صحيفة المثقف

عصمت نصّار: الجابري والقرآن ورحلة الرجوع (3)

عصمت نصارلمّا كانت الحجة البرهانية أعلى درجات اليقين فقد تعمدنا الاستشهاد بالعديد من الأمثلة التي تقطع بوجود اضطراب وتناقض واضح في خطاب "الجابري"؛ بل وافتقاد الاتزان والاتساق والمسحة العملية التي تؤهله للأدراج ضمن المشروعات الإصلاحية في الثقافة العربية المعاصرة.

وقد أوضحنا مدى ضعف حجته في مسايرته لغلاة المستشرقين وإنكارهم (مسألة أميّة النبي) وأن الله، دون غيره، هو الذي أوحى إليه بأخبار الديانات السابقة وواقعات الأمم الغابرة واستشراف الأحداث اللاحقة. وبيّنا أيضاً أن ترديد "الجابري" بمثل هذه الادعاءات لم يضف سوى قلقاً أو تشويشاً لأذهان الشبيبة المسلمة والرأي العام التابع. وذكرنا أن أكابر الباحثين المسلمين العرب قد ردوا على هذا الزعم ومنهم البحاثة الطبيب محمد توفيق صدقي (1881-1920م) حول حقيقة أن النبي كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب وهي سلسلة مقالات على صفحات مجلة المنار عام 1905م. ومحمد فريد وجدي الذي قام بالرد على هـ. فرانك فوستر -عام 1936م على صفحات الأزهر- الذي ادعى أن النبي قد أضطلع على تراث الأقدمين وتعلم على كهنة ورواة ومؤرخين، وذلك في مجلة (the moslem world) التي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية. والسيد محمد الطاهر بن عاشور (1879- 1973م) عن معجزة الأمية على صفحات مجلة الهداية الإسلامية عام 1939م. وحسنين خليفة وحديثه عن النبي الأمي في مجلة منبر الإسلام عام 1948م. وأحمد بن حجر آل بوطامي (1915-2002م) في كتابه (الرد الشافي على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر) عام1968م.

وحريُّ بي في هذا السياق الإشادة ببحث الأستاذ خالد محمد عبده (نظرية النبي الأمي في التراث الإسلامي) المنشور في مركز البحوث المعاصرة في بيروت عام 2017م. وحسبي أن أوضح تهافت حجة "الجابري" على بطلان أميّة النبي بعد استعراضه لآراء رواد السيرة والمؤرخين والفقهاء والمفسرين القدماء التي لم تنتهي إلى رأي قاطع في المسألة، وبات الحكم على إثباتها أو إنكارها ظني لا يكفر قائله بالسلب أو الإيجاب. وانتهى أن علة هذا التخبط والاختلاف عدم اعتماد المتكلمين على دلالة اللفظ في سياقه (النبي الأمي) وذلك في ضوء أسباب النزول والمفهوم العام للمصطلح في القرآن، أي الاعتماد على تفسير القرآن بالقرآن. وأعتقد أن هذه الحل الذي يقترحه "الجابري" يختلف عن منهجه التفكيكي وذلك لأنه يعتمد على دلالة تراثية أو مفهوم ثابت ومع ذلك أن حديثه على هذا النحو ليس بالأمر الجديد. وهناك من المتكلمين القدماء أو المحدثين ذهبوا إلى أن ربط مسألة أمية النبي بزمن ورود الآيات يتضمن اعترافاً بأن الرسول كان في فترة زمنية أمي وفي فترة أخرى يكتب ويقرأ. وخلاصة ذلك أن "الجابري" في هذه المسألة مجرد ناقل فحسب. ويقول في ذلك (ليس في القرآن، إذاً، ما يدل على أن النبي محمد (ص) كان يجهل القراءة والكتابة. لقد أوضحنا أن وصفه ب(النبي الأمي) لا يعني أنه "أمي" بمعنى عدم المعرفة بالقراءة والكتابة بل لأنه من "الأمم" التي ليس لها كتاب منزل. وكذلك الشأن في لفظ "الأميين" الوراد في القرآن كقوله تعالى "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم"؛ فالمقصود هم العرب في مقابل أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

هذا من جهة ومن جهة أخرى بينا بتفصيل كيف أن قوله "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون" لا يدل على أنه (ص) كان يجهل القراءة والكتابة، فهذا المعني يقع خارج سياق هذه الآية. ومع أن في ما تقدم ما يكفي في هذا الموضوع فإنه من المناسب هنا بيان كيف أن خصوم النبي من قريش لم يتهموه بكونه كتب القرآن. لقد اتهموه بكونه يتلقى ما ورد فيه، وخاصّة القصص، من أشخاص من أهل الكتاب "نصارى" كانوا في مكة وكان يجلس إلى بعضهم، ولكن لم يذكر أحد من الرواة أن خصوم الدعوة المحمديّة من قريش قد نسبوا إليه كتابة القرآن... عندما نبهت في الفقرة السابقة إلى خلو اللغة العربية من أصل للفظ "أمي" وما اشتق منه "أميّة" و"أميون"، وقلت إن هذه الكلمة مُعرَّبة وأن أصلها يرجع إلى لفظ "الأمم" الذي أطلقه اليهود على غيرهم ممّن ليس لهم كتاب منزل، لم أكن أنطق عن الهوي؛ بل كان ذلك عندي نتيجة بحث واستقصاء ترتب عليهما موقف نقدي لتلك الفكرة التي تلقيتها (لست أدري كيف ومتى!) والتي تربط اسم "الأمي" والمصدر الصناعي "الأميّة" بعدم معرفة القراءة والكتابة، وهو المعنى الذي نستعملهما فيه إلى اليوم من دون أن يكون لهذا الاستعمال أصل في اللغة العربية يسنده، سوى ما جرت عليه العادة.

وأضاف "الجابري" أن المعاجم اللغوية العربية قد تأثرت بالدلالة القرآنية للفظة "أمي" بتأييد المعنى الذي رجّحه الجمهور أي عدم معرفة النبي بالقراءة والكتابة. حجتاً في ذلك أن الأصل الاشتقاقي للفظة (أمية) ليست عربية. ويقول في ذلك (دليل ذلك أن أيّاً من المعاجم العربية لم تذكر شاهداً من الشعر أو النثر العربي قبل الإسلام، ورد فيه لفظ الأمي بمعنى عدم المعرفة بالقراءة والكتابة) وقد تأثر "الجابري" في ذلك بنهج "طه حسين" في مؤلفه (في الشعر الجاهلي).

كما أن هذا الزعم الذي أتى به الجابري مردود عليه من قبل علماء المسلمين ويراجع في ذلك الخليل ابن أحمد الفراهيدي (718-786م) في معجمه (العين). ويشير "الجابري" إلى خطورة المعتقدات الفاسدة على صلب العقيدة مبيناً أن هذه المسألة التي نحن بصددها أضحت ضمن مبحث النبوة عند المتكلمين ومثار قضايا عقدية عند المحدثين والمعاصرين.

وصفوة القول إن "الجابري" لم يقدم لنا حلاً لهذه المسألة؛ يبرر إعادة إثارته لها في حين أن في إمكانه القول بأن هذا القضية مفتعلة والغرض منها هو التشويش على الحقائق أو إثارة ما يؤدي إلى الارتياب على السيرة النبوية ثم الأحاديث ثم مصدر القرآن وأخيراً إلغاء الثابت والأصل في الدين. وعندي فمن اليسير مسايرة المعترضين على مفهوم "أمية النبي" (عدم الدراية بفن الكتابة والقراءة) بالقول أنه كان يقرأ ويكتب ولكن بآليات مختلفة عما يعتقدون، وتلك الآليات ربانية شأنها شأن المعجزات. كما يمكن مسايرة المثبتين لعدم تعلمه قبل وبعد البعثة على يد أحد ممّن كان يخالطهم، وذلك بدليل تشعب ما جاء به من معارف وأخبار ومن دقائق المسائل التي مازلنا نعجب من علمه بها.

أضف إلى ذلك كله، أن قوله - صلوات الله وسلامه عليه - "ما أنا بقارئ" لا ينقص من كلامه شيئاً؛ لأن معيار الكمال الإنساني يختلف عن معيار الكمال الإلهي؛ فمن ذا الذي يعلم كل شيء غيره عز وجل؟

ولمّا كان نهج "الجابري" هو المُسايرة والتكرار، وترديد مزاعم غلاة المستشرقين والشّكاك في العقيدة، فسوف نكتفي بهذا القدر من مناقشة ما جاء في كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم) مثل حجته في إعادة ترتيب آيات القرآن حسب التنزيل، أو المقابلة بين القصص التوراتي والقصص القرآني، وعلة تباين لغة تناظر النبي (صلوات الله وسلامه عليه) مع الأغيار؛ فإنّ مثل هذه المزاعم تشير إلى أن ترتيب آيات وسور القرآن ليس توقيفياً أي أنه من صنع النبي (صلى الله عليه وسلم). في حين أنه يكرر ويؤكد ويقطع في مواضع عدة من هذا الكتاب أن القرآن هو كلام الله الذي مازال وسوف يظل محفوظاً شكلاً ومضموناً بمنأى عن التبديد والتبديل.

ويقول "الجابري" في ذلك "القصص القرآني ليس مجرد حكاية أخبار؛ بل هو بيان وبرهان: وسيلة في الإقناع تدعو للاحتكام إلى العقل بعيداً عن أساليب اللاعقل.

وحسبي أن أنبّه على دهاء وحرفية "الجابري" في صياغة الاستنتاجات والخواتيم ويتمثل ذلك في استخدامه عبارات تحمل الرأي ونقيضه، والتعبير بكلمات متعددة الدلالات، الأمر الذي يصيب المتلقي بتشويش الرؤى والارتياب في الأحكام. ويؤكد في الوقت نفسه تمكنه من استيعاب نهوج كتابات الاستشراق العقدي وسوف نبيّن ذلك في مراجعتنا العامة للقضايا المركزية التي أثارها في مشروعه المزعوم.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: عصمت نصّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم