صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: ابن طفيل.. فيلسوف من الأندلس

يسري عبد الغنيهو: أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل القيسي، فكأنه يرجع إذن إلى أصل عربي خاص هو بنو قيس، قيس بن عيلان بن مضر من العرب المستعربة الشمالية، وينسب أيضًا فيقال: الأندلسي، والقرطبي، والإشبيلي، ولكن أحيانًا ـ وهو الأقل ـ أبو جعفر .

 كان مولده في وادي أش، وتسمى اليوم (جياديكس) على مسافة 53 كيلومتر في الشمال الشرقي من قرطبة .

 وعن هذه البلدة قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري في كتاب (الروض المعطار، ص 192 ) والذي نشره ليفي بروفنسال في القاهرة، سنة 1937 م، قال: إنها مدينة بالأندلس، قريبة من غرناطه، كبيرة خطيرة تطرد حولها المياه والأنهار، ينحط نهرها من كبل شكير، وهو شرقيها، وهي على ضفته، ولها عليه أرجاء لاصقة بسورها، وهي كثيرة التوت والأعشاب، وأصناف الثمار والزيتون، والقطن بها كثير، وكان بها حمامات .

 ولا نعرف بالتحديد تاريخ ميلاد ابن طفيل، وإنما الأرجح أنه ولد في السنوات العشر الأولى من القرن الثاني عشر الميلادي، أي بين سنة 495 هـ إلى سنة 505 هـ، إلا أن هناك رأي قريب من الصحة يقول إنه  توفي سنة 581 هـ = 1185م .

 وفي الواقع أننا لا نعرف أيضًا أي أساتذته الذي تلقى عليهم العلم، ولا أين تلقى العلم ؟، غير أن مراكز العلم الأندلسية في ذلك الوقت  على الأخص في قرطبة وإشبيلية .

 غير أن عبد الواحد المراكشي في كتابه (المعجب في تلخيص أخبار المغرب)، وهو من أوسع المصادر التي يمكن للباحث أن يستفيد منها في أي كتابة عن حياة ابن طفيل، صاحب (حي بن يقظان)، يقول المراكشي: إن ابن طفيل قرأ على جماعة من المتحققين بعلم الفلسفة، منهم أبو بكر ابن السائق المعروف بابن باجه وغيره [ المراكشي، المعجب، طبعة القاهرة، سنة 1949 م، ص 210 ] .

 لكن ابن طفيل نفسه يقول غير ذلك عن ابن باجه الأندلسي، إذ ذكر صراحة في (حي بن يقظان )، وهو يشير إلى ابن باجه: فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل (يقصد ابن باجه)، ونحن لم نلق شخصه ! [حي بن يقظان، لابن طفيل، طبعة دمشق، سنة 1935 م، ص 14 ـ وكذلك: طبعة القاهرة، سنة 1952، ص 62 ] .

 وهذا قاطع بأنه لم يكن تلميذًا بالفعل لابن باجه، وإن كان من غير شك قد تأثر به من الناحية الفلسفية تأثرًا بارزًا، بمعنى آخر كان تلميذًا غير مباشر له .

 ولا بد أن ابن طفيل قد درس العلوم الدينية، والفقه بوجه خاص، لأن تلميذه البطروجي يذكر لنا أن ابن طفيل كان قاضيًا، وكذلك درس العلوم العقلية، والطب، حيث مارس مهنة الطب في غرناطه الأندلسية زمنًا لا ندري مدته أو وقته على التحقيق [مينك، أمشاج من الفلسفة اليهودية والعربية، ص 518 ] .

 كما اشتغل كاتبًا لدى حاكم غرناطه في تاريخ لا نستطيع تحديده، وفي سنة 549 هـ = 1154 م، كتب لأبي سعيد بن عبد المؤمن، لما كان واليًا على سبتة وطنجه [ابن أبي زرع، روض القرطاس، نشرة تورنبورج، 1 / 126 ـ 127 ] .

 ولكن الفترة المهمة في حياة فيلسوفنا هي تلك التي أمضاها في حضرة أبي يعقوب بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي القيسي، سلطان الموحدين، وكان عالي الثقافة ذا حظ من العلوم العقلية إلى جانب معرفته التامة بأخبار العرب .

 يقول عنه ابن خلكان: كان أعرف الناس بكيف تكلمت العرب، وأحفظهم بأيامها في الجاهلية والإسلام، صرف عنايته  إلى ذك، ولقى فضلاء إشبيلية أيام ولايته .

 ويقال: إنه كان يحفظ صحيح البخاري، وكان شديد الملوكية، بعيد الهمة، سخي جواد استغنى الناس في أيامه .

 وكان يحفظ القرآن الكريم مع جملة من الفقه، ثم طمح إلى علم الحكمة، وبدأ من ذلك بعلم الطب، وجمع من كتب الحكمة شيئًا كثيرًا .

 وكان ممن صحبه من العلماء بهذا الشأن: أبو بكر محمد بن الطفيل .. ولم يزل يجمع إليه العلماء من كل فن من جميع الأقطار، ومن جملتهم أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد ابن رشد الأندلسي [ابن خلكان، وفيات الأعيان، طبعة القاهرة، سنة 1948 م، 6 / 134].

 ونسأل هنا: ماذا كان يشتغل ابن طفيل بحضرة السلطان أبي يعقوب يوسف ؟!، وينفرد ابن أبي زرع من بين المؤرخين بأن ابن طفيل كان وزيرًا لأبي يعقوب [ابن أبي زرع، روض القرطاس، نشرة تورنبورج، 1 / 135] 

 والواقع أننا نشك كثيرًا في هذا الخبر، والسبب في ذلك: إن تلميذه البطروجي، ولا سائر المؤرخين الذين أرخوا لدولة أبي يعقوب يوسف الموحدي، قد ذكروا لنا أنه كان من بين وزرائه ابن طفيل الأندلسي .

 أما أنه كان طبيبه الأول فهو خبر أكثر تحقيقًا، ولعل معرفته بالطب، واطلاعه على العلوم العقلية هما اللذان قرباه من السلطان أبي يعقوب الموحدي، ما دام هذا كان مشاركًا في الحكمة مقربًا إلى أهله .

 ويظهر أن ابن طفيل نال حذوة كبيرة لدى الموحدي، وأبلغ شاهد على ذلك أنه هو الذي قدم ابن رشد إلى السلطان .

 وتدل رواية ابن رشد لهذا التقديم على مدى المكانة العظيمة التي كانت لابن طفيل عند السلطان أبي يعقوب يوسف .

 يقول المراكشي يقول المراكشي في كتابه [المعجب في تلخيص أبار المغرب، طبعة القاهرة، 1949 م، ص 242 وما بعدها]: ولم يزل أبو بكر هذا (ابن طفيل)، يجلب إليه (يعني إلى أبي يعقوب يوسف) العلماء من جميع الأقطار، وينبه عليه، ويحض على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نبهه على أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، فمنه حينئذ عرفوا، ونبه قدره عنده .

 ويواصل المراكشي كلامه فيقول: أخبرني تلميذه الأستاذ / أبو بكر  بندود بن يحيى القرطبي، قال: سمعت الحكيم أبا الوليد (ابن رشد) يقول غير مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني علي، ويذكر بيتي وسلفي، ويضم ـ بفضله ـ إذ ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين ـ بعد أن سألني عن اسمي، واسم أبي، ونسبي ـ أن قال لي: ما رأيهم في السماء ؟ .

 وهو يقصد بذلك الفلاسفة ـ هل السماء قديمة أم حادثة ؟ ! ـ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بالفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء .

 لقد التفت الموحدي إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سأل ابن رشد عنها، ويذكر ما قاله أرسطو طاليس وأفلاطون، وجميع الفلاسفة  ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم .

 فرأى ابن رشد من الموحدي غزارة حفظ لم يظنها في أحد المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له |، ولم يزل الموحدي ينشط ابن رشد حتى تكلم، وعرف ما عنده من ذلك، فلما انصرف أمر له بمال، وخلعة سنية ومركب . (وهذه هي المقابلة الأولى) .

 ويقول أبو بكر بندود بن يحيى القرطبي: إن أبا بكر بن طفيل استدعاه يومًا، فقال له: سمعت أمير المؤمنين يشتكي من قلق عبارة أرسطو طاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهمًا جيدًا لقرب مآخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به، لما أعلمه  من جودة ذهنك وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة، وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبير سني واشتغالي بالخدمة وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي .

 قال أبو الوليد ابن رشد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطو طاليس (وهذه هي المقابلة الثانية ) .

 وهذه الرواية ـ وهي صحيحة موثوق بها ـ لأنها منقولة مباشرة من تلميذ معروف لابن رشد، وهي تدل أولاً على المكانة العظيمة التي كانت لابن طفيل عند أبي يوسف يعقوب الموحدي، وعلى مدى مشاركة هذا الحاكم في علم الفلسفة، وعلى حس ابن رشد على تلخيص وشرح كتب أرسطو طاليس تلخيصًا وشرحًا، وهذا دون شك سيكون له أكبر الأثر في دراسة الفلسفة في أوربا، من أول القرن الثالث عشر الميلادي، حتى القرن السادس عشر الميلادي .

 ويحاول (جوتيييه) أن يحدد زمن هاتين المقابلتين بين ابن رشد وبين السلطان أبي يعقوب وابن طفيل، فينتهي إلى أنهما لابد وأن تكونا وقعتا في النصف الثاني من سنة 565 هـ = 1169 م، وكانت سن ابن رشد 42 سنة (تقريبًا)، بينما كان سن ابن طفيل 63 أو 68 سنة (تقريبًا) [جوتييه، ابن طفيل: حياته ومؤلفاته، باريس، 1909 م، ص ص 12 ـ 17] .

 وظل ابن طفيل في بلاط السلطان أبي يعقوب يوسف سلطان الموحدين، طبيبًا أول، وربما وزيرًا أو مستشارًا، أو ما أشبه هذا .

 إلى أن تقدم فيلسوفنا في السن فتخلى عن وظيفة الطب لتلميذه ومريده وصديقه / ابن رشد في سنة  578 هـ = 1182 م، الذي صار طبيبًا أول للسلطان أبي يعقوب يوسف .

 ولما توفي أبو يعقوب في 13 يونيو 1184 م، الموافق 7من رجب سنة 580 هـ، قام بالأمر بعده ولده أبو يوسف يعقوب، فأبقى على مكانة ابن طفيل في حضرته، كما كان في عهد أبيه، أي وزيرًا إن صح هذا الخبر، وعلى الأقل مستشارًا علميًا (بلغة عصرنا)، أو من كبار رجال حاشيته،

 وتوفي ابن طفيل في سنة 581 هـ = 1185 م، في مدينة مراكش المغربية، ودفن هناك، واشترك السلطان / أبو يوسف يعقوب في تشييع جنازته . كما قال ابن أبي زرع في كتابه [روض القرطاس، ص 135 ]، وأيضًا كما ذكر ابن الخطيب في كتابه [مركز الإحاطة، مخطوطة في المكتبة الأهلية في باريس، تحت رقم 3347، ورقة رقم 345 ] .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم