صحيفة المثقف

مفيد خنسه: الشاعر الليبي محمد المزوغي في مخمسات الحب والحنين والاغتراب

مفيد خنسة"(النوستالجيا) هو مصطلح يستخدم لوصف الحنين إلى الماضي، وأصل الكلمة يرجع إلى اللغة اليونانية إذ تشير إلى الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد، تم وصفها على أنها حالة مرضية أو شكل من أشكال الاكتئاب في بدايات الحقبة الحديثة، ثم أصبحت بعد ذلك موضوعا ذا أهمية بالغة في فترة الرومانتيكية . في الغالب النوستالجيا هي حب شديد للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها". هذا المعنى المستخلص من موسوعة (غوغل)، أما الشاعر الليبي محمد المزوغي يضيف في مستهل مجموعته الشعرية التي حملت العنوان نفسه: (النوستالجيا) حالة إنسانية تعنى بالحنين المسكون بالوجع لبانوراما قديمة تضمنا وتضم المكان والزمان اللذين كانا مسرحا تشكلت على ركحه أحداث نعتقد أنها الأجمل والأقرب فنحنّ إليها ونحنّ إلينا من خلالها، ولكن نحو (أنوستالجيا) أعمق ... يمكن القول: إن الحنين إلى الماضي لا يتعلق وحسب بالتشوق إلى وقت ما، وزمن ما وجد فيهما الإنسان بهجة الحضور وسكينة النفس وصفاء الرؤيا، فحاول استحضارهما أو الهرب إليهما . بل يتعلق أيضا بحنين الروح إلى نشأتها الأولى قبل أن تسجن في قفص العظام الذي نسميه جسدا، بل إن الحنين إلى ماضي الجسد الذي تعبر عنه (النوستالجيا) هو في الحقيقة مظهر من مظاهر الحنين إلى ماضي الروح، المسؤول الأول عن كثير من مشاعرنا وسلوكياتنا ربما من صرخة الميلاد حتى شهقة الخروج .

ونلاحظ هنا أن الشاعر يقدم لنا مساعدات تمهيدية لفهم المخمسات التي تتضمنها المجموعة الشعرية، ولكن على أهمية هذه المساعدات فإن المساعد الأهم هو القصيدة الشعرية نفسها وسأختار للدراسة والتطبيق نماذج من هذه المخمسات:

سأقول (أنت)

وربما أعني (أنا)

و(هناك) حيث أشير

قد تعني (هنا) (1)

حسن شهاب الدين

الفرع الأول: (بعينيك)

يقول الشاعر:

(أراقب في المرآة وجهي

فلا أرى سواك

فقل لي:

من أكون أنا إذن؟!

وهذا الذي

يدعى الحنين وجمره

يضيء ضلوعي

في ليالي ّقل لمن؟!

وما بيننا لقيا

أغيب إذا سرى

حضورك حتى ظُنّ أني َ

لم أكن

بعينيك لا عيني – حين أرى – أرى

وأنت الذي يبدو

وأنت الذي بطن

وأنت الذي في الصحو

يسكر ذكره

وفي السكر معنى الكل

في طيه ارتهن)

هذا الفرع يبين الشاعر فيه رؤية العين لما ظهر ورؤية القلب لما بطن، والعلاقة بينهما من منظور شعري، وعقدته (أراقب في المرآة) وشعابه الرئيسة هي: (فلا أرى سواك) و(بعينيك لا عيني) و(حين أرى) و(أرى) أما شعابه الثانوية هي: (فقل لي) و(من أكون أنا إذن) و(هذا الذي يدعى الحنين وجمره) و(يضيئ ضلوعي) و(في ليالي قل لمن؟!) و(ما بيننا لقيا) و(أغيب إذا سرى) و(حضورك حتى ظن أني لم أكن) و(وأنت الذي يبدو) و(وأنت الذي بطن) و(وأنت الذي في الصحو يسكر ذكره) و(وفي السكر معنى الكل في طيه ارتهن) .

في المعنى:

لا يمكننا تجاهل المفتاح الذي اعتمده الشاعر المزوغي في قول الشاعر حسن شهاب الدين (سأقول (أنت) .. وربما أعني (أنا) .. و(هناك) حيث أشير .. قد تعني (هنا))، والتركيب صوفي جملة وتفصيلا، وليس جديدا في الشعر العربي هذا الأسلوب في استخدام التراكيب اللغوية من حيث تعدد الجهات، وعلى وجه الخصوص علاقة المحب بالمحبوب، ورحلة الوجد للمتصوف التي زادُها الحب وناموسها الزهد، إلى حيث التماهي بينهما في لحظات الصحو، فتتجاوز الروح الكثيف إلى البسيط، ويصبح المتصوف بعد هذه الرحلة الطويلة من الصبر والمكابدة والمعاناة والتضحية، بعد هذا الشوق والوجد وحرارة الحب، بعد هذا التأمل والتفكر والعزلة والانقطاع، بعد هذا الحرمان والهجر والبعد والجوى، بعد هذا النأي والفرقة والمصابرة، في حالة من الهيام والسعادة، تجعله أكثر قربا من الله، وقوله: (سأقول: أنت وربما أعني أنا) أي كل الأوصاف التي يقولها المتصوف العاشق التي تحد الخالق في زمان أو مكان فتلك الصفات بالمخلوق تليق وإليه عائدة وهذا ما يعينه القول، وكل الصفات التي تشير إلى الحيث في الملكوت الأعلى إنما المقصود فيها هنا هذا العالم الأرضي، طبعا هذا في العام ويمكن أن ينطبق المعنى على المفهوم النسبي في الزمان والمكان، وحتى بمعنى الاشتراك بالصفات للمحدثات .

ومعنى الفرع يدور في هذا الفلك من المعاني، فقوله: (أراقب في المرآة وجهي / فلا أرى سواك / فقل: / من أكون أنا إذن) المرآة هنا تعني مرآة الحقيقة في الخلق والوجود، والوجه إشارة إلى الفيوضات الإلهية المتجلية فيه، العينان ونعمة البصر، الأذنان ونعمة السمع، الفم ونعمة النطق، الخدان ونعمة الجمال، الأنف ونعمة حاسة الشم، و(أراقب): أي أتأمل وأتبصر، ومعنى القول: حين يتأمل الشاعر المتصوف تجليات الفيوضات الإلهية في تكوين الوجه على الصورة الآدمية التي خلقها الله فإنه لا يرى سوى عظمة الخالق وقدرته، فيقف في حالة من التحير الصوفية التي تدفعه إلى مزيد من الحب إلى المعرفة والتقرب بهذه المعرفة إلى الموجد المكون فيتساءل: مادام وجهي دالا على عظمتك، فما هي حقيقة وجودي أنا العبد الفقير الفاني؟ وأما قوله: (وهذا الذي / يدعى الحنين وجمره / يضيء ضلوعي في ليالي قل لمن؟!)، (الحنين والجمر): إشارة إلى شدة الشوق وحرارة الحنين، (يضيء ضلوعي): يعني سراج الحب الذي يضيء الجسد، و(في ليالي): يشير إلى السهر والانفراد والنجوى، ومعنى القول: وهذا الشوق الكامن في نفسي والذي يجدد الأمل في إنقاذي من الظلمة إلى النور، هذا كله لمن؟ وقوله: (وما بيننا لقيا / أغيب إذا سرى / حضورك حتى ظن أني لم أكن)، فإن (وما بيننا لقيا): إشارة إلى حالة الصحو التي يلتقي فيها المتصوف العاشق بالمحبوب حيث يتجلى الحب في أبهى صوره، و(أغيب إذا سرى حضورك): يعني شدة تجلي ضياء المحبوب للحبيب يطغى على ضياء حبه المتوهج بالشوق، (حتى ظُن أني لم أكن): أي يضعف إلى درجة يكاد فيها ألا يكون شيئا، ومختصر القول: إذا تحرك هذا الفيض الإلهي من الحضور بعد السكون للتجلى، يطغى على أنوار القلوب حتى تغيب تلك الأنوار ويحسب أنها ليست موجودة من شدة سطوع ذلك الحضور، وقوله: (بعينيك لا عيني - حين أرى - أرى) لأن عينيه شحميتان لحميتان دمويتان، ولولا الفيض الإلهي النوري فيهما فلا تقدران على الرؤية والبصر، فالمحب يرى بعين الحبيب لا بعينه، ولذلك حين يرى بعين المحب تكون رؤيته حقيقية لا زيغ فيها ولا شك، بينما إذا رأى بعينه الشحمية فتكون رؤية الكثافة والظلام، وتلك نظرة عاجزة قاصرة، لا ترى إلا مظاهر الأشياء الخارجية، وقوله: (وأنت الذي يبدو) أي انت الظاهر، وقوله: (وانت الذي بطن) أي أنت الباطن، والمعنى: إنني بالحقيقة حين أرى فذلك باللطف والقدرة التي منحتني إياها لأنك انت الباطن والظاهر، وأنت الذي تمنحني الاستطاعة على رؤية الظاهر والامتناع عن تجاوز الحدود . وقوله: (وأنت الذي في الصحو / يسكر ذكره) أي كالخمرة التي تسكر شاربها كذلك ذكر الخالق بالطاعات والامتثال للأوامر تجعل الروح تنتشي وتسعد لأنها بذلك تتحرر من الكثيف إلى البسيط، ومن الظلمة إلى النور ومن السجن إلى الحرية، وقوله: (وفي السكر معنى الكل في طيه ارتهن)، فسكر المتصوف المحب يعني وصوله إلى درجة الامتلاء من الحب، وهذه مرحلة متقدمة في رحلة العرفان وفيها يصبح أكثر قدرة على المعرفة الحدسية المباشرة، والارتهان: يعني هنا التقيد، أي معنى الكل مرتهن في السكر، وهذه مصطلحات لها معانيها لدى المتصوفة ونحن هنا يهمنا المعنى في سياق القصيدة،

الصورة البيانية والبلاغة:

قوله: (يضيء ضلوعي) استعارة، وقوله: (سرى حضورك استعارة)، وقوله: (يسكر ذكره) استعارة، وقوله: (وفي السكر معنى الكل في طيه ارتهن) استعارة .

نلاحظ أن الصور الشعرية قليلة هنا فأين البلاغة إذن؟ البلاغة هنا أكثر ما تتجلى في المعنى العام للفرع وشعابه، البلاغة في حسن تقديم الغائب في صورة الحاضر عن طريق إظهار الصفات وحضورها،كيف؟،

نلاحظ في قوله: (أراقب في المرآة وجهي / فلا أرى سواك)، أنه يخاطب حاضرا، وقوله: (فقل لي) يخاطب حاضرا، وقوله: (قل لمن) يخاطب حاضرا، لكن هذا الحاضر غائب وهو في الحقيقة يخاطب ذاته العليا المجردة من الكثافة، أي يخاطب روحه المتحررة من قيد الجسد وهو يعبر عن هذا التوق إلى عودة الروح إلى حيث كانت، وهذا في لب (النوستالجيا) التي يعنيها الشاعر من عنوان المجموعة الشعرية، ولكن هذا الغائب حضوره كان بحضور صفاته، فقوله: (سرى حضورك) يبين أن هذه الصفة دالة على أنه يسري وهذه صفة ليست ذاتية إنما صفة موهوبة، وقوله: (يسكر ذكره): صفة أيضا، وقوله: (وأنت الذي يبدو) دلالة على الصفة، وقوله: (وأنت الذي بطن) يشير إلى الصفة، ولا بد من ملاحظة أن كل هذه الصفات دالة على الخالق من دون أن يذكر ذلك صراحة، فكان الحضور بالصفات، وحضور المضامين في السياقات والتراكيب، فيما بقيت الذات غائبة غياب المعنى في هيكل النص، (ولا ننسى الجانب الفني الذي يعتمد على إيقاع تفعيلات البحر الطويل، والسكت على النون كقافية موحدة يعطي الفرع قيمة فنية إضافية لانسجام هذا الحرف مع المضمون، فهو حرف التكوين الثاني بارتباطه مع كاف البدء، فيتكون الفعل: (كن) الذي إذا أراد الله شيئا أن يقول له: (كن) فيكون أي يكون، والفاء من جهة المخلوق لا الخالق، فلا فاصلة ولا فصل بين أمر الله وتحقق هذا الأمر إلا بما ظهر للخلق .

(لا أستريح إلى المكان

كأنني

علقت في قمر

بغير منازل)

محمد عبد الباري

الفرع الثاني: (سؤال)

(نلملم أشياء الرحيل

ونرحل

كما يرحل الحرف

الذي لا يؤول .....

يجن بنا هذا المكان

ولم يكن

بنا حين نحن

- قاب قوسين - يحفل .....

ويشهد هذا الليل

كم كان نجمه

إلى مجلس نحن به نتعجل .....

وفي كل ركن

من رؤى الروح نفحة

تعطر أنفاس المكان

وتغسل .....

ويصحر سؤال لم نمر بباله

يفتش عنا

في الغياب ويسأل) .....

يبين هذا الفرع من القصيدة صورة سؤال المسافر الذي هجر المكان إلى غير رجعة، وعقدته (نلملم أشياء الرحيل ونرحل) وشعبته الرئيسة هي: (كما يرحل الحرف الذي لا يؤول) أما شعابه الثانوية فهي: (يجن بنا هذا المكان) و(لم يكن بنا حين نحن) و(قاب قوسين يحفل) و(يشهد هذا الليل كم كان نجمه) و(إلى مجلس نحن به يتعجل) و(وفي كل ركن من رؤى الروح نفحة) و(تعطر أنفاس المكان وتغسل) و(يصحو سؤال لم نمر بباله) و(يفتش عنا في الغياب ويسأل)

في المعنى:

كما هو واضح فالأسلوب خبري عموما، ويقدم الشاعر بما يفيد المعنى ويتوافق معه إلى حد كبير في معظم الخماسيات ولكن سيكون الاهتمام بالنص الشعري الخاص بالمزوغي مع عرض المقدمة التي اختارها، أما قوله: (نلملم أشياء الرحيل) يشير إلى جماعة، فمن هم هؤلاء؟ ما صفتهم؟ من يعني الشاعر بهم؟ وكلها أسئلة مغرية ومحفزة لكي تتوضح صورة المعنى المراد من النص، وكذلك (أشياء الرحيل) يحدث طيفا واسع الدلالة والمعنى، فأشياء الرحيل هذه تتعلق بالراحلين أنفسهم، ولن نستطيع أن نتوصل إلى المعنى الحقيقي من دون الفهم المتكامل للمحتوى، ولا بأس أن نبقى الآن على السفوح في مبتدأ الصورة وهي أن الجماعة تجمع أشياءها اللازمة للرحيل، وقوله: (ونرحل) يشير إلى عدم الانتظار، لأن الرحيل يكون فور لملمة الأشياء، ولكن استخدام حرف العطف (و) وإن كان يفيد أن الرحيل جاء بعد لملمة أشياء الرحيل فإنه يشير إلى استمرار الرحيل استمرار التحضير له، وقوله: (كما يرحل الحرف / الذي لا يؤول) يجعلنا نتوقف عند حقيقة هذا الرحيل لأنه يشبه رحيل الحرف ! فكيف يرحل الحرف؟ وما هو الحرف الذي لا يؤول؟ وهكذا يكون السؤال مفتاحا للتبصر وطرق الأبواب بالأجزاء المناسبة لها حتى تنفتح الرموز وتتوضح الدلالات، فالحرف، أي حرف لا معنى له إذا كان مفردا غير متصل، ورحلته في الانفصال مفردا تبقيه صامتا من غير أن يدل على أي معنى، وهنا لا نكون قد قبضنا على المعنى بل على العكس نكون قد زدناه إعجاما، وتكون المماثلة هنا برحيلهم لرحيل الحرف مبهمة غامضة، وهنا لا بد من أن نقبل أن معنى (يؤول) هو يرجع وليس يفسر، لماذا؟ لأن جميع الحروف المفردة لا معنى لها وهي مفردة فهي لا تفسر، ويبقى الحرف الوحيد الذي لا يرجع هو الحرف الأول من كلمة أبجد وهو حرف الألف !، فماذا يعني رحيل حرف الألف، الألف يأتي في أول الكلمة منفصلا غير متصل وقد يأتي في وسطها منفصلا غير متصل، وقد يأتي في نهاية الكلمة منفصلا غير متصل وفي هذه الحالات يكون صامتا من حيث انفراده دالا على ذاته، ويمكن اعتباره متصلا إذا جاء في وسط الكلمة مفردا من غير اتصال، أو إذا جاء في آخر الكلمة من غير اتصال أيضا، وهنا يقوم معنى الكلمة بحسب سياق اشتباكه مع غيره، وهنا يتحرك المعنى من بعد أن كان ساكنا حيث يدل اللفظ على الشيء الموضوع له، وهذه هي رحلة الحرف الذي لا يؤول أي لا يرجع، والمعنى: رحيلنا لا عودة له كرحلة الحرف الذي لا يرجع لأنه أول الحروف، لهذا استوجب منا أن نلملم مستلزمات هذا الرحيل الدائم كما تجمع المعاني من الألفاظ نتيجة جريان هذا الحرف واشتباكه مع الحروف الأخرى لتشكل المعنى، وهنا أريد أن أضيف شيئا، ففي الحقيقة حين تصل البلاغة إلى هذه الدرجة من التكثيف والعمق تصبح أسمى من الشرح، وهنا مهما استفضت في التفسير والشرح سيبقى المعنى قصيا ولا يمكن أن نحيط به لأنه يشبه المفاهيم أو البديهيات أو المسلمات التي تقبل من غير أن نقيم الدليل عليها .

وقوله: (يجن بنا هذا المكان / ولم يكن / بنا حين نحن - قاب قوسين - يحفل) والمقصود به المكان الذي هجرناه من غير رجعة على لسان الشاعر، وعندما يجعله يشعر ويحس فذلك يعني أن المكان يأخذ قيمته من خلال الوعي الإنساني له، والمعنى الأعمق من مضمر القول: إن المكان يقيم في النفس من خلال ما تختزن من ذكريات وعهود مضت، وقوله: (بنا) يؤكد هذا ويثبته، وقوله: (ولم يكن بنا حين نحن - قاب قوسين - يحفل) يعني أن هذا المكان في القرب منه لم يكن يحفل بنا كما هو عليه الحال في حالة الغربة والهجرة، وذلك لشدة حضوره فينا وشدة حضورنا فيه، وهذه صورة جديدة من صور الحنين إلى الأمكنة أيضا، وقوله: (ويشهد هذا الليل / كم كان نجمه / إلى مجلس نحن به يتعجل) يشير إلى الزمان المرتبط ارتباطا عضويا بالمكان، و(هذا الليل) يشير إلى السهر والنجوى، (وإلى مجلس) يشير إلى لقاء المجموعة التي تحدث بلسانها حال الشاعر في مستهل الفرع، وهو مجلس العرفان والحب القدسي، و(تعجل النجم) يشير إلى سرعة انقشاع الظلمة بسطوع النجم في الليل كتعجل زوال الكدر والهم والغم من النفوس، حين تخلو القلوب إلى حالة الوجد وذكر الحبيب، وملخص القول: يشهد الليل سرعة حضور النجم إلى المجلس الذي يضمنا كي يتبدد الظلام كما يتبدد الكدر والقلق والحيرة من نفوسنا، وقوله: (وفي كل ركن / من رؤى الروح نفحة / تعطر أنفاس المكان / وتغسل) يشير إلى أن الروح لم تختزن عن ذلك المكان إلا كل ما هو ناصع وجميل، ففي كل ذكرى جميلة، ومع كل خفقة للقلب توقظ في الروح حنينا آسرا، فيهيم بها شوق شفيف يفيض على تلك الأمكنة فتستعذبه الروح وتستحضر صورها النقية البهية، وقوله: (ويصحو سؤال) يشير إلى الغفلة، وقوله: (لم نمر بباله) أي السؤال، وربما يعني المكان، وقوله: (يفتش عنا / في الغياب ويسأل) إشارة إلى المكان المهجور، حيث يبحث عنهم ويسأل عنهم من غير جدوى .

الصورة والبيان:

الصورة الشعرية حاضرة حضورا لافتا، ولا تخفى الصنعة وامتلاك الأدوات في إحداث المعاني وبناء التراكيب، فقوله: (يرحل الحرف) استعارة، وقوله: (نلملم أشياء الرحيل ونرحل / كما يرحل الحرف الذي لا يؤول) تمثيل، وقوله: (يجن بنا هذا المكان) استعارة، وقوله: (لم يكن بنا يحفل) استعارة، وقوله: (ويشهد هذا الليل) استعارة، وقوله: (كان نجمه يتعجل) استعارة، وقوله: (رؤى الروح) استعارة، وقوله: (من رؤى الروح نفحة) صورة ثنائية البعد لأنها تتضمن استعارتين معا، وقوله: (تعطر أنفاس المكان) صورة ثنائية البعد، وقوله: (ويصحو سؤال) استعارة، وقوله: (لم نمر بباله) استعارة، وقوله: (يفتش عنا) استعارة،

(وكلما انكسرت ساق

الحنين إلى أحلامه

باعدت أسفاره علله)

محمد المهدي

الفرع الثالث: (سرى)

يقول الشاعر:

(وما زال لمع البرق

يفعل فعله

بروحي

ترى يا برق

هل أنت قاتلي؟!

كأنك موكول بجرحي

تعيده إذا قلت أغفى

للحراب الأوائل

و يا وردة

ما زال في الورد عطرها

وما زال يغفو

فوق صدر رسائلي

لكم قلت: إني

قد تعبت من السرى

وكم قلت لي:

من أجل رؤياك حاول

أروم وصولا

للذي طال نأيه

وما زلت لم أظفر

برتبة واصل)

يبين هذا الفرع صورة رحلة العاشق المدنف ليلا للوصول إلى الغاية، وعقدته (وما زال لمع البرق يفعل فعله بروحي)، وشعابه الرئيسة هي: (ترى يا برق هل أنت قاتلي؟!) و(كأنك موكول بجرحي)، أما شعابه الثانوية فهي: (و يا وردة ما زال في البال عطرها) و(وما زال يغفو فوق صدري رسائلي) و(لكم قلت: إني قد تعبت من السرى) و(وكم قلت لي: من أجل رؤياك حاول) و(أروم وصالا للذي طال نأيه) و(وما زلت لم أظفر برتبة واصل) .

في المعنى:

التصوف تجربة إنسانية هامة بقطع النظر إن كان المرء يوافقها أم يخالفها، والتصوف اتجاه فكري إسلامي له رموزه وله منطقه في نظرته للحياة، والمهم هنا لا بد لنا كي نفهم النص الشعري الصوفي من أن ننظر إلى النص من وجهة أنه تعبير عن رحلة الوجد للمتصوف من أجل الوصول إلى الغاية، والغاية هي المعرفة والمشاهدة بالتجلي، وهذه الرحلة شاقة ومضنية ومتعبة وتحتاج إلى تضحية ومثابرة وصبر، إنها رحلة الروح ومجاهدة النفس للتخلص من ملذات الدنيا الفانية إلى حيث الخلاص والفوز بالنعم الأبدية، إنها رحلة الروح إلى الحرية وهي ما زالت في قفص الجسد حبيسة سجينه، فاللغة في الفرع صوفية ودلالاتها تدور في فلك المعاني الصوفية، والأسلوب يجمع بين الخبري والإنشائي، فقوله: (فما زال)، تشير إلى الاستمرارية، وقوله: (لمع البرق يفعل فعله بروحي)، يشير إلى انكشاف النور من غياهب الظلمة، وهو بمثابة التجلي الذي تصبو إليه روح المتصوف فيترك فيها أثرا بالغا، وقوله: (ترى يا برق / هل أنت قاتلي؟) سؤال مركب؟ إذ يعني هل يصيبه البرق فيقتله من جهة؟ أما المعنى من الجهة التي ينسجم فيها مع السياق فيشير إلى شدة تعلقه بالأمل المفقود مع استمرار لمع البرق فتنكشف رؤية العين من غير تجل ورفع الحجاب عن البصر لمشاهدة المتجلي، وهذه الحالة التي قد تقتل العاشق من شدة التعلق بالأمل، وقوله: (كأنك موكول بجرحي / تعيده)، أي كلما تجدد لمع البرق يتجدد الأمل، وفي الوقت نفسه تتجدد الخيبة ويتجدد الجرح لكأن لمع البرق هذا لم يكن مصادفة وعفويا وكأنه مكلف به، وقوله: (إذا قلت أغفى للحراب الأوائل) أي بعد أن كان قد ظن أن الجرح قد شفي من الحراب القديمة، والمعنى: إن المظاهر الطبيعية التي تتجلى فيها الأنوار لتبدد الظلمة، تقابلها الأنوار التي يرسلها سراج الروح إلى الجوارح لتخلصها من كثافتها، وتعلقها بهذا البدن الفاني، ومع إقراري أنني ابتعدت هنا قليلا في تحميل التركيب فوق ما يحتمل، وذلك لتوضيح لماذا قال: (هل أنت قاتلي) وما مبرر القتل في هذا السياق؟ مبرره حالة الخوف الشديد من استمرار المحنة وعدم الفوز بالحلم، وقوله: (ويا وردة / ما زال في البال عطرها)، يعني ما زال أثرها وذكرها في ذاكرته ومخيلته، وقوله: (وما زال يغفو فوق صدر رسائلي) أي عطر الرسائل، في إشارة إلى الحب العذري الذي يغلف به الشاعر حبه الصوفي العرفاني المقدس، وقوله: (لكم قلت: إني / قد تعبت من السرى) أي قد أتعبته مشقة سهر الليالي وسعيه المتواصل للظفر بلقائها)، وقوله: (وكم قلت لي: من أجل رؤياك حاول)، وكنت في كل مرة تجددي الأمل لدي في إعادة للمحاولة من أجل بلوغ الغاية في اللقاء والفوز بالحب العظيم، وقوله: (أروم وصولا للذي طال نأيه) أي يقصد ويبغي الوصول إلى الحبيب الذي طال غيابه، وازداد بعده، وقوله: (وما زلت لم أظفر / برتبة واصل) أي ما زال في تلك الرحلة المضية الشاقة من الشوق والعشق والهيام من دون أن ينجح بنيل شرف الرتبة العالية وهي منزلة الوصول والنجاة .

الصورة والبيان:

الصور الجزئية من حيث البلاغة في المعاني والبيان والبديع، لا تعطي الفرع حقه ما لم ينظر إلى الفرع إلى وحدة جمالية متكاملة، فقوله: (لمع البرق يفعل فعله) استعارة، وقوله: (أنت قاتلي) استعارة، وقوله: (كأنك موكول بجرحي تعيده) صورة ثنائية البعد لأنها تضم استعارتين، وقوله: (إذا قلت: أغفى للحراب الأوائل) استعارة . وقوله: (ما زال يغفو فوق صدر رسائلي) صورة ثنائية البعد لأنها تضم استعارتين معا .

(هناك سبل كثيرة

لتصل إلى الله

وأنا اخترت الحب

لأصل إليه)

جلال الدين الرومي

الفرع الرابع: (حب)

يقول الشاعر:

(أحبك هذا الحب

لو مد ظله

على جبل

لاندك من حينه الجبل

وفي الأرض لو يسري

لأصبح كل من

على الأرض

سكرانا من الحب ما عقل

ذكرتك

كان الورد يحبس عطره

فأطلقه فيضا من الحب والقبل

ومن أين يدري البحر

لو لم أكن أنا

بكيت طويلا

في الغياب ولم أزل)

سيعرفني إن مر

بالنجم عاشق

فما النجم إلا بعض

شوقي الذي اشتعل)

يبين هذا الفرع صورة الحب الكبير المختزن في الوجدان على لسان الشاعر، وعقدته (أحبك هذا الحب) وشعابه الرئيسة هي: (لو مد ظله على جبل) و(لاندك من حينه الجبل) و(وفي الأرض لو يسري) و(لأصبح كل من / على الأرض سكرانا من الحب ما عقل)، وشعابه الثانوية هي: (ذكرتك) و(كان الورد يحبس عطره) و(فأطلقه فيض من الشوق والقبل) و(ومن أين يدري البحر) و(بكيت طويلا في العباب ولم أزل) و(سيعرفني إن مر بالنجم عاشق) و(فما النجم إلا بعض شوقي الذي اشتعل)

في المعنى:

الأسلوب في الفرع كما هو واضح في معظمه خبري ما خلا جملة إنشائية استخدم فيها الاستفهام، والبلاغة فيه تكمن في البيان الذي يجعل المعنى أكثر اتساعا وعمقا ودلالة، فقوله: (أحبك هذا الحب) أي كل هذا الحب، وقوله: (لو مد ظله) إي لو نزل، وقوله: (على جبل / لاندك من حينه الجبل) فما معنى اندك هنا؟ (اندك) يعني انهدم وانكسر، والمعنى هنا يصح ولا ضير أبدا، ولكن اندك الجبل أي تساوى مع الأرض، وفي المعنيين كناية عن ثقل هذا الحب على النفس والقلب، ومعنى القول: هذا الحب الذي يختزنه في نفسه وقلبه للمحبوبة لو نزل على جبل لانهدم وغاص في الأرض حتى استوائه مع الأرض منذ لحظة نزوله عليه، وقوله: (وفي الأرض لو يسري) أي هذا الحب، وقوله: (لأصبح كل من / على الأرض سكرانا من الحب ما عقل) يعني: لو أن هذا الحب الكبير يعم على أهل الأرض لأصبح كل واحد منهم منتشيا والسعادة تغمره بقدر ما أدرك وامتلك من ذلك الحب الكبير، وقوله: (ذكرتك) أي خطرت على البال، وقوله: (والورد يحبس عطره) أي حين كان الورد لا ينشر عطره لأن الواو هنا حالية، وقوله: (فأطلقه فيضا من الشوق والقبل) أي حين سمع الورد ذكرك أطلق سراح عطره السجين وهام يفيض به على الوجوه قبلا مفعمة بالحرارة والوجد، وقوله: (ومن أين يدري البحر؟! / لو لم أكن أنا / بكيت طويلا / في الغياب ولم أزل) يعني: لولا غزارة الدموع التي سكبها على الهجر وما زال يسكبها وجريانها حتى وصلت الى البحر وأخبرته عن حاله وأحواله، ولولا هذه الدموع لما عرف البحر عن حالته.

وقوله: (سيعرفني إن مر بالنجم عاشق) لأنه نجم الحب، وقوله: (فما النجم إلا بعض شوقي الذي اشتعل؟!) فإذا كان النجم بعض الشوق المشتعل لديه ! فماذا سيكون إذا اشتعل شوقه كله؟! والبلاغة هنا في التعبير تستد عي الصمت إكبارا للجمال والروعة من غير شرح قد يتلف المعنى .

البيان والصورة:

الصور البيانية على بساطة التراكيب وسهولتها فهي صور تختزن الجمال والرقة والشفافية حتى تكاد تصل إلى السهل الممتع وهي من أبهى جماليات الصور والمعاني فيها، فقوله: (لو مد ظله) صورة ثنائية البعد لأنها تضم استعارتين، وقوله: (وفي الأرض لو يسري) استعارة، وقوله: (كان الورد يحبس عطره) استعارة، وقوله: (فأطلقه فيضا من الشوق والقبل) استعارة، وقوله: (فما النجم إلا بعض شوقي الذي اشتعل) صورة ثنائية البعد لأنها تضم استعارتين معا .

(وإن قلت ما أذنبت؟!

قالت مجيبة

وجودك ذنب

لا يقاس به ذنب)

الجنيد البغدادي

الفرع الخامس: (حوار)

يقول الشاعر:

(أقول لها:

ما عدت أحتمل النأيا

تعبت ولا أمرا

عصيت ولا نهيا

تقول: أقم في الشوق ألفا وليلة

لتدرك أن الشوق

بوابة الرؤيا

أقول لها:

ما الكأس ملأى وهذه

شفاه الألى مروا

فهل تركوا بقيا؟!

تقول: ضمير الرفع

وهم ولم يزل

حجابك يطوي القرب

في بعده طيا

نموت لكي نحيا

ويدرك غاية

من السر من قد مات

في الحب قد يحيا)

يبين الشاعر صورة حوار افتراضي بين المدنف العاشق والمحبوبة المتمنعة، وعقدته (ما عدت أحتمل النأيا)، وشعبته الرئيسة هي: (تعبت ولا أمرا عصيت ولا نهيا) وشعابه الثانوية هي: (أقم في الشوق ألفا وليلة) و(لتدرك أن الشوق بوابة الرؤيا) و(ما الكأس ملأى) و(هذه شفاه الألى مروا فهل تركوا بقيا) و(ضمير الرفع وهم) و(ولم يزل حجابك يطوي القرب في بعده طيا) و(نموت لكي نحيا) و(ويدرك غاية) و(من السر من قد مات في الحب قد يحيا .

في المعنى:

حين يكون الحوار بين طرفين متكافئين يصبح من حيث القيمة متكافئا أيضا، والتكافؤ لا يعني فقط بالمستوى المعرفي وحسب، بل يتعلق بمستوى الحرية أيضا، والتكافؤ لا يكون ذا معنى حقيقي من دون الحرية في الحوار، فكيف يكون الحوار هنا ما دام بين عاشق صب مدنف ومحبوبتة القصية النائية، وهنا يمكن لنا أن نقبل انه حوار افتراضي اختاره الشاعر أسلوبا ليعبر من وجهة نظره من جهة كل منهما، وهكذا لن يكون الشاعر حياديا بينهما مهما حاول أن يتجرد من ذاته الشاعرة التي تمثل العاشق على الأغلب، فقوله: (أقول لها:/ ما عدت أحتمل النأيا /) من شدة الشوق والوجد والهيام، وقوله: (تعبت ولا أمرا عصيت ولا نهيا) إشارة إلى أن التعب كان مما يكابده من البعاد وقد امتد الهجر وطال أمده وهو مستجيب في الأمر والنهي، وملتزم بأداء الواجبات على النحو المطلوب، وقوله: (تقول: أقم في الشوق ألفا وليلة) يدعو الى التساؤل، لماذا هذه الإقامة؟ ولماذا هذا التحديد ألف وليلة؟ ومن هو الآمر؟ ومن هو المأمور؟ طبعا بما يعنيه النص !، لا بد من ملاحظة أن المدة افتراضية إذ إنه من غير الممكن للإنسان أن يعيش ألف سنة، فكيف يكون له أن يقيم تلك المدة كلها، ومن غير الممكن أن يكون المقصود ألف شهر أو ألف يوم أو ألف ساعة، وهنا لا بد أن نحيل المعنى إلى قول الله سبحانه وتعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) لنفهم من قول الشاعر (أقم في الشوق ألفا) أنه يعني الحب القدسي فالإقامة يوما واحدا في الحب الإلهي كالإقامة ألف سنة مما يعد البشر ! وقوله: (وليلة) تؤكد المعنى ويصبح المعنى من قوله: (تقول: أقم في الشوق ألفا وليلة) أي أقم يوما وليلة، وقوله: (لتدرك أن الشوق / بوابة الرؤيا) يعني إن حرارة الترقب وجمر والانتظار هما السبيل لبلوغ لحظة التجلي وظهور المحبوبة، وملخص القول: إن طول انتظار العاشق وصبره في المكابدة والمعاناة على الشوق للقاء، هي السبيل لكي يدرك أن ذلك هو سر الرؤيا والمشاهدة، وقوله: (أقول لها: ما الكأس ملأى) فالمقصود كأس الحب، وقوله: (وهذه شفاه الألى مروا) إشارة إلى أنهم قد نهلوا منها، وقوله: (فهل تركوا بقيا؟!) تشير إلى خشية العاشق من يكون كاس الحب قد نهل منه السلف من العشاق حتى لم يبقوا منه شيئا، وقوله: (تقول: ضمير الرفع وهم) أي العلو والارتفاع في درجات الحب الصوفي إلى درجة البلوغ التي تحدث عنها في الفرع الثالث هذا ضرب من الوهم ولا يمكن بلوغها، وسبيقى الكاس مترعا مهما رشفت منه شفاه السالفين واللاحقين، وقوله: (ولم يزل / حجابك يطوي القرب في بعده طيا) أي هذا الحب المقدس يختصر المسافات، ولا بد من الإشارة إلى أنه في العرف الصوفي فإن بعد العاشق يعني الإعراض وقربه يعني الحب والإقبال، فهو وإن كان بعيدا فإن الحب يمنحه القدرة على قطع المسافات والاقتراب، وقوله: (نموت لكي نحيا) أي نرحل عن هذه الدنيا الفانية لكي نحيا الحياة الخالدة، وقوله: (ويدرك غاية) أي يصل إلى يقين، وقوله: (من السر من قد مات / في الحب قد يحيا) يعني أن من اختار طريق الحب نهجا وسلوكا واعتقادا في الحياة الدنيا، قد ينال الحياة الخالدة في الآخرة، واستخدام (قد) هنا ليبين أن الأمر لا يمكن الجزم به فهو ليس بيد البشر إنما أمر متوقف على التوفيق الإلهي . والتداخل واضح بين هذا الفرع والفرع السابق .

النوستالجيا والتوازن:

النواة المركزية التي تتمحور حولها معاني القصيدة هي (النوستالجيا)، لذلك فهي تشكل مركز توازن القصيدة، أما نقاط التوازن في العقد الرئيسة التي تشترك في الفروع الرئيسة للقصيدة وهي: (الغياب) حيث يتقاطع الفرع والثاني، و(الشوق) حيث يتقاطع الفرعان الثالث والرابع، و(الأمل) حيث تقاطع الفرع الأول والخامس، فلو مثلنا مركز التوازن بدائرة مركزية كنواة مركزية للقصيدة، ووزعنا على محيط دائرة عقد القصيدة وليس بالضرورة أن يكون التوزيع منتظما، أي ليس من الضروري ان تكون العقد على مضلع منتظم، لأن حضورها في القصيدة لا يكون متساويا بالضرورة، ثم لو حددنا نقاط التوازن على محيط الدائرة، ثم مثلنا الفروع بأشعة منبثقة من النواة المركزية التي تمثل مركز التوازن، ثم مثلنا الشعاب الرئيسة والثانوية لكل فرع عندئذ سنحصل على المخطط التقريبي الذي يمثل شجرة المعنى للقصيدة ومن خلالها سنلاحظ العلاقات الشبكية بين الشعاب الرئيسة والثانوية في الفروع، وستعطينا هذه الشجرة إمكانية القراء النقدية بصورة أكثر دقة، وأكثر وضوحا، ويمكن توضيح هذا التداخل من خلال تأكيد القصيدة على معاني أساسية أهمها،

1 - الحب يمنح العاشق القدرة على النظر بعين المستبصر الرائي، ويمنحه القدرة على الصبر والتضحية،

2 - إن تمظهرات صور الجود في الطبيعية هي انعكاس او تجل لصور الجود في الحب المقدس،

3- رحلة العاشق العرفانية هي رحلة الوجد والأمل والمعاناة وهل سبيل الوصول إلى الغاية،

4 - قرب العاشق وبعده لا يعني المسافة، بقدر ما يعني مستوى الحب، والقدرة على قبول ذلك الفيض في لحظات التجلي.

5 - الصور الحاضرة هي تجليات للمعاني الغائبة في بنية النص وتكوينه،

6 - القلب يتقدم على العقل في رحلة العرفان للمتصوف لذلك يختار طريق الحب للوصول من دون أن يختار طريق الفكر للمعرفة والفوز.

بالإضافة إلى معان كثيرة ومتعددة، ومن الواضح أن القصيدة في بنيتها العامة هي أقرب إلى التوازن، بسبب حفاظها على وحدتها وعمودها .

تقاطع الأزمنة:

الأزمنة في القصيدة متعددة، أولها الزمن المضارع المستمر، وهو زمن (أنا) الشاعر في رحلة الحنين والتذكر، وأكثر ما يبدو واضحا في الأفعال، (أغيب، أرى، نرحل، أروم،أقول أحبك، نموت، نحيا)، وثانيها الزمن الماضي، وهو الزمن الذي يشير إلى قدم رحلة الوجد هذه، إذ ليس الآن (الحاضر) إلا الماضي حين قطعناه،وأكثر ما يظهر باستخدام الأفعال: (وما زال، قلت، طال، مد، كان، بكيت، اشتعل، عصيت، ..) وثالثا الزمن الغائب، وهو زمن الحب المقدس الذي يتجلى بحركة ذلك الحب وفيضه على النفوس المكتوية بنار الهجر والفرقة والتي تمثل هنا ذات الشاعر، وأكثر ما يتجلى بقوله: (يرحل الحرف) الذي يتضمن زمنا معنويا، وقوله: (قاب قوسين) يشير إلى زمن معنوي أيضا، وقوله: (وفي الأرض يسري) دليل على زمن الحب، وزمن القصيدة هو محصلة الأزمنة التي يتضمنها النص، الماضي والحاضر والمستقبل، إضافة إلى زمن الشاعر نفسه قبل بناء النص وأثناء إحداث معانيه، يضاف الزمن الغائب وهو الزمن النفسي الروحي الذي يشكل بعدا إضافيا للزمن الحسي المعاش، وإذا أضفنا زمن اللغة نفسها، وأزمنة الإيقاعات والوزن الشعري فسنكون أمام الزمن الذي يمثل محصلة الأزمنة كلها وهذا ما يوضح معنى تقاطع الأزمنة . وهو زمن تجلي النص على صورته المقدمة للعامة.

المنوال: لعل أكثر الكلمات تكرارا في هذه القصيدة هي (الشوق، الحب، السكر، النجم) وكلها مفردات منوالية تبين مدى ارتباطها بالحالة الشعورية المعبرة عن المضامين العميقة لرحلة الشوق والمعاناة للشاعر المتصوف العاشق .

النص الممكن:

القصيدة كما هو واضح مؤلفة من خمسة فروع، وإذا حسبنا عدد إمكانات إعادة ترتيب هذه الفروع لوجدناها (120) إمكانية، أي هناك مئة وعشرون قصيدة ممكنة، وهي عدد إمكانات إعادة ترتيب الفروع، وبالطريقة نفسها يمكن حساب عدد إمكانات إعادة ترتيب الشعاب في الفرع الواحد، وكذلك الأمر بالنسبة للفروع الأخرى، وهكذا فإننا نحصل عدد كبير جدا من النصوص الممكنة، ولكن لن يكون أي منها يمثل قصيدة الشاعر سو القصيدة التي أرادها أن تكون بين أيدينا، وهنا يطرح سؤال نفسه، ما وجه الاختلاف في المعنى إذا أجرينا إعادة ترتيب في تركيب الفرع الواحد، وهنا سأجري تطبيقا على الفرع الرابع،

يقول الشاعر:

الفرع الرابع: (حب)

يقول الشاعر:

((أحبك هذا الحب

لو مد ظله

على جبل

لاندك من حينه الجبل) (1)

(وفي الأرض لو يسري

لأصبح كل من

على الأرض

سكرانا من الحب ما عقل) (2)

(ذكرتك

كان الورد يحبس عطره

فأطلقه فيضا من الحب والقبل) (3)

(ومن أين يدري البحر

لو لم أكن أنا

بكيت طويلا

في الغياب ولم أزل) (4)

(سيعرفني إن مر

بالنجم عاشق

فما النجم إلا بعض

شوقي الذي اشتعل)(5))

وقد جاء على هذا الترتيب ((1)، (2)، (3)، (4)، (5))، وهنا سأجري إعادة الترتيب على النحو التالي، ((3)، (1)، (2)، (4)، (5))، فنحصل على النص المكن الآتي،

((ذكرتك

كان الورد يحبس عطره

فأطلقه فيضا من الحب والقبل) (3)

(أحبك هذا الحب

لو مد ظله

على جبل

لاندك من حينه الجبل) (1)

(وفي الأرض لو يسري

لأصبح كل من

على الأرض

سكرانا من الحب ما عقل) (2)

(ومن أين يدري البحر

لو لم أكن أنا

بكيت طويلا

في الغياب ولم أزل) (4)

(سيعرفني إن مر

بالنجم عاشق

فما النجم إلا بعض

شوقي الذي اشتعل)(5)

نلاحظ من الألفاظ المستخدمة هي نفسها في الحالتين، وكذلك التراكيب هي نفسها، الذي اختلف هو فقط إعادة الترتيب، ولنحاول أن نوضح أي تغيير نكون قد أجريناه من حيث المعنى، في النص الأصلي، يفتتح الشاعر بالقول: (أحبك) فالأهمية عنده هنا للحب، ولكن في النص الممكن، يكون الافتتاح بالقول: (ذكرتك) والأهمية هنا للذي تصدر القول وهي (الذكرى)، والفرق شاسع بين أن تكون الصدارة للحب أو أن تكون الصدارة للحب، هل هذا الفرق وكفى؟ أقول: هذا هو الفرق الأساسي بين النص الأصلي والنص الممكن، وكل ما يترتب عليه يشكل فروقا بين النصين، ففي النص الأصلي تكون (الذكرى) في خضم هذا (الحب) العارم،ونتيجة له، أما في النص الممكن فإن (الحب) يأتي في سياق (الذكرى)، والفرق كبير بين الحالتين، كما نلاحظ في النص الأصلي أهمية فيض عطر الورد بالشوق والقبل بعد التمهيد بحالة الحب الكبير، ومدى تأثير الحالة الوجدانية على المتلقي، بما تحمله من المعاني السامية لهذا الحب، أما في النص الممكن فإن الافتتاح بفيض عطر الورد بالشوق والقبل، سيجعل حالة الحب الموصوفة بهذا الثقل وهذه الأهمية أقل ثقلا وأقل أهمية، وسينحرف المعنى عما هو مراد له، وفي ظني لو عرضنا النص الممكن على الشاعر فلا يمكن أن يقبل كقصيدة بديلة لقصيدته،وإن كانت تتضمن ألفاظه وتراكيبه الشعرية نفسها، فإذا كان عدم قبوله لا يمنع النقد من البحث عن إمكانات النص الجديدة، ففي الوقت نفسه علينا أن نقبل بأن النص الأصلي هو النص الذي يتقدم به الشاعر إلى العامة في صيغة نشره المعروفة . وهكذا يتكامل النقد مع الإبداع في الميزان المعياري، الذي يهدف إلى الوصول إلى معيار قيمي مشترك للقصيدة العربية المعاصرة .

 

مفيد خنسه

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم