صحيفة المثقف

طارق الكناني: القناعات بين الثابتة والمتأرجحة

طارق الكنانيفي بداية ادراكنا وتحملنا المسؤولية في هذه الحياة جعلتنا نمر بمواقف متعددة ومختلفة وفي كل موقف كانت تتوفر لدينا قناعات ومواقف منها، بحيث كنا نعتقد ان هذه القناعات نهائية وغير قابلة للتغيير مهما مرّ الزمن، ولكننا نكتشف بعد فترة ان مواقفنا السابقة كانت متطرفة وغير صحيحة وقد بُنيت على موقف عاطفي آني ولا يستند الى منطق معقول فنبدأ نراجع مواقفنا من اشخاص واحداث كثيرة فرحنا فيها حيث كانت هي مبعث للحزن واصابنا الحزن الشديد في مواقف معينة ثم ادركنا ان هذه الاحداث لا تعنينا من قريب او من بعيد وهي احداث لا تبعث على الحزن بل العكس. كنت في زيارة الى جمهورية مصر مع رفيقي الأثير حمودي الكناني فذهبنا الى القلعة لزيارة المتحف العسكري وهناك رأيت صور كثيرة للزعماء المصريين ولكن ما لفت انتباهي صورة السادات رحمه الله وقد كتب عليها صانع النصر والسلام والحقيقة هو كذلك، تذكرت حينها مؤتمر بغداد الذي انعقد بشكل طارئ لغرض عزل مصر عن الأمة العربية بسبب زيارة السادات الى اسرائيل، والغريب كنت يومها اشعر بالحزن العميق لهذا الموقف والبغض الشديد لشخص السادات الذي اعتقدت في حينها انه اذل العرب واضاع قضيتهم المركزية، والاعتقاد لا يخلو من صحة، ولكن حين اكتشفت ان الملوك والرؤساء الذين شاركوا في المؤتمر اغلبهم كانوا يرتبطون بعلاقة حميمية مع اسرائيل هم من ادان السادات، وعندما رأيت جلالة الملك حسين وزوجته نور وهما يذرفان الدموع على جنازة اسحق رابين ويصفه بخطابه شقيقي العزيز، ادركت وتيقنت بأني قد ظلمت السادات، الرجل الذي باعه العرب وجعلوه يقف لوحده بمواجهة امريكا في حرب استنزاف جعلت المصريين يعانون ويكابدون الجوع والفقر، وادركت ايضا ان ما فعله هو استعادة الاراضي المصرية المحتلة كالعريش وسيناء التي اضاعها بطل العروبة المرحوم عبد الناصر. وادركت كم كنت مخطئا عندما فرحت باغتياله على يد الاسلامبولي.

لو راجعنا هذه المواقف وتعدادها في حياتنا لوجدناها تمتد على طوال اعمارنا، وسنرى كمية المواقف التي تخلينا عنها، وكم من قناعة تبدلت لدينا، مهما كان هذا الانسان حريصاً بالثبات على مواقفه ولا يظهر انه غيّرها ولكنه في دواخله قد تجاوزها وادرك يقينا انه كان مخطئا او على اقل تقدير يدرك ان موقفه كان نتيجة ردة فعل او موقف عاطفي ليس إلا .

يعتقد الباحثون أن الشخصية تتغير مع ازدياد عمر الفرد، ولكن ذلك يعتمد على تعريف التغيير. هناك نوعان محددان جدا من التغيير يميل الباحثون إلى التركيز عليهما:

التغيير في ترتيب النظام.

والتغيير على المستوى المتوسط.

هناك عوامل وآليات مختلفة تؤدي إلى التغيير في الشخصية. هناك أيضا العديد من الطرق المختلفة لقياس بعض سمات الشخصية التي تميل إلى التغير في حين تميل بعض السمات الأخرى إلى الاستقرار. وهنا اقصد الاستقرار النسبي وليس المطلق .

هناك العديد من التغييرات التي تطرأ على الشخصية وتؤدي بدورها الى تغيير المواقف منها تغييرات بايولوجية منها البلوغ او ولادة الطفل الأول عند المرأة ومنها تغييرات اجتماعية او سياسية، وكذلك الاحداث الغير متوقعة تؤدي الى ابراز الصفات الموجودة بالفعل لدى الفرد .وكذلك السياق التاريخي للعمر هو كفيل بتغيير قناعات كثيرة . لنعد الى التجربة الشخصية على الصعيد المحلي، لدينا في العراق عدة تجارب وليكن نموذج التجربة عاما وليس خاصا، فمثلا عملية دخول الكويت واحتلاله، قوبلت هذه العملية من اغلب افراد المجتمع العراقي بالترحاب في بداية الأمر، ولكن سرعان ما تغيرت هذه المواقف عندما ادرك العراقيون حجم الكارثة الحقيقية، وهم بعد انتهاء المعركة وقيام الحلفاء بتحرير الكويت تغير الموقف الجمعي العراقي تجاه الحاكم فكان هناك تمرد وثورة عارمة ضد النظام وقد كلفت هذه الثورة المجتمع العراقي وبالأخص الوسط والجنوب اكثر من خمسمائة الف ضحية على يد قوات النظام، وبدأ المجتمع في هذه الرقعة الجغرافية يتوق لتغيير النظام للتخلص من هيمنة الحزب الحاكم ودكتاتورية النظام، ففرح الكثير منهم بالاحتلال واطلقوا عليه اسم تحرير، ولم يدركوا ان كيان الدولة التي اظلتهم قد انتهى، ولكنهم بعد مرور اعوام على ذلك ادركوا هذه الحقيقة وهذا التغيير، فأصبح الحنين الى ظل الدولة حتى وان كانت بقيادة الدكتاتور نفسه حلم بعيد المنال، وتجسدت هذه المواقف بالتظاهرات الرافضة لنظام الحكم والطبقة السياسية. من خلال هذه التجربة نجد ان القناعات قد تغيرت عدة مرات والذين غضبوا عند احتلال الكويت غيروا قناعاتهم الان بعدما ادركوا الدور الخبيث الذي لعبته هذه الدويلة في تدمير العراق .فالاتجاهات والمواقف هي معتقدات وسلوكيات مرتبطة بشيء ما. كما أنها غير مستقرة وغير ثابتة، وبسبب الاتصال والتواصل ومشاهدة سلوكيات أشخاص آخرين، فإنها عرضة للتغيير بفعل التأثيرات الاجتماعية، وكذلك بدافع الفرد للحفاظ على الاتساق المعرفي عندما يحدث التنافر المعرفي حينما يحدث تصادم بين موقفين أو موقف وسلوك. المواقف هي اقترانات من المكونات العاطفية والمعرفية. ويمكن الاقتراح: بأنه يمكن تغيير التكوين الهيكلي للشبكة الترابطية بتفعيل عقدة واحدة. وعلى هذا، فمن خلال تفعيل عقدة عاطفية أو معرفية، فإن تغيير الموقف قد يكون ممكنا. وفي العربية، مَنْ يغير آراءه يقال له “أبو البَدَوات”، أي هو يغير رأيه كلما بدا له شيء جديد. وفي الفقه يسمى البداء ففي قوله تعالى : ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) سورة يوسف ……..

 

طارق الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم