صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: محمد النويهي.. عالم قتلوه حيا وميتا!

يسري عبد الغنيمحمد محمد الدسوقى النويهي، الملقب بمحمد رشاد النويهى، ولد في 20/4/1917 بقرية ميت حبيش البحرية مركز طنطا، وكان والده من أوائل المتعلمين بالقرية، وعين بالقضاء الوطنى بوظيفة مساعد قاض ويطلق علها حاليا أمين سر المحكمة.

تلقى تعليمه بمدرسة طنطا الإبتدائية الأميرية، وأثناء دراسته فيها، ألقى الشعر الحماسى ونقله عنه أصدقاؤه وتفوق في اللغة العربية واللغه الإنجليزية، وفى سن 14 اتجه لكتابة الأدب الروائى، وكان أول وآخر رواية كتبها حيث لم تنل استحسان والده. تخرج من مدرسة طنطا الثانوية شعبة أدبى عام 1935 وكان أمله أن يكون ناقدا أدبيا.

انتقل من طنطا للقاهرة ليلتحق بكلية الآداب جامعة فاروق الأول (القاهرة حاليا) قسم اللغة العربية، وأقام خلال درا سته فيها بأحد الأحياء الشعبية، حيث كان يساعد نفسه بإعطاء الدروس الخصوصية في العربية والإنجليزية. أبدى تفردا بين زملائه وزميلاته بالدراسة بالجامعة، وارتبط ارتباطا قويا بأستاذه الدكتور/ طه حسين، صاحب التأثير الأول والكبير في حياته والذي عَده من أفضل تلاميذه في ذلك الوقت وقدر مواهبه الأدبية ونبوغه وتفوقه .

أعجب طه حسين ببحث قدمه له النويهى عام 1938 عن قصة الصيد في الشعر الجاهلي ثم استمع في نفس العام لبحث آخر قدمه له عن ميمية علقمة وقد كشف في هذا البحث عن الإنسجام الصوتى الدقيق بين الجمل الشعرية ومحتواها الفكرى والعاطفى. في العام الدراسى التالى قدم النويهى لطه حسين، ثالث أبحاثه عن سينية البحترى ادعى فيه أن حرف السين يلائم بجرسه الخاص في المواضع التي ورد فيها في القصيدة جو الحزن والذكرى الآسية.

في عام 1939 حصل النويهى على الليسانس، وقبل تخرجه رشحه أستاذه طه حسين ليشغل منصب محاضر في اللغة العربية بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، وقد بذل الدكتور/ طه حسين جهدا كبيرا لتذليل العقبات التي أقامتها دون سفره، نشوب الحرب العالمية الثانية. في 1939 سافر النويهى إلى إنجلترا أول أعوام الحرب العالمية الثانية، ليبدأ معايشة الثقافة الأجنبية المختلفة عن ثقافة بلاده، وظل أثناء إقامته بإنجلترا، يراسل أستاذه طه حسين ليستمد منه التوجيه والإرشاد والنصح وليطلعه على مستجدات حياته ودراساته. في عام 1942 حصل على الدكتوراة من معهد الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن، عن الحيوان في الشعر العربي القديم ما عدا الجمل والحصان. وفى عام 1944 تزوج من روث هيللر، الإنجليزية، وأنجب منها (عزيزة) المولودة 1947، و(على) المولود 1949، وواصل التدريس بجامعة لندن، حتى وصل للدرجة العلمية أستاذ كرسى الآداب العربية والمحاضر الأول بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية. لم يستمر بالتدريس، فعاد إلى مصر عام 1947، وعرضت عليه جامعة فاروق الأول، أن يكون من أعضاء هيئة التدريس بها بدرجة أستاذ مساعد، ولكنه بتمرده وعناده، أبى ولم يستمر بالقاهرة، وسافر متوجها إلى السودان، ونزل بالخرطوم، وعين بكلية غوردون (الخرطوم حاليا) وأنشأ بها قسما للغة العربية، وظل يدرس بها لمدة تسع سنوات.

دامت فترة وجوده بالسودان، وهى أخصب سني حياته العلمية والعملية والتي أثمرت عن معظم مؤلفاته الفارقة في الدراسات النقدية والأدبية، من سنة 1947، وفى خلالها ترأس قسم اللغة العربية وأسس فريقا للتدريس، كما عمل محكما بين الأحزاب الإنجليزية والمصرية والسودانية في جامعة الخرطوم التي كانت سابقا كلية غوردون .

وفى سنة 1956 تقدم باقتراحات لإجراء إصلاحات أكاديمية شاملة، لم تلق قبولا، ولذلك تقدم باستقالته، وغادر السودان في 1956م. ظل بمصر، وكتب عدة مقالات ثورية ونقدية لجريدة الجمهورية وهى لسان حال ثورة 1952، تحت عنوان (المفكرون والثورة) ونظرا لاشتعال حرب السويس 1956 والمشهورة بالعدوان الثلاثي، ولم يكتب لها الظهور.

ولارتباطه بمصر الأم والوطن ورغم زيجته الأولى وإنجابه، ووفاة عزيزة مبكرا ورغبته في العزوة والأسرة الكبيرة و لم يكن متفقاً مع طباع زوجته الإنجليزية بتحديد النسل، لاختلاف الثقافات والميول والمشارب، اقترن بابنة العائلة والقريبة له طبعا وسلوكا وثقافة السيدة / فريال النويهى في سنة م1956 ورزق منها (ماجدة) 1958م ثم (عمر) 1959 ثم (هشام) م1961. في سنة 1957 قام بالتدريس بمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، وفى نفس الوقت بمركز الدراسات العربية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة .

سافر النويهى إلى أمريكا كأستاذ زائر بجامعة هارفارد بقسم الأدب واللغات الشرقية بدءا من سنة 1967 وحتى نهاية 1968، وأثناء وجوده، عرضت عليه الجامعة تعيينا دائما بها، ولكنه رفض لعدم استعداده التنازل عن .هويته المصرية ثم استقدمته جامعة بريستون الأمريكية كأستاذ زائر للأدب العربي عام 1972/1973

لكن تمسك الجامعات الأمريكية بالدكتور النويهى وعدم التفريط به سيما وقد كان ملء العين والبصر ومطالبا بالحرية ومجددا وثائرا على الجمود والخمود والرتوب والساعى نحو ثورة شاملة في المناهج الأدبية والنقدية والمحرض على النهوض والتنوير وإزالة أسباب التخلف والتراجع والكساد الفكرى والديني.

لم تتراجع الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن وجوده بهيئة التدريس وذللت له كافة العقبات والعراقيل التي تقف حياله، لم يثنه ذلك الإلحاح عن التمسك بأفكاره ومبادئه ومعتقداته اليسارية، إذ كان من الذين آمنوا بالاشتراكية منهجا للتغيير وسبيلا قويما للنهضة ودربا من دروب التقدم والتحضر والرفاهية، وبعد مدوالات صعبة وطويلة وارتكانا لشروطه، تولى رئاسة قسم الدراسات العربية بها، كما رأس هيئة التدريس بدءا من سنة 1973

امتدادا لتوقد ونشاط وخبرة الدكتور النويهى وأفكاره المستنيرة والتقدمية، اختارته منظمة اليونسكو عام 1977 مستشارا خاصا لمشروع حول (القانون والمرأة وحجم الأسرة).

عانى في آخريات حياته المرض الشديد والإحباطات الكثيرة وما تصدى له من جهالات واتهامات من السوقة والأوباش ومخانيث الكتاب، وإصابته بمرض الضغط المرتفع والذي حد من نشاطاته ودراساته وإشرافه على الرسائل الجامعية، وتعرضه لأكثر من مرة للجلطات والمعاناة الطويلة المريرة، ولم تطل فترة التعب ولم يستسلم الثائر ولم يخضع الجبين ولم يهن ولم يتراجع، وتحامل على نفسه وهو في أشد مرضه ولم يترك مقعد المعلم والمربى والباحث والمدرس، فقد كان مدرسة التنوير والحرية والتقدم والحضارة، أحب مصر حبا جما .

في قريته التي صاحبته في حله وترحاله وفى قلبه وضميره، وفى كتبه ودراساته ..وهو العاشق لترابها والمنافح عن أصالته وحضارته، واستقبلته القرية بكل حب ووله وأكرمته وأشادت به، يوم انتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها، هذا الإبن البار والأخ الوديع والعلم البارز، وعم الحزن القرية وسرى الألم بالنفوس، ودمعت العيون واهتزت الأفئدة، رحمة ودعاء وأن تشمله رحمة الله ورضوانه، وعاشت القرية يوما حزينا يوم 1-3- 1980، يوم توارى جسد النويهى في مقبرة أسرته، ولكنه يظل حيا ومزهرا بأدبه وإبداعاته وحبه وعشقه لوطنه مصر المحروسة وقريته المعشوقة ميت حبيش البحرية.

من أسماء كتبه القيمة :

1- ثقافة الناقد الأدبي .

2- شخصية بشار .

3- نفسية أبى نواس .

4- الإتجاهات الشعرية في السودان .

5- طبيعة الفن ومسؤلية الفنان .

6- قضية الشعر الجديد.

7- الشعر الجاهلي منهج في دراسته وتقويمه .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم