5 وهو تعبير علمي دقيق.

من جنبة ثانية قام فلاسفة الأخلاق نفي الطابع العقلي عنها، وأنكروا أن يكون للاخلاق ومعاييرها أصل تجريبي علمي، ونفوا أن يكون للأخلاق قاعدة سيسيولوجية مجتمعية تسري بين الناس، وهذا الطرح على غرابته كان كانط من أقوى الداعمين له....

ومع كل الثغرات التي شابت طروحات ديكارت الفلسفية المنهجية العقلية فقد أعتبره مؤرخي الفلسفة، أنه فيلسوف إستطاع تحقيق ما عجز عنه غيره فهو "قوّض هيمنة فلسفة ارسطو – التي دام تأثيرها على أوربا الفي عام هي العصور الوسطى الاوربية – وقضى ديكارت حسب مناصريه على خرافات العلوم الفلكية التي سبقت علوم كوبرنيكوس وبرونو وغاليلو في نسفهم إصرار الكنيسة القول أن الارض مركز الكون وهي ثابتة لا تتحرك وهو ما قال به ارسطو.

وأخيرا حسب مناصري ديكارت أنه أرسى سلطان تحكيم العقل بكل شيء قبل التسليم بصحته. ومنهم من إعتبر ديكارت فيلسوف التمهيد للثورة الفرنسية ومفتاح دخول أوربا عصر الأنوار، وبعضا من أفكاره بقيت في مطاولتها الزمنية التاريخية الى مرحلة ما بعد الحداثة الأوربية. وسنوّضح لاحقا بعض هذا التداخل الفلسفي.

معركة الذات مع ديكارت

من المعلوم أن الكوجيتو الديكارتي ألشهير أنا أفكر إذن أنا موجود فتح بابا واسعا أمام الفلاسفة من بعده، وجرت تحليلات لمقولة ديكارت لها أول ولم يكن لها آخر. أبرز الإنتقادات كانت في تأكيد وعي الذات في ربطه بالتفكير المجرد عن موضوعه الذي هو في جوهره تعبير إنفرادي سلبي في إثبات الوجود. وعندما يقول ديكارت "أن مهمة الفلسفة يدخل فيها علم الله، وعلم الطبيعة، وعلم الانسان، لكن دعامة الفلسفة هي في الفكر الذي يعي ذاته، والذي هو ذاته مدرك من غيره "6

وإذا ما عدنا الى هذه الإرهاصات المؤثرة التي تركها ديكارت في الفلسفات الاوربية التي رافقت الحداثة وإنتهت في ما بعد الحداثة، نجد أن تلك الطروحات كانت مناسبة لعصرها القرن السابع عشر، وليس من مهام هذه الورقة إستعراض كل التفاصيل التي طرأت طيلة مدة ثلاثة قرون على أفكار ديكارت من قبل فلسفات متعددة مارست النقد الهادف تماما لأفكار ديكارت وكانت صائبة تماما. فعلى صعيد وعي الذات فقط نجد ردود الأفعال على تقديس ديكارت للذات كتحصيل وعي إنفرادي يقوم على أهمية الفكر السابق على وعي الذات لوجودها، نجد فلاسفة الوجودية كلا من كيركارد، وبرينتانو، وهوسرل، وسارتر، وهيدجر، وجبرييل جميعهم وقفوا بألضد من فهم كوجيتو ديكارت لكن بفروقات فلسفية ليست جامعة لهم.

معلوم جيدا أن الوجودية الحديثة إعتبرت مركزية الذات جوهرا فلسفيا راكزا في محورية مباحثها، ولم تنكر على ديكارت إهتمامه الإستثنائي بالوعي الذاتي، لكنها أنكرت عليه مسألتين الاولى ليس وعي الذات ناتجا عن الفكر بمعزل عن الوجود في -  عالم على حد تعبير هيدجر. والثانية أن الذات المدركة لوجودها الفعلي ضمن عالم هي ليس لغاية إعتلاء الذات الانسانية ظهر الطبيعة والسيطرة التامة عليها كما أراد وعبّر عنه ديكارت، بل وعي الذات الحقيقي المتسم بالقصدية سلفا ليس معزولا عن مجتمع بشري كما طرحه فلاسفة الوجودية لفهم الحياة. رغم أن ديكارت افصح بوضوح أن مهمة العقل الفلسفي تزويدنا بالمعرفة. ما جعل مبحث الابستمولوجيا في عصره ومن بعده هي الفلسفة الاولى. ما ترتب عليه إدانة فلاسفة اللغة أفكار ديكارت في تضليله الفلسفة البحث عن المعرفة لا غيرها.

كما شنّت البنيوية هجوما لاذعا شديدا في إنكارها تمجيد العقل وأعلاء ذاتية الانسان المحورية في مباحث الفلسفة الى ماقبل عصر ظهورالفلسفة الوجودية، وحاربت الميتافيزيقا التي أوصلت الكنيسة مكرهة رفع يدها عن هيمنة اللاهوت الديني على الحياة بمجمل مناحيها وفي المقدمة رفع وصايتها أمام نهضة وفتوحات العلوم بمختلف المجالات. البنيوية المبكرة كانت إنقلابا جذريا على نسف افكار ارسطو وكذلك افكار ديكارت من بعده.

وفي مرحلة متقدمة لاحقة لطروحات البنيوية في تمجيدها عصر الأنوار والحداثة، قامت البنيوية بردّة فعل إنقلابية تماهي ما بعد الحداثة في الخروج على ثوابت العقل ومركزية الانسان والذات وحتى التشكيك بالعلم ومنجزاته التكنولوجية الباهرة، وأعتبرتها مرتكزات ميتافيزيقية لا قيمة حقيقية إيجابية لها. وأن تمجيد العقل العلمي والتكنولوجي في تخليصه اوربا من نفق القرون الوسطى، لم يلبث أن أدخل اوربا في حرب عالميتين حصدت ارواح ملايين البشر، لذا نجد الوجودية ومن بعدها البنيوية كفرتا بالذات وتمجيد العقل ومركزية الانسان.

ماجعل جاك دريدا متمّسكا متطرفا في مقولته بإستراتيجية التفكيك تحت عنوان لا شيء خارج النص. وأتبعت البنيوية بكافة تياراتها منهجا جديدا قيامه ومرتكزه  فلسفة اللغة والعقل والقراءة الجديدة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى وبذلك أخرجت البنيوية الفلسفة من نفق التيه الضائع في معالجة قضايا فلسفية زائفة طيلة قرون تاريخية من عمر تاريخ الفلسفة كانت مثار إهتمام الفلاسفة بهوس كبير. تاركة الباب في مجال فلسفة اللغة مفتوحا على مصراعيه أمام الفلاسفة الفرنسيين والاميركان والانكليز والالمان إختراعهم فلسفات عديدة تقوم على فلسفة العقل ألنقدي والتحوّل اللغوي بعد مغادرة فلاسفة البنيوية لهذا المبحث وإتجاههم نحو معالجات فلسفية جديدة مثل نقد السرديات الكبرى قاطبة في مقدمتها نقد ألماركسية قبل إنهيار الإتحاد ألسوفييتي القديم، وانتقاد سردية الدين الراسخة الجذور، وكذلك فعلت مع التاريخ في الإهتمام بالانثربولوجيا عند الاقوام البدائية كما فعل شتراوس، ونقد علم النفس الفرويدي كما قام به لاكان وفوكو ونقد الماركسية بضراوة من جانب شتراوس والتوسير وغير ذلك من مباحث فلسفية عديدة خارج مركزية فلسفة اللغة التي فتحت البنيوية ابوابها ولم تستطع السيطرة على اقفالها.

ديكارت والشّك

ما نذكره مقاربة لتفسير أبرز ما أراده ديكارت في عرضه موضوعة الشّك في تعالقها مع المنهج، علما أن العديد من فلاسفة اليونان كانوا يتعاطون مذهب الشك بالفلسفة وأنكروا على العقل مصداقيته اليقينية المطلقة، ومعنى الحقيقة في معارف عصرهم، وفي الفلسفة الغربية الحديثة برز كلا من مونتاني وشارون وديفيد هيوم، لكن تطرف هؤلاء في مذهب الشّك لم يصل حدود  الشك في قدرة العقل وقيمته المعرفية. وهذا إختلاف جوهري كبير بين الشك الديكارتي وهؤلاء الفلاسفة الشّكاك. نفهم من طروحات ديكارت الشّكية التي تستوقفنا كوسيلة منهجية في إكتساب المعرفة "الابستمولوجيا" أبرزها:

- "ألبحث عن الحقيقة يحتاج الإنسان مرة في حياته أن يضع جميع الاشياء موضع الشك قدر الامكان " 7

- "ألهجوم الشاك على كل المباديء التي كان يعتمدها الباحث الفلسفي، سواء أكتسب تلك المباديء عن طريق التعلم، أو عن طريق إدراكها بالحواس"8

إذا رجعنا قليلا الى أفكار ديكارت حول أهمية المنهج في معرفة الحقيقة وفهم الوجود فهما سليما، نجده ينطلق من مسلمة كل ما هو بديهي حدسي يمكن أن يكون يقينا قطعيا يمكننا الإستدلال به على غيره من معارف لم تكتسب مصداقيتها.

ربط ديكارت الحدسي والبديهي على أنهما ليسا بحاجة الى برهان يؤكد معرفتهما اليقينية الإستنباطية في إعتمادها دلالة معيارية واحدة في معرفة غيرها من معارف صادقة. كما نجد في الشك الديكارتي لا قيمة صادقة يمكن الوثوق بها حول ألخبرات ألمكتسبة عن طريق العقل والحواس فكلاهما ليسا وسائل إستنباط معرفي، فلا الحواس غير خادعة ولا مدركات الذهن العقلية لها قيمة قبل تصفير مدارك الذهن من كل ترسبّات الخبرة السابقة ومعارف قبلية، وأعتبار الشّك ملازما لها قبل التأكد من يقينيته كما أن الدعوة الديكارتية في تصفير الذهن والعقل من مدركاته القبلية كافة يعدم قيمة العقل أن يكون مرجعية معيارية لفهم ما هو بديهي صادق لا يحتاج البرهنة عليه عن ما هو زائف لا يمتلك الثقة به.. شك الانسان بمدركاته ألمكتسبة هي أولى مراتب الشك اللاحق الذي يطال كل المدركات البعدية في موجودات وظواهر العالم الخارجي. كون الشك جزءا هاما من منهج التحقق عن ألاشياء في صدقيتها وفي زيفها معا.

ديكارت وخداع الحواس

في هجوم ديكارت على المعارف القبلية المكتسبة على أنها زائفة إكتسبناها تلقينا ببغاويا عن طريق تعليمنا في مقاعد الدراسة أو عن طريق الحواس الخادعة ولم تكن تتوفر لدينا القدرة على تمحيصها جيدا قبل تسليمنا بصحتها أو إكتشافنا زيفها.

إن عدم التفريق بين خداع الحواس الواضح في العديد من المجالات التي ندرك زيفها، وبين إدراكات الحواس في نقلها عبر الجهاز العصبي الى الذهن بعد فلترة العقل لها ومنحها جواز مرورها الى ألذهن التي لا تكون زائفة تماما بل تكون مدركات حسّية إنطباعية تحتاج كلمة العقل الفصل بشأنها.

فمثلا في تأكيده زيف الحواس بتشكيل مدركاتنا، يعتمد تفسيرا خاصا به يقوم على علاقة الشعور باليقظة والوعي الإدراكي الحسّي بعالم الموجودات من حولنا، ويعتبر هذا النوع من الإدراك لا يختلف عن علاقة اللاشعور في تداعياته الصورية التي لا يحدّها زمان ولا مكان كما في إدراكنا الأشياء في حالة اليقظة.

إدراك الشعور لموجودات العالم الخارجي لا تكون زائفة وعشوائية بإقترانها حسب تعبير ديكارت بالحواس الكاذبة دائما والمفاهيم القبلية المكتسبة من المحيط عبر التجربة المتراكمة في مخزون الذهن الواجب التحرر الكامل منها.. ويصل ديكارت قوله نصا " إننا نعتقد في النوم أمورا ونتخّيل أحوالا ونحسب لها ثباتا وإستقرارا ثم نستيقظ فنعلم أن ما رأيناه أثناء النوم كانت خيالات لا حاصل لها، كما ليس هناك إمارات يقينية يمكن أن نمّيز بها اليقظة من النوم بوضوح ." 8

طبعا يتوجب علينا التفريق بين تداعيات اللاشعور أثناء النوم على أنها خيالات لا يمكننا السيطرة عليها إدراكيا كما نحن نتعامل مع مدركاتنا في حال اليقظة والشعور، وهذه التداعيات الخيالية في اللاشعور أثناء النوم لا سلطان للعقل عليها. ولا يترتّب على هذا إرباكنا في عدم إمكانية فرز زيف الإدراكين في اللاشعور أثناء النوم عن إختلافه في الشعور أثناء اليقظة. ولا يمكننا التسليم أننا لا نستطيع تمييز حقيقة الواقع الحسّي المدرك عقليا شعوريا، عن واقع تداعيات الخيال والذاكرة المتقافزة بلا نظام في ذهن النائم. ولا بأس أن نصف كلا الإدراكين زائفين من حيث الإحتكام لمرجعية العقل لكن لا نعجز قطعا عن عدم إمكانيتنا من التحقق اليقيني أن ما نعيشه في عالم اليقظة هو العالم الحقيقي الذي نتعامل معه بمدركات العقل ألمنظمّة زمكانيا، بإختلافه عن عالم اللاشعور الذي ندرك لا واقعيته وليس زيفه فقط حال إستيقاظنا من النوم.

- الشعور كوعي قصدي عقلي هو وسيلتنا الوحيدة في إدراكنا عالم الموجودات الخارجية من حولنا. بخلاف مدركات اللاشعور التي ندركها أثناء النوم في عدم إنتظامها لا يمكن مشابهتها بنفس الإدراك في حال اليقظة، والتي يعتبرهما ديكارت كلا الإدراكين في الحالتين تعبّران عن الزيف المربك لنا عندما نعجز التفريق بين صدقية مدركاتنا الشعورية باليقظة عن صدقية مدركاتنا اللاشعورية بالمنام. ولا يمكن تمرير الخلط بين إدراك الشعور هو نفسه إدراك اللاشعور في إشتراكهما بخاصية الزيف. بل يكون التفريق بينهما بخاصية (الواقعية) الأنطولوجية التي يدركها العقل الشعوري الواعي بين عالم  نعيشه ضمن مجتمع تحكمه علاقات منوعة ومختلفة، وبين عالم حلمي لاشعوري تتقافز فيه صور ألأشياء التي يدركها العقل بعشوائية لا نظامية لا يمكن السيطرة الشعورية عليها.

ديكارت والحدس

يعتبر ديكارت الحدس العقلي هو المصدر الاول للمعرفة لذا لم يكن فيلسوفا تجريبيا، وبحسب تعبيره " لما كانت الافكار الواضحة والمتميزة تقوم عليها كل معرفة يقينية لا يتم التوصل اليها عن طريق الملاحظة الحسّية، فإن مصدرها لا بد أن يكون موجودا في الأفكار الفطرية" 9

نستنتج من هذا أن ديكارت يعطي الحدس ميزتين:

- الحدس عقلي وليس تجريبيا كونه يحمل برهانه في بديهيته المدركة.

- الحدس فطري وليس مكتسبا من التجربة الحسيّة في المعرفة.

برأينا أن كل ماهو عقلي حدسي يستمد يقينيته في إدراكه ومعرفة الاشياء بالفطرة حسب تعبير ديكارت هو دوغمائية تحاول تطويع العقل في الإدراك لما هو ليس تجريبيا يقبله العقل مصدره الإحساسات المباشرة التي ينكرها ديكارت.

والحدس الفطري لا يكون عقليا بمعنى أنه لا يكون مصدره العقل كيقين لا يقبل النقد المشكك به، فكل ما لا يخضع لتجربة العقل لا يكون يقينيا صادقا يصدرفطريا عن العقل، وكل معرفة حسيّة تصدر عن العقل هي معرفة تجريبية، العقل لا يحدس الاشياء بيقينية قاطعة واضحة ومتميزة لا تحتاج البرهنة عليها كما يرغب ديكارت أن تكون مستمدة من العقل صادرة عنه بالفطرة في إلغاء سلسلة منظومة الإدراك العقلية. الافكار الفطرية إذا ما كانت مقبولة فاعليتها فهي عاجزة تماما عن مجاراة متغيّرات الواقع الإدراكي للعقل، بمعنى ليست الفطرة تقود العقل بل العقل يقود الفطرة ليس كقوالب سابقة قبلية تصب بها وتستوعبها. كل معرفة لا تأخذ بمبدأ تجريبية ما هو مدرك للعقل، كل ماهو فطري يرجع الى تراكم خبرة معرفية مكتسبة، والعقل يدير إدراكاته لموجودات العالم الخارجية ليس بالإحساسات الخادعة وحدها بل يدركها بما لا يمكن تعارضها مع تجريبية العقل وليس في تطويعها لحدس العقل كوثبة مقفلة على يقين يحتمل مفقوده التجربة البرهانية ليكتسب صحة التسليم بصدقه اليقيني. يمكننا ألقول أن ألحدس لا عقلي ولا فطري بل هو إحساس يوجهه الإنفعال النفسي الميتافيزيقي الذي يركن تجريبية العقل الحسيّة جانبا.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

...................

الهوامش

1- د امل مبروك /الفلسفة الحديثة/ ص69

2- نفسه ص 70

3- نفسه ص 77

4- نفسه ص 77

5- نفسه ص70

6- نفسه ص 82

7- نفسه ص 83

8- نفسه ص 83

9- نفسه ص 90

10- نفسه ص 84

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم