صحيفة المثقف

طارق الكناني: هذا ما يفسّره البياض.. قراءة في مجموعة الشاعر سلام البناي

طارق الكنانيما يطلق على البياض انه لغة الصمت وله علاقة في سلوك الانسان واحساسه باللاوعي، واذا راجعنا تاريخ الانسانية سنجد البياض يرتبط بطقوس متعددة قد تتناقض في مضامينها  ودرجة القدسية ولكن الرمزية واحدة فهي توحي بالنقاء ،فعند العراقيين نجده يستخدم في عدة مناسبات ،عند الولادة تكون ملابس الطفل بيضاء، وهي ترمز للكثير من المعاني منها كون صفحته مازالت ناصعة البياض، وعند الزواج تجد ملابس الزفاف عند المرأة هو البياض وهو يرمز للعذرية، وعند الممات تجد الكفن بلونه الابيض وهو لا يخلو من رمزية ايضا .وعند المغاربة نجد اللون الأبيض له استخدام آخر وهو يرمز للحزن والمشيب فعند ممات أي شخص تجد مظاهر الحزن تتمثل باللباس الابيض. فاللون الابيض متشعب ومتعدد الاستخدامات فإذا اردنا ان نصف شيئا معينا نقول انه (ابيض من البياض) ونقول لصاحب الاحسان (ذو ايادي بيضاء). ومازال العقل البشري ينحت مصطلحات في الموسيقى والتشكيل والجغرافية لما يرمز به البياض (ففي الخارطة نجد مواضع بيضاء) دليل على انها اماكن لم تكتشف بعد وفي الموسيقى كالباليه الأبيض و(الحلية البيضاء) إشارة إلى سلم النغمات الصافية في الموسيقى الالكترونية. (وثمة صيغة من صيغ التأمل استوحاها الغرب من حضارات آسيا قد صارت تشكل فيه فناً مصاغاً أو فناً مفرغاً من الفن، في مقابل الجزع من الفراغ، وحتى مطلع القرن العشرين نجد رساماً علماً من مصوري الغرب - باول كلي Paul Klee - يحس بالخطر يطل عليه من مساحة بيضاء غير ملونة في قماش لوحة، كما يزاوله القلق أمام فراغ مقبض موحش) (مقال: معتصم زكي السنوي).

البياض يشير إلى الفراغ المجهول والعذارة البكر، بل إلى القداسة التي لا يحكمها عقل، ومن قديم الزمان هو يشير الى الوحشة ،ففي قوانين الطبيعة هو يشير الى  اللا لون في إطلاقه، أي القاعدة التي ينطلق منها التلوين، أو هو كما تبين لجوته - إيقاف التلوين. ويرتبط البياض في علم النفس بالصفر. وما زال اللون الأبيض عنصراً يستخدم في جميع مجالات الإبداع الفني. والشعر المعاصر يرى في البياض قيماً تعبيرية كبرى.

2572 سلام البناي

في مجموعته الشعرية الموسومة بـ (ما يفسره البياض) الصادرة عن اتحاد الادباء والتي احتوت على واحد وعشرين نصا شعريا يفتتح الشاعر (سلام البناي) المجموعة  بنص شعري بعنوان (سيدة البياض) ولعل عنوان المجموعة قد أُخِذَ عن هذا النص الشعري ،حيث يتكرر الفجر والليل في عدة نصوص من المجموعة وربما حتى في النص الواحد نجد القمر والغروب والليل والفجر في عدة مقاطع من القصيدة وهو ما يرمز للبياض ونقيضه:

في محاولتها الأولى

لتدوين البكاء

اتخذت من ضوء القمر متكأً

فارتعشت روحها بالبياض

لقد ترك الشاعر تفسير الرعشة للقارئ كما يراها فهي مع البكاء ربما كان الخوف او الشوق، ومع البياض ربما تتصاعد حدة الرعشة هذه الى النشوة فعند بلوغ البياض تكون قد اكتملت النشوة وتبدأ مرحلة اللا لون في صفاء الذاكرة ونقاء الوجود المحيط بنا فتتعرى الذاكرة من كل ما يحيط بها من الوان وهنا يبدأ الصمت معبرا بلغة شفافة عن البداية ويكون مرتكزا لوضع الوان جديدة  تزخر الحياة كلون السنابل ولون خضرة النخيل فالليل قد مضى واخذ معه الوانه المضيئة في عتمته السرمدية:

ذات ليلة حدّثتني

كيف تستفيق معها

عيون النخيل

وهي تختفي مثل نجمة

يطاردها الفجر

لتشطب الجوع

بمحراث مواسمها

وتصوغ لنا من سنابل شعرها

تيجان الرغيف .

فرمزية الرغيف هي صناعة الحياة حيث تبدأ من بياض الفجر .

لقد كان الفجر في قصيدته (مازلت اتذكر) يجسد لغة الصمت والخوف وغربة الحروب التي تركت انطباعا حزينا ومخيفا في المخيال الشعبي يجسده الشاعر بقصيدته هذه ويتحسس ذاكرته بما جاء به ضوء  ذلك الفجر وما تركه من آثار على حروف الحزن التي تضج بها قصيدة البناي .فهو يقول:

عند الساعة الثالثة

عندما يقترب الفجر

على استحياءٍ

والصمت يسكب همساته

على انفاس الشجر .

في تلك الساعة

التي تذكرني دائما

بغربة الحروب

امرر أصابعي

على جبهتي

اتحسس مفاتيح افكاري

واحمد الله

أني  مازلت أتذكر....

وتبقى ذاكرة البناي مليئة بالخوف من صنّاع الموت الذين اطفئوا سحر الغبش، فهم بذلك اخترقوا قدسية البياض ولغة الصمت بصواريخهم ففي نصه الموسوم (عازف على اطلال ترابه) كان الشاعر يخاطب الذات الالهية بتضرع الفقراء حيث يقول:

يا الله

يا ملاذ الفقراء

في بلادك

يتكاثر الصاعدون اليك

ويتراجع الحالمون  انتظاراً.

يا الله

يا أنفاس الامهات القديمة

يؤلمني أن تنطفئ

نار الطريق الى البلاد

ثمة طفل

يبحث عن فراشة حلمه

سيبكي كثيرا يا الله

لتدلّه على فانوس براءته

هكذا يمضي (البناي) في نصوصه التي تضمنتها مجموعته الشعرية هذه بشحذ الذاكرة الجمعية والتذكير بما حمله ذلك الصباح من خوف ودمار فهو يتأرجح ما بين ذلك الصباح وما تلاه من خوف مضاعف رسخ مفاهيم جديدة لدى مجتمع تم قهره بحروب خارجية وداخلية نفذتها ارادة خارجية ويتضح ذلك من خلال الشكوى لله بعد ان فقد البياض عذريته و لونه ونقاءه  في خضم تلك الصراعات النفسية التي تعج في صدر شاعرنا.

 

طارق الكناني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم