صحيفة المثقف

محمود محمد علي: قراءة نقدية في كتاب إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته (4)

محمود محمد عليفي ضوء جائحة كورونا للأستاذ الدكتور علي وطفه

نعود في هذا المقال الرابع ونكمل حديثنا عن القراءة النقدية التي قمنا بها تجاه كتاب إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا للأستاذ الدكتور علي وطفه وهنا نقول: "ولتوضيح ذلك وجدنا الدكتور علي وطفه  ينطلق لتحليل المحاور التالية:  السمات العامة للتجربة الخليجية في مواجهة كورونا (ص ص 177-182)، والتجربة السعودية (ص ص 182-188)، وتجربة الكويت (ص ص 188-194)، وتجربة الإمارات العربية المتحدة (ص ص 194-198)، وتجربة قطر (ص ص 198-201)، وتجربة سلطنة عمان (ص ص 201-205)، وتجربة البحرين (ص ص 208-210)، وقد توصل المؤلف  إلى حقيقة مهمة تخصّ التجربة الخليجيّة  يقول: "وتنطوي التجربة الخليجية على دروس مهمّة في مجال تطوير التّعليم في مواجهة الأزمات والكوارث، وسيكون لهذه الأزمة تأثير كبير في مستقبل التّعليم والتّعليم العالي في الخليج العربي، وفي غيرها من البلدان والدول حول العالم، وستشكل أزمة كورونا منطلقا وحافزا يدفع دول الخليج العربي إلى إعادة هيكلة التّعليم بأنظمته وفلسفاته وتوجهاته، وإلى إحداث تحولات جذرية في مسيرة بناء الهوية التّعليمية. لقد كشف الجائحة كثيرا من مظاهر الضّعف والقصور في بنية النظام التّعليمي الخليجي ووظائفه، وقد حان الوقت لمباشرة عملية إصلاح ثورية في بنيته ووظائفه لتمكينه من مواكبة العصر بثورته الرقمية الهائلة وإنجازاته الإعجازية في مجال العلم والتكنولوجيا، "وهذا يوجب على (كذا!) هدم الحواجز القائمة بين التّعليم الخليجي والحياة، أو بين الواقع والتّعليم، ومن ثم التغلب على مختلف جوانب الضعف والقصور في بنية التّعليم، والتركيز على أولويات التطوير والتغيير والإصلاح الجذري" (31)..  ويستطرد المؤلف فيقول: ".. ويبدو واضحا للخبراء اليوم أنّ الصدمة الاقتصادية التي فرضتها كورونا على مختلف الاقتصاديات العالمية قد أدّى، وسيؤدي في حال استمرار الأزمة، إلى انخفاض كبير في أسعار النفط الذي يشكّل المورد الأساسيّ لدول الخليج العربي، وسيؤدي هذا بدوره إلى عجز كبير في ميزانيات الدول العربية الخليجية. وقد بدا تأثير الأزمة الاقتصادية واضحا في ميزانيات وزارات التربية والتّعليم، ويمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى تخفيض إنفاق الوزارات والهيئات التابعة لها في أغلب البلدان الخليجية. وقد بلغت نسبة هذه الخفض إلى 30% في دولة البحرين لمساعدة البلاد على اجتياز تداعيات تفشي فيروس كورونا، وتبع ذلك اتّخاذ إجراءات مماثلة من جانب السعودية وعُمان، إنّ خفض هذه الموازنات سيؤثر كثيرا، بلا شك. ومن غير الواضح ما إذا كانت وزارات التّعليم ستتأثر بسبب هذه التخفيضات وكيفية هذا التأثر وأبعاده، "إلا أن الواقع يشير إلى أن دول الخليج لديها القدرة والموارد اللازمة لإجراء التغييرات المهمة في نُظمها التّعليمية التي باتت حتمية لتعافي هذه الأنظمة وتعزيز قدرتها على المرونة والتكيف مع الأوضاع المستقبلية". ومهما يكن من أمر، فإنّه" بقدر ما انطوت عليه هذه الجائحة من صعوبات جمّة، إلا أنها تمثل فرصة سانحة في حد ذاتها للاستفادة منها، ولدى دول الخليج القدرة على تحقيق إنجازات تتجاوز مجرد استعادة الأمور إلى سابق عهدها (32)..

أما الفصل السادس   الوارد تحت عنوان "من التّعليم التّقليديّ إلى التّعليم الإلكترونيّ:  أنظمة التّعليم الأساسيّ في مواجهة الجائحة أنموذجا"، وفي هذا الفصل يري الدكتور علي وطفه أنّ كورونا قد طرحت فيضا من المشكلات والتّحدّيات في مختلف جوانب الحياة الاجتماعيّة والثقافية، ومن أبرزها كما يوضح الدكتور: "الصّراع القائم والجدل المحتدم حول مشروعية التّعليم عن بُعد في مواجهة التّعليم التّقليديّ. وتدور اليوم معارك فكرية شديدة الوطأة في جدل العلاقة ما بين أنصار التّعليم التّقليديّ وبين أنصار التّعليم عن بُعد في ظل الجائحة وما بعدها، وكلّ فريق منهما يدلي بدلوه في الانتصار لهذا الجانب أو ذاك. وضمن هذه الجدلية الفكريّة، هناك من يرفض التّعليم الإلكترونيّ كلّية، ويرفع شعار المدرسة التّقليديّة بكلّ معانيها ودلالاتها، وعلى الجانب الآخر هناك من يرفع شعار التّعليم عن بُعد ويرفض مختلف مظاهر التّعليم التّقليديّ بوصفه تعليما لا يصمد أمام التطوّرات التكنولوجية والرّقمية المذهلة. وفي تضاريس هذا الصراع الفكري تكمن طبقات من الحقائق والمتغيرات التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار(33).؛ ثم يؤكد الدكتور وطفه بأنّه: "يجب علينا، ونحن نتناول هذه المسألة، أن ننظر في مختلف جوانبها، وأن نبحث في مختلف زواياها. فكلّ رأي من الآراء، مؤيدا كان أو معارضا أو موازيا، يجب أن ينظر إليه في الإطار الذي انبثق فيه، وضمن المتغيّرات التي يظهر فيها. وضمن هذا السّياق يمكن القول: إنّ المشكلة الأولى تتعلق بطبيعة الممارسة التّعليميّة التي شهدناها وما زلنا في مواجهة الجائحة. فالانتقال السريع المفاجئ إلى التّعليم عن بُعد دون تحضير مسبّق شكّل منطلقا للفهم الخاطئ لطبيعة التّعليم الإلكترونيّ عن بعد، ومدى أهميته المستقبليّة قي ظلّ الثورة الصناعية الرابعة"(34).، ثم يعلن المؤلف فيقول: " وقد حاولنا مرارا في هذا العمل التّمييز ما بين التّعليم عن بُعد في حالة الطّوارئ والتّعليم عن  بعد بصورته النّموذجيّة الإلكترونيّة، ووقفنا على ما بين الأمرين من اختلاف بيّن. فالممارسة التي نشاهدها اليوم - وعلى الأقل في أغلبها- تنتسب إلى ما يسمّى بالتّعليم عن بُعد في حالة الطّوارئ، وهي تجربة محمّلة بكثير من السّلبيات والصّعوبات والتّحدّيات التي تتمثل  في ضعف الخبرات والمهارات، وضآلة المحتوى الرقمي، وضعف التّخطيط، وتواتر المفاجآت، وضعف البنية التحتية الرقمية، وعدم قدرة المعلّمين والمتعلمين على التكيّف الفعال مع هذا النّمط من هذا التّعليم المفاجئ، وهو تعليم جديد لم يعرفوه سابقا، ولم يألفوه خلال تجربتهم التربوية الحاليّة (35).. وهنا يجب القول إنّ التّعليم المدمج يبلغ أهميته القصوى في المدرسة الابتدائية والمتوسطة، وهو التّعليم الذي يأخذ بأسباب التّعليم الإلكترونيّ الذي يشكّل منطلق مواجهة الأزمات والاختناقات. فالتّعليم الإلكترونيّ اليوم لا يقتصر على إيصال المعرفة من المعلّم إلى الطّالب عن بُعد، بل يكفل لنا ما يسمّى بالتّعليم المعزّز بالواقع الافتراضيّ الذي ينقل الواقع إلى المدرسة ويأخذ المدرسة إلى الواقع كما أسلفنا في الفصول السّابقة. فالذكاء الاصطناعيّ أصبح ضربة لازب في التربية، ولا يمكن للمدرسة اليوم أن تخطو إلى المستقبل دون مواكبته باعتباره يشكّل ثورة صامتة مستمرّة في مختلف مجالات الحياة والوجود (36)..

ولكي يوضح لنا بالتفصيل قدم لنا المحاور التالية: أهمية المدرسة (ص ص 222-226)، ونقد التّعليم التّقليديّ (ص ص 226-230)، والتّعليم الإلكترونيّ بوصفه ضرورة حضارية (من ص 230- 237)، وإيجابيات التّعليم الإلكترونيّ ومزاياه (ص ص 237-250)، وهنا توصل المؤلف  إلى حقيقة مهمة  مفادها أنّ: " العالم يتطور رقميا، ويأخذ مداه إلكترونيا، ويطوف على أمواج الذكاء الاصطناعيّ بعد أن غرق في بحر الثورة الصناعية. كلّ الأشياء تغيرّت، وكل مظاهر الوجود تبدّلت، ويعيش العالم اليوم في الماء الدافئ للثورة الصناعية، وترتفع حرارته تدريجيا دون أن نشعر بها، وسترتفع بخفة ورشاقة إلى الدّرجة التي تؤدي إلى موت العالم القديم، وتبخره، ومن ثم تحوّله إلى مومياء أبدية منسيّة. فالعالم بمظاهره الحضارية يتلاشى ويزول، وما على الإنسان إلاّ أن يلقي نظرة من حوله ليلاحظ أنّ التغير الذي اجتاح العالم في سنوات وصل إلى حد يفوق حدود التصديق. لقد أحدثت الإنترنت نقلة ثورية، والذّكاء الاصطناعيّ يدقّ الأبواب ويتغلغل في أعماقنا. وفي ظلّ هذا الزّحف الجارف لثورة الإعلام والاتّصال يتغيّر العالم بقوّة وعزم واقتدار، يتغير الناس ويغيّرون أنماط حياتهم ووجودهم تحت مطارق القوةّ والإكراه، بصورة حتميّة لا خيار لهم فيها، من أبسط الآلات والألعاب إلى أكثر الأشياء تعقيدا في الوجود، مثل النانو تكنولوجي والطباعة ثلاثية الأبعاد وعالم الروبوتات (37).؛ ولا يمكن لأنظمة التّعليم التي تزحف باستحياء في الأرضية السفليّة لعالم الذكاء الاصطناعيّ كما يقول الدكتور وطفه : "أن تصمد أمام العواصف الهائلة التي تفتّت الصّخر، وتنحت في سراديب الزمان والمكان، فالزحف والالتصاق بأرض القدامى لن يجديها نفعها، لأنّ العصف يعريها، ويهز الأرض تحت كمائنها. ولن تستطيع الصّمود طويلا أمام هذا العصف الجبار، وقدرها أن تتذرّى في الفضاء ما لم تركب أمواج التغيير، وتعلو مع مدها وجزرها"(38).. وباختصار، فإنّ مستقبل المدرسة سيكون بالضرورة افتراضيّا كما يعلن الدكتور علي وطفه في عالم افتراضي، وهذا يعني أنّ التّعليم عن بعد سيكون حقيقة مدويّة في عالم التّربية والتّعليم. فالمنصّات الافتراضيّة تتطوّر إلى مستويات مذهلة، والقادم سيكون مدهشا في مسيرة هذه المنصات المعنية بتدمير الحواجز بين ما هو افتراضيّ وواقعيّ في المدرسة في المستقبل القريب. وممّا لا شك فيه أنّ التّعليم بالواقع الافتراضيّ المعزّز سيكون نمطا ذهنيّا وفكريّا حاضرا في كل مناحي التّعليم، وهو ما يشبه إلى حدّ كبير اعتياد الناس على السّيارة بدلا من الحصان، واعتياد الناس على الطائرة في السّفر، بدلا من الجمال(39).، وستتحوّل مناهج التّعلّم كما يذكر الكاتب إلى رقمية تفاعلية، وستكون أكثر مرونة، وستتغيّر وتتفاعل مع المتغيرات العالمية، وستراعي الفروق الفرديّة بين الطلاب، وستتكيّف بحسب قدرات واحتياجات الطّالب، وستوفّر تقييماً للطالب حول مستواه التّعليميّ، وستوجهه لتجاوز الصّعوبات التي يواجهها في التّعلّم. وفي المستقبل القريب سنشاهد "تطوراً وزيادة في استخدام تقنية الواقع الافتراضيّ والواقع المعزّز خلال تفاعل الطّالب مع المادّة لتحسين وتعزيز عملية الاستيعاب في التّعلّم، وستسمح هذه التّقنيات بتطوير مختبرات افتراضيّة تفاعليّة لإجراء التّجارب العلمية الفيزيائيّة والكيميائيّة والنّمذجة الرّياضيّة وتحليل وإظهار النتائج في صور جرافيكية مباشرة من جهاز الحاسب ومن دون الحاجة للمختبرات المدرسية (40)..

وقد أكّد الدّكتور علي وطفه في الفصل السابع الذي وسمه بـ "التعليم العالي والجامعي في مواجهة  كورونا تجارب عالمية وعربية" بأنّ جائحة كورونا قد صدمت بتأثيرها الخطير أنظمة التعليم العالي، كما هو الحال في أنظمة التعليم الأساسي، فأغلقت الجامعات أبوابها، وخلت من طلابها، وتعطلت أنشطتها الأكاديمية في مختلف أنحاء العالم لأوّل مرة في تاريخ التعليم العالي والجامعي. وكانت الجامعات - على خلاف المدارس في المراحل ما قبل الجامعية - أكثر قدرة وسرعة على تبني التعليم عن بُعد في حالة الطوارئ لما تتمتع به من تأهيل إلكتروني وترسانات رقمية وخبرات علمية في هذا المجال. ومع ذلك فإنّ الإغلاق كان خاطفا وكارثيا في بتأثيره في حياة الطلاب، وفي مستوى تعليمهم، وامتد تأثيره الكبير ليشمل وضعية التقييم الجامعي والامتحانات والوضع القانوني للطلاب الدوليين في البلد المضيف. ولا جدال في أنّ قرار الإغلاق المؤقت لمؤسسات التعليم العالي، قد جاء استجابة سريعة لحماية الصحة العامة أثناء الوباء (41).. وقد وقع هذا الإغلاق بداية، في مؤسسات التعليم العالي في الصين موطن الوباء الأول، وامتد ليشمل أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقيا. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال أمرت سلطات الولايات بالإغلاق، لكن معظم الجامعات كانت قد أغلقت بالفعل، ولا سيّما الجامعات العامة والخاصة الكبيرة التي أغلقت قبل أسابيع من تدخل الحكومة (UNESCO IESALC، 2020). وقد عصف الوباء بمؤسسات التعليم العالي وأصاب بعضها في مقتل، وخاصّة تلك التي لم يكن لديها استعداد مسبّق، أو خطة طوارئ لمواجهة الأزمة. ولم يكن أمام تلك الجامعات إلاّ خيار واحد يتمثّل في الانتقال إلى التعليم عن بُعد في حالة الطوارئ. وقد شمل هذا الإجراء مختلف مؤسسات التعليم العالي في العالم (UNESCO IESALC، 2020).  وأدّت تجربة الإغلاق إلى اختبار أنظمة التعليم الجامعية من حيث قدرتها على مواكبة التعليم عن بُعد في حالة الطوارئ، وكشفت أبعاد الفجوة الكبيرة بين مؤسسات التعليم العالي أفقيا وعموديا، في مستوى الدول وفيما بينها. كما أظهرت التفاوت الكبير بين الطبقات والفئات الاجتماعية "وقسمت التجربة العالم إلى دول «متقدمة» تعليميا، وأخرى «متخلفة». وبالطبع لم تواجه دول الشّمال المتقدمة مشكلةً في «التعليم عن بُعد» لأنّها تعودت منذ عقودٍ على دمج التعليم الإلكتروني بنظيره التقليدي، ولذا انسابت تجربة المواجهة بلا عوائق تُذكَر" (مبارك، 2020). وعلى خلاف ذلك عانت الجامعات في الدول الفقيرة والنامية من مشكلات وتحدّيات كبرى تتعلق بقدرتها على مواكبة التعليم عن بعد، وعدم توفر الإمكانيات اللوجستية الضرورية لمثل هذه المواجهة. وفي كل الأحوال بدأت مؤسسات التعليم العالي والجامعات في العالم بتغيير استراتيجياتها ومناهجها لتلبية احتياجات الطلاب وموظفي التعليم والمهنيين. وقامت بعض الجامعات بإلغاء إجازات الرّبيع، ونُصِح الطلاّب الدوليون بالعودة إلى بلدانهم الأصلية (42).. وعلى الرغم من وجود إمكانية التعليم عن بُعد في حالة الطوارئ، فإنّ بعض الجامعات أوقفت التعلم والتدريس حتى إشعار آخر، بسبب النّقص في البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات اللاّزمة لكلّ من الطلاب والمعلمين. ولا تزال هناك تساؤلات حول كيفية المواءمة بين الفصول الدراسية والجداول الزمنية الأكاديمية، حيث تم بنجاح تنفيذ بعض البرامج على الإنترنت، في حين تعذّر تنفيذ البعض الآخر(43).؛ وقد فرض الطابع الأممي للوباء على الجامعات في جميع أنحاء العالم أن تعمل على توحيد الجهود مع المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومعاهد البحوث والحكومات الوطنية، من أجل تحقيق أفضل الاستجابات التي من شأنها أن تمكّنهم من المساهمة في منع انتشار الوباء، مع ضمان استمرارية تعلم الطلاب، ومع استمرار الوباء في الانتشار، ما زال المشرعون ومسؤولو التعليم العالي يعملون معًا من أجل معالجة الآثار القصيرة المدى والطويلة الأجل للوباء على قطاع التعليم العالي، وذلك لمواجهة التحديات الآنيّة والبعيدة، ولاسيما في مجالات الإدارة والتمويل الأكاديمي والبنية التحتية وفرص التعلم (44).. ولئن تناول المؤلف في الفصول السابقة المواجهة المصيرية بين كورونا والتعليم العام، وعالج كثيرا من التأثيرات التي تركتها الجائحة في مجال التعليم العام وفي مجال الحياة الاجتماعية بصورة عامة. فإنّنا نجده في هذا الفصل ينفرد بمعالجة قضايا التعليم الجامعي والعالي حول العالم، واستكشاف أهمّ التحديات التي فرضها الفيروس في منظومة ذلك التعليم.

ولكي يوضح لنا بالتفصيل قدم لنا المحاور التالية: فوضى التقويم الجامعي (ص ص 264-265)، وأساتذة الجامعة في مواجهة الجائحة (ص ص 265-268)، والطلاب في ظل الكارثة (ص ص 268-270)، وأزمة الميزانيات الجامعية (ص ص 270-271)، والبحث العلمي (ص ص 271-272)، وبين التعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد (ص ص 272-274)، وجودة التعليم الجامعي في ظل الوباء (ص ص 274-275)، والفجوة الرقمية الجديدة " الصين وأمريكا (ص ص 275-276)، وتجارب عالمية (ص ص 278-280)، وتجربة الجامعات الإفريقية (ص ص 283-284)، والجامعات العربية في مواجهة الأزمة (ص ص 284- 287)، وتجربة الدول الخليجية (ص ص 287-292)، والصعوبات والتحديات التي واجهت التعليم الجامعي عن بعد في الخليج (ص ص 296-297)، واستطلاع آراء المفكرين والخبراء في جدوى التعليم الإلكتروني في الخليج (ص ص 297-301). وفي هذا الفصل توصل الدكتور علي وطفه   إلى حقيقة مهمة وهي أنه على الرغم من أنّ معظم مؤسسات التعليم العالي لم تستثمر تقليديًا في التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد بوصفهما ركيزتين أساسيتين في تجربة التعليم الجامعي، فإنّ أزمة كورونا جاءت لتسرع إيقاع التغيير القائم على الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يحدث تغيرات جوهرية في بنية التعليم العالي واستراتيجياته، واستطاعت كورونا في النّهاية أن تدخل حركيّة على التعليم العالي، وأن تدفع به للانتقال إلى التعليم الإلكتروني بأبعاده الافتراضية. وبدت هذه الموجة أكثر تأثيرا في الجامعات العريقة التي انطلقت تحثّ الخطى في اتّجاه اعتماد التعليم الإلكتروني بصورة كاملة، بما في ذلك بلورة الخبرات الأكاديمية بالصورة الرقمية الذكية على نحو كامل وشامل. ومن المؤكّد بأنّ الأزمة الحالية ستؤدّي عاجلا إلى تسريع هذا الاتّجاه الرقمي في التعليم في مختلف الجامعات في العالم، وربما ستؤدّي تجارب التعليم عن بعد التي فرضها كورونا على الجامعات والمؤسسات الأكاديمية إلى تعزيز التوجهات المستقبلية وإلى تحديث التعليم الجامعي، وترويضه على معطيات الثورة الرقمية في مجال التعليم الإلكتروني. ويبدو لنا أنّ ما بدأ كاستجابة قصيرة الأجل للأزمة، سيغدو، على الأرجح، تحولًا رقميًا دائمًا للتعليم العالي (45).. لقد اتّخذت معظم مؤسسات التعليم العالي والجامعي كما  يرى الكاتب إجراءات نموذجية منذ البداية لحماية الصحة في الحرم الجامعي وفي المباني والقاعات. وشملت هذه التدابير تنظيم حملات إعلامية واسعة لتثقيف الطلاب بمخاطر الفيروس، وتقليص حركة التنقل داخل الجامعة وخارجها، ومن ثمّ القيام بالإلغاء التدريجي للفعاليات الأكاديمية والاجتماعية الحضورية. ومع ذلك، فإنّ فاعلية هذه التدابير سرعان ما تجاوزتها الأحداث التي أجبرت مختلف مؤسّسات التعليم العالي على تعليق جميع الأنشطة التي تتمّ وجهاً لوجه بشكل عملي بعد انتشار الفيروس المتسارع (46).. لقد تبيّن للمؤلف بوضوح في هذا الفصل وجود فروق كبيرة في عملية الانتقال بين الجامعات في الدول المتقدمة تكنولوجيا وبين الجامعات في الدول الفقيرة، واتّضح لنا أنّ الانتقال إلى التعليم الإلكتروني في الجامعات المتقدمة كان سلسا وسهلا وميسورا، ولكنه كان شديد الوطأة في جامعات الدول الفقيرة. وقد لاحظنا أيضا أنّ هذه الفروق كبيرة داخل البلدان، بين الجامعات المعروفة والجامعات الناشئة التي تعاني من صعوبات مادية ولوجستية ومن نقص في الخبرات والمهارات (47)..

أمّا بالنسبة إلى الفصل الثامن الوارد تحت عنوان" مستقبل التعليم العالي والجامعي في ظل أزمة كورونا"، فيذهب فيه المؤلف الدكتور علي وطفه إلى أن التّعليم الإلكتروني لم يكن طفرة عابرة فرضتها ظروف الأزمة التّاجيّة الخانقة، ولم يكن صرخة عابرة في ظلمة ليل ساكن. فالتّعليم الإلكتروني يعبّر عن تطوّر ذرويّ لمعطيات الثورة الصناعيّة الرابعة الجبّارة التي تجتاح معالم الحضارة الإنسانية المعاصرة. فمنذ زمن بعيد كان التّعليم الإلكتروني يتجذّر وينمو ويزدهر في عمق المؤسسات العلمية والمدرسيّة، وقد تجلّى تطوّره الحقيقيّ في نشوء الجامعات الإلكترونية والافتراضية، وفرض نفسه بقوة متجسّدا في المقرّرات الجامعية والمدرسيّة بصورة عامّة، وفق أصول ومناهج وفلسفات تربوية ضاربة الجذور. وقد تشكّل هذا التعليم في أقسام وفروع ومقرّرات جامعية مهيبة، وذلك في أروقة الجامعات والمدارس في مختلف أنحاء العالم. وكانت الجامعات تنحو إلى تعميم هذا التعليم الخلاق وتتّخذه علامة على درجة تطوّرها وتقدّمها، فانتقل التعليم داخل القاعات من السّبورة السوداء إلى السبورة الإلكترونية البيضاء، وأصبح استخدام الإنترنت ووسائل التّواصل الاجتماعي والهواتف اللّوحية المحمولة والمواقع الشخصية والتعليميّة جزءا لا يتجزّأ من الثقافة التربوية والتّعليمية في المدارس والمؤسّسات الجامعية. واعتدنا منذ فترة على مشاهدة أساتذة الجامعة والمعلّمين وهم يحملون الحواسيب جيئة وذهابا، ويستخدمونها في المحاضرات بشغف واهتمام وفعالية. ويدلّ هذا كلّه على أنّ التعليم الإلكتروني لم يكن صرخة عابرة في واد أصمّ، بل بات جزءاً صميمياً في مناهجنا وأسلوب حياتنا العلمية وعملنا الأكاديميّ، ويتجلّى تارة في حلّة إدارية مثل أقسام التعليم الإلكتروني في الجامعات والوزارات والمدارس، وتارة في حلّة علمية بوصفه مقرّرا يدرّس في الجامعات ويعمّم على الطلاب الذي كانوا وما زالوا، يطالبون دائما باستخدام أدوات هذا التّعليم في حياتهم العلمية والمعرفية (48).، ولو لم يكن الأمر على هذا النحو لما استطاع المجتمع الإنسانيّ أن يواجه أزمة الإغلاق المدرسيّ بهذا الزّخم الحضاري الذي انتقل بالمجتمع التربوي مباشرة إلى التعليم عن بعد، ولكان المجتمع التربوي يغطّ في سبات شتويّ عميق، حيث لا ضوء فيه ولا استنارة تومضها الشّاشات، ولا تواصل عبر الأثير ينبض بالحياة (49).. وما يريد المؤلف قوله في هذا السّياق، هو أنّ المجتمع الإنساني كان على استعداد كبير لمواجهة هذا الإغلاق الرهيب، وكان على موعد مع هذه التّجربة النادرة في تاريخ التعليم في المجتمع الإنساني. فالعالم الذي نعيش فيه قبل كورونا كان قد استحضر نفسه وهيأ أدواته عبر الرمز والضّوء والإشارة والرقم الخوارزمي والومض الإلكتروني لهذه المواجهة وغيرها من الصّدمات المحتملة مع مستقبل غامض ومفخّخ بالمفاجآت الخفيّة على دروب الحضارة الإنسانية(50).... وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

31- المصدر نفسه، ص 208،

32- المصدر نفسه، ص 209،

33- المصدر نفسه، ص 217،

34- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

35- المصدر نفسه، ص 222.

36- المصدر نفسه، ص 250..

37- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

38- المصدر نفسه، ص 245،

39- المصدر نفسه، ص 251،

40- المصدر نفسه، ص 261،

41- المصدر نفسه، ص 262.

42- المصدر نفسه، ص 263.

43- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

44- المصدر نفسه، ص 275.

45- المصدر نفسه، ص 302.

46- المصدر نفسه، ص 303

47- المصدر نفسه، ص 312.

48- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

49- المصدر نفسه، ص 312.

50- المصدر نفسه، ص 316

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم