صحيفة المثقف

جواد بشارة: الكتاب الخالد

جواد بشارةعندما نشأ الحرف وولدت الكتابة في حضارة سومر في وادي الرافدين قبل خمسة آلاف سنة تقريباً، نمت بذرة الكتاب واختزنت معلومة المعرفة والتاريخ  والتطور. نشأ الكتاب وترعرع وتحول إلى سلاح لايقهر في وجه الجهل والتجهيل والقمع والتضليل. انتبهت السلطات الشمولية والطغاة والأنظمة الديكتاتورية على مر العصور، إلى خطر الكتاب في خزن ونشر الحقائق وتعبئة وتوجيه الناس إلى طريق المقاومة ، فقاموا بإغراق الكتب والمكتبات وحرقها وإتلافها علنا وسن القوانين التي تعاقب من يمتلك كتاباً. فعندما غزى المسلمون مصر أحرقوا مكتبة الاسكندرية المليئة بالكتب بذريعة أن المسلمين لديهم كتاب الله وهو يكفيهم ولاحاجة له بالكتب الأخرى، وعندما اجتاح هولاكو بغداد أحرق وأغرق  الكتب والمكتبات العامرة في بغداد الحضارة العباسية كما قام السلاطين والغوغاء بإحراق كتب إبن رشد وإبن سينا وغيرهم بتهمة الزندقة والهرطقة، ولم يتغير هذا الموقف من الكتب والكتاب والمكتبات حتى العصر الحديث مثلما قامت داعش الإرهابية مؤخراً بحرق الكتب في الشوارع أمام الكاميرات ، ويكفي أن نتذكر رواية 451 فهرنهايت وهي درجة حرارة إحراق الكتب بسرعة وتحويلها إلى رماد والتي أعدها للسينما المخرج الفرنسي الراحل وأحدة أعمدة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية فرانسوا تروفو بفيلم جميل يحمل نفس العنوان يتحدث عن نظام ديكتاتوري دموي وتعسفي يشرع قانون بمنع إمتلاك التب وتكوين مكتبات ويحرق كل كتب البلاد ويأمر بقتل كل من يضبط متلبساً وبحوزته كتاب فكان رد فعل المثقفين والفنانين والمفكرين هو أن يحفظا الكتب عن ظهر قلب ويتحول كل واحد منهم إلى كتاب حي متحرك وربما يحفظ أكثر من كتاب حسب قدر كل شخص ، وهذه دلالة جلية على مقاومة الكتاب وإصراره على البقاء على قيد الحياة لأنه كائن حي خالد لايموت . هذه الفكرة الوجودية والفلسفية الهائلة جسدها الفنان المبدع والمجدد دوماً زياد جسام في عمل تشكيلي مفهومي عرضه - الانستليشن ( الحياة كتاب) - بمناسبة معرض الكتاب الدولي في بغداد المقام الآن بين 10 و20 حزيران، والذي جلب إليه الأنظار وإعجاب كل من شاهده من مثقفي ومفكري ومبدعي العراق الذين زاروا المعرض ، وهذا النصب عبارة عن كتب مختلفة الأحجام كانت غارقة في الوحل ومغطاة بالطين والطحالب ويتفرع منها أغصان نباتات دلالة على نشأة الحياة من جديد من الكتب فهي تلد كائنات حية لأنها كائنات حية خالدة لاتموت  ومن هنا جاء عنوان النصب " حياة كتاب" . وفيما يتعدى المضمون الفلسفي الرائع الذي يوحيه هذا النصب الفني  الفريد فإنه ينم عن قدرة حرفية ومهنية وتقنية عالية تتسم بلمسات فنية في توزيع الألوان سيما لوني الطين وخضرة الأغصان والأعشاب والطحالب الخضراء. الفنان زياد جسام فنان مرهف وذو مخيلة ثرية وعميقة ومجددة ومبتكرة دوماً ففي عمل سابق صنع عرشاً من كتب بمختلف الألوان وكان عملاً رائعاً واليوم يعود مرة أخرى لثيمة الكتاب الحي المقاوم للموت والمصر على الحياة مهما كان الخطر الحيط به . إنه عمل خارق يفوق التصور والخيال  الواقعي المحدود وبتيك بالحس والروحانية والجمال والعمق الفكري الذي يجسد حقيقة المقاومة وإن الفن والحضارة والإبداع مرزوعة في عقل الإنسان موطن المعرفة والذكريات خاصة تلك  الآتية من قراءة الكتب . عندما أقف قبالة هذا الإبداع الرؤيوي أبحر في أروقة سطوره الخفية وأرحل بين طيات ملاحمه المكنونة أبحث عن طريق المعرفة  الذي حرمته المؤسسات القمعية والأيديولوجيات الفاشية والنازية التي لم تتوان عن حرق الكتب المناوئة عندما كانت في سدة الحكم.

 

د. جواد بشارة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم