صحيفة المثقف

بسّام البزّاز: رأسا على عقب.. تشخيصٌ ولا حلول

قليلة هي العناوين التي ترسم المضامين رسما وتوجز المحتويات في ثلاث كلمات. عنوان لا يصحّ أمامه إلّا أن نتصوّر شيئا مقلوبا. فما بالك وقد عُزز العنوان الرئيس بعنوان ثانوي «مدرسة العالم بالمقلوب»، وعُزّز العنوانان بصورة بهلوان مستعد في أيّة لحظة للسير على راحتيه في شقلبة تقلب معدته قلبا؟

أمّا مواطن الانقلاب فتظهر في كلّ جانب وناحية ونشاط، وإن كان العنوان الشامل هو غياب العدالة والمساواة بالمعنى الواسع للعدالة والمساواة.

يضحكنا ويثير استغرابنا أن نرى بهلوانا يمشي على يديه

ونعاقب لاعب كرة القدم الذي تمسّ الكرة يده

وننذر لاعب كرة اليد الذي يتعمد ضرب الكرة بقدمه

على الرغم من أنّ عالمنا وكلّ ما يحيط بنا يفعل ما يفعله البهلوان واللاعبون فلا نضحك ولا نعاقب ولا ننذر.

لماذا؟

لأنّ اعتدنا أن نرى عالمنا مقلوبا. ولأنّنا ألفنا ألا نرى الأمور في نصابها ولا المياه في مجاريها.

ومن الطبيعي ألّا نستغرب أيّ اعوجاج في عالم أعوج انقلبت فيه المفاهيم وتغيّرت المسميات وانحرف الكلم عن مواضعه.

جهلة يتحكمون ويحكمون

قتلة طلقاء السراح يكرّمون

ضحايا يدانون ويحبسون

نساء رجال وبالعكس.

كلّ شيء منفوخ أو مزيّف

كلّ شيء مقلّد أو محرّف

دور علم تخرّج جهلة

ودور عبادة تراوح في مكانها.

قلّة من المصلحين الناصحين

وكثرة كاثرة من المخربين الفاسدين.

**

أبلغ ما في الكتاب نهايته المعلّقة في الهواء...

ولكن لا بدّ للكتاب من خاتمة.

فكيف ختم غاليانو كتابه؟

وبأيّة تخريجة خرج؟

اكتفى بكلمات قال فيها:

**

انتهى المؤلّف من هذا الكتاب في آب 1998.

من أراد الاطلاع على تكملته فما عليه إلّا أن

يتابع نشرات الأخبار كلّ يوم.

**

لا ينقص من قيمة الكتاب أنّه ألّف قبل أكثر من عشرين سنة.

ولا يعيبه أنّ أمثلته مأخوذة من أحداث لا يتعدى أحدثها عام 1998.

لأنّ القصّة واحدة

والمشاهد تتكرر.

قد يتغيّر مسرحها ووقتها وأبطالها

لكنّ المخطط الذي تسير عليه واحد

لأنّ العقلية التي أخرجته وأنتجته ومولته واحدة.

**

أعيبُ على الكتاب أمرين:

أولهما أنّ الكاتب يتكلّم عن ظلم أصحاب المال وأصحاب السلطة للناس، لكنّه لا يتكلّم عن ظلم الناس لأنفسهم.

لا يتكلّم عن النفاق الفردي والجمعي

ولاعن الزاحفين والانتهازيين والمتملقين والمنبطحين وماسحي الجاكيتات ولاعقي الأحذية.

لا يتكلّم عن انقلاب "المستضعفين" على أنفسهم.

وكأنّ المنظومة هي من صنع الامبرياليّة والدكتاتورية والديمقراطية المزيفة وحسب.

أمّا ثاني المآخذ التي آخذها على الكتاب فهو أنّه درس وبحث وشخّص العلّة لكنّه لم يوجهنا إلى الحل. 

أخذ الصورة الشعاعيّة لكنّه لم يعطنا الدواء.

شخص الظالم بالاسم والرسم وأدانه، لكنّه لم يرسم لنا خريطة الطريق لمحاربته والتخلص منه.

عرّاهم لكنّه لم يحشد الحشود ضدهم.

أوصلنا إلى نصف البئر

ثم...

قطع الحبل بنا.

**

ربّما لم يشأ غاليانو أن يتحوّل من "محسّس" إلى "محرّض"

لم يرد أن يكون معالجا، بل اكتفى بالتنظير وتأشير موضع الخلل.

فالظروف تحكم

والنفوس تحكم

وهو لم يشأ أن يغوص في البحر اللجيّ أكثر ممّا غاص.

**

فبماذا سنخرج من قراءة هذه الصفحات والتفكّر في الحالات الكثيرة التي يتطرق إليها الكتاب؟

أجزم بأنّنا سنكون، بعد قراءة الكتاب، أكثر وعيا بما يدور حولنا وأكثر فهما للأحداث، لأنّ الكتاب يزودنا بالكثير من الشواهد والحجج على ما يدور.

سيكون منطلقا لتطبيق قاعدة ذهبيّة قديمة. إنّها قاعدة التعامل مع كلّ منكر وكلّ ظلم:

من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده

فمن لم يستطع فبلسانه

فمن لم يستطع فبقلبه

وذلك أضعف الإيمان

حسبنا أن تحقق ترجمة الكتاب هذا الهدف الذي أحسبه هدف المؤلف أيضا.

 

د. بسّام البزّاز

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم