صحيفة المثقف

إميلي س. دافيز: أغنياء مثلنا والمغزى الجنسي للتضحية الوطنية

صالح الرزوقترجمة: صالح الرزوق

كي تحدد موضع سياسة سويف في صور أمل وعلاقات آنا السياسية والفنية، من المفيد أن تحدد موضع صداقتهما بالمقارنة مع علاقة مماثلة بين سولاني وروز في رواية “أغنياء مثلنا” لنايانتارا ساغال. تتحرك رواية سويف للأمام والخلف بين لحظتين من تاريخ كوارث مصر، السنوات السود التي انتهت بالحرب العالمية الأولى ودولة الطوارئ تحت حكم مبارك في أواخر عقد التسعينات. وتتحرك رواية “أغنياء مثلنا” لنايانتارا ساغال بين لحظات تاريخية حاسمة في تاريخ الهند. فحاضر الرواية يمتد بين 1975 - 1977، وفيها أعلنت هند غاندي حالة الطوارئ. ولكن الرواية تنظر للخلف لتتحرى لحظات متعددة سابقة، ومن ضمنها المشكلة التي أحاطت بـ “ساتي” في أعوام 1820 (عشرينات القرن 18)، وتتكلم عنها البطلة جدة سونالي في مذكرات عام 1915، وكذلك حركة “اخرج من الهند” عام 1930 (الثلاثينات) و1940 (الأربعينات) وتقسيم الهند عام 1947. وبما أن ساغال أقل اهتماما من سويف بإرساء توازيات بين لحظتين معينتين، كانت روايتها تستعمل اهتمامات بطلتيها، وهما موظفة خدمة مدنية هندية تدعى سونالي وامرأة إنكليزية أكبر بالعمر تعيش في الهند وتسمى روز، ومن خلالهما طورت سردية مجزأة عن تاريخ الهند الحديثة منذ 1930 (الثلاثينات) وحتى 1970 (السبعينات). 

“أغنياء مثلنا” رواية أقل تجريبية من “خارطة الحب” وتتبع بشكل عام نمطا تتناوب عليه فصول تركز على الشخصيتين الأساسيتين في الرواية. وفي حين أن فصول روز توظف صيغة الضمير الغائب، تتبنى فصول سونالي ضمير المتكلم ووجهة نظره. ومع تطور الرواية تخصص الفصول بشكل متزايد انتباهها على شخصيات أخرى مثل جد سونالي، وتشكل مذكراته جزءا من أحد فصول سونالي. ثم ك. ل. كنة الأب، وتنتهي للسجن بتهم عشوائية تدعمها حالة الطوارئ، وهناك متسولة غير معروفة الاسم تصادق روز.  ويركز السرد المركزي باستمرار على سونالي وروز. وفي معظم فقرات الوقت الحاضر تسود سونالي، وهي فرد من عائلة كشميرية براهمية وخريجة أوكسفورد، وتكافح للتفاهم مع فساد النمط النهروي الوطني وخراب اقتصاد الاكتفاء الذاتي الذي جذبها للعمل في سلك الوظيفة المدنية مثل والدها قبلها. وقد حوربت ثم طردت قصدا بعد أن رفضت المصادقة على منحة حكومية  لإنتاج مشروبات غير كحولية تسمى “هابيولا” أشرف عليها  ديف بن روز بالتبني بالاشتراك مع ابن رئيس الوزراء، وهو مشروع قام على المحسوبية في السوق الحر لنظام غاندي. 

بعد أن فقدت سولاني وظيفتها، عمدت للبحث عن مكان لها في الهند التي خذلت العديد من مواطنيها وتكونت لديها فكرة عن الفساد والعنف والقمع الذين تمثلهم حالة الطوارئ الغاندية.

2581 روايةوقد حضرت روز، صديقة مقربة لسونالي وبهيئة أم، إلى الهند عام 1932 لتتزوج من رام، وهو تاجر أقمشة ثري وقد التقت به في لندن. وروز من طبقة عاملة بلا ثقافة جامعية والتقت بروز مع رام بالصدفة حينما زار متجر الشوكولا الذي تعمل به. وبعد فترة قصيرة تغادر روز بريطانيا وتستقر في دلهي بصفتها الزوجة الثانية لرام. وفي فترة بلوغها في الهند، تصادق روز والد رام وتعمل معه لحماية التجارة التي أمسك بزمامها رام. ومثل ابنه ديف الذي اهتم بتجارة الغير وطنية على حساب البضائع المحلية، هجر رام مؤخرا فكرة إنتاج أقمشة هندية عالية الجودة للتصدير إلى السوق العالمية وحول متجره إلى بازار للبضائع الغربية الرخيصة. 

وتدبرت روز بمعونة والد رام أمرها دفة العمل وأعادته لإنتاج بضائع هندية، وأنقذته من الإفلاس. وفي الوقت الحاضر تعيش رام بغيبوبة وتتمسك بالحياة بصعوبة، وتشرب روز كثيرا، متألمة من دايف وغير قادرة على وقف الفساد الذي استشرى في تجارة العائلة بفضل إمساك دايف بخيوط التجارة وبالقوة. إن “أغنياء مثلنا” تصور جينيالوجيا اليأس السياسي الذي تعرفنا عليه في “خارطة الحب”، فهي تربط الاستعمار بالاستعمار الجديد وفساد الحكومة، والذي يقود في النهاية لأوقات قاسية. وفي الوقت الذي تشير به سويف للسياسة الأمريكية الخارجية والشركات الأمريكية والأصوليات العسكرية الناتجة من الحرمان السياسي والاقتصادي وتعتبر أنها تهديدات أساسية تستهدف مصر، تعتقد ساغال أن الهند معرضة للفساد الحكومي وهي تستقبل المنتوجات الأوروبية والأمريكية وتدعي أنها صناعة وطنية. ومثل فلاحي مصر العليا الذين وصفتهم سويف في روايتها، يبدو الفقراء والهنود الوضيعون ومن يقف معهم في رواية ساغال عرضة للاعتقال دون محاكمة، وعرضة للتعذيب على أيدي الشرطة، وضحية لسياسة التعقيم التي تبنتها إدارة غاندي. ولذلك ليس من المستغرب أن تنتهي سونالي وروز لمواجهة نفس السؤال الذي استحوذ على آنا وشريف وأمل - وهو كيف تحتفظ بالقوة والعزيمة لمواصلة ما يبدو أنه حرب ميؤوس منها لأن العدو أقوى وأفضل بالعتاد والتجهيزات.  

وهنا أيضا يلعب الرومانس دور أداة تتقابل بها سولاني مع روز. ولكن ليس هذا هو الرومانس المؤمثل الذي يمثله الزواج المثالي والغريب بين شريف وآنا في رواية سويف. بالنسبة لرام وروز كان الرومانس تجربة مؤلمة لا توفر العزاء. وتتصالح روز بالتدريج مع حقيقة أن دخولها إلى العائلة كان صدمة ساحقة لزوجة رام الأولى، وهي منى أم دايف. ومع أن روز تقول إنها “لا تشعر بالذنب لأن حبها صادق” فهي بالحقيقة منهكة دائما مما تراه فـ “الغضب لن يقربها من منى، وهي بالنسبة لمنى معتدية وجلادة” (ص138). وتجربة روز الشخصية عن خطيئة رام الغرامية مع مارسيلا وهي بريطانية من الطبقة العليا  بلور إدراك  روز حول موقف لا يحتمل وبه حددت موضع منى من مشكلة “احتلال” المنزل” (ص138). عموما بعد أن أحبطت  محاولة منى بفك الارتباط والهروب من الموقف بالانتحار أصبح بمقدور الاثنتين التواصل واعتبار أنهما جزء من عائلة أوسع. ولو أن روز تعرضت للإهانة  بسبب استمرار غرام رام مع مارسيلا، فإن رام تعرض للإنهاك بما فسره نقصا بنظافة ونقاء روز، ودليله على ذلك لهجتها العامية وأسلوبها المبتذل. كان رام محبا لمدينة لاهور، ولاحقا دلهي، ونخبويا، ولكن كانت روز تشعر أنها خارج المكان وهي وسط هذا الثراء والثقافة - بعيدة عن أسلوب وارتباطات آنا الأرستقراطية.

ومثلما أن علاقة آنا وشريف تعرضت لنكسة بسبب الأزمة السياسية التي وقعت في عصرهما، تدهورت علاقة رام وروز دراماتيكيا خلال تطور الأزمة الوطنية، وهو ما مهد لتراجيديا الطوارئ الوطنية لاحقا. فقد مرا بحالة الطوارئ الخاصة بهما حينما أعلن رام أنه يرغب بالانفصال عن روز ليخصص نفسه لاتحاد أفلاطوني مع مارسيلا، خليلته لوقت طويل. وبعد أن شعرت روز بالانهيار اضطرت لابتياع شقة لنفسها، وهو وضع استمر لخمس سنوات. وفي النهاية قرر رام أن يعاودا اتصالهما، ولكن العلاقة لم تنجح كالسابق أبدا. وفي نهاية الرواية استسلم رام - الذي أصبح هدفا لخداع الأرستقراط البريطاني - كما يوضح هوسه بالجوارب النسائية الغربية - وكذلك هدفا لخديعة من الرأسمالية الغربية، وسقط بحالة من الانهيار التي تعكس المشهد السياسي لحالة الطوارئ. وبقي رام “عاجزا ومشلولا في الفراش” وتابع ابنه إفساد تجارة الأقمشة وأصبح لاعبا قويا في السوق السوداء ومتورطا بإنتاج السيارات المصنوعة من أجزاء أجنبية. وبدا شريف وكأنه يمتلك كل قيم الحركة الوطنية وجدلا مات لأنه لم يكن إنسانا يناسب واقعه. لقد حمل عيبا لا شفاء منه، فهو عاشق وبطل وطني. 

وبالمثل روز ليست آنا، كما يشير لذلك وضعها الطبقي وانعدام علاقاتها. وهذا  لا تعكسه لهجتها فقط، ولكن ضعف خطابها السياسي. وبعكس آنا تبدو روز غير قادرة على الارتباط بوضع إيديولوجي متماسك. ومع أنها لا تشارك بالنقاش الدائر بين زوجها وصديقه كيشاف بما يتعلق بمصير الإمبراطورية البريطانية، تقارن روز ذهنيا زواجها العاصف بالعلاقة السياسية القائمة بين بريطانيا والهند.

تقول:”الحاجات القوية جعلت الطرفين يتصرفان بهذه الطريقة، ولذلك هي متأكدة أن البريطانيين لن يغادروا قبل أن يقرروا أن اللعبة انتهت، ولن يحصل ذلك حتى يشاهدوا السماء تتفجر بطريقة يفهمونها” (ص143). وترفض المشاركة بهذه الملاحظة مع الرجلين. ولاحقا تتذكر “أنها شغلت نفسها بتقديم الغداء لرام وكيشاف وهما لم يطلبا منها رأيها. ثم هي بلا رأي، عمليا، وإنما لديها غريزة فقط” (ص143)..  

وجنونها في الرواية يمثله كلامها الجريء عن نطاق من الموضوعات، من فساد دايف لتزمت سلوك حذف القبلات في أفلام تتعرض فيها النساء الريفيات مثل زوجة المتسول للاغتصاب ثم القتل. ويمكن للمرء أن يلاحظ في ادعاء روز أنها بلا رأي نوعا من الغباء. وكما لاحظت سونالي، روز “امرأة هادئة لا تستوعب “السياسة” ولكن هذا لم يمنعها من إطلاق أحكام مصيبة جدا”. غير أن وضع روز الطبقي بدل الأشياء بلا شك. وهي لا يمكنها أن تشغل مكانة آنا كمترجمة بين النخبة المثقفة. ويبدو كلا رام وخليلته أوضح بضوء هذه العلاقات، ولكن لا يتم تقديمهما بوضوح فيما يتعلق بالأمر السياسي. ومثل آنا وشريف كلاهما أرستقراطي، وهما بحال أفضل، لو قارنت أحوال رام وروز. لكن لقاءهما يبدو عملا عابرا للقوميات وليس تحالفا مضادا للكولونيالية، لأنهما يتشاركان بحب الأشياء الثمينة، وليس النضال السياسي الدائر على طرفي الحدود. 

بالمقارنة مع أنماط السلطة الأرستقراطية المتضمنة في آنا، ورام، ومارسيلا، قادت مقاربة روز الغريزية للسياسة لنسخة ماركسية من تحالف الطبقات. إنها روز التي تبنت من كل قلبها التحالف متعدد الأعراق والطبقات والذي مثلته حركة المهندس غاندي المسماة “اخرج من الهند”، وهي نفسها روز التي أدركت فورا لماذا رفض والد كنتها مبارحة السجن دون خروج رفيقه بالزنزانة معه، هي أيضا روز التي صادقت المتسول الذي يعيش في ضريح قرب بيتها.  وعلى شاكلة هيليلا في رواية غورديمير، حققت روز فهما غريزيا استوعبت به السياسة بواسطة الرغبة. ولكن الغريزة تقدم لروز دلالة مختلفة عما تقدمه لهيليلا، وقد ذكرت ساغال إن التحالفات حول روز كانت بسبب خلفياتها الطبقية وليس سلوكا فطريا مستقلا عن انتمائها الطبقي.       

 وحسب المنطق الإيديولوجي للرواية، لم تكن روز بحاجة للقلق من قدراتها على التواصل مع الفقراء كما يحصل مع مثقفي سونالي وسويف الذين ينتمون للطبقة العليا ما بعد الكولونيالية، لأنها عمليا أقرب “للناس” فهي من الطبقة العاملة. وحينما يعبر المتسول عن اشمئزازه من روز بعد موتها لأنها بلا عائلة، تعتقد سونالي “أن روز قد أعلت من شأن تلك الأمور، الدم والعرق والجاه” (ص228). لقد نظر ممثلو الإمبراطورية البريطانية بالتأكيد للاحتمالات الكامنة في تحالف الطبقات على أنه خطر، وهذا برأي آن ستولير Ann Stoler يفسر لماذا يوجد هناك قواعد صارمة بما يخص هجرة الطبقة البيضاء العاملة إلى المستعمرات، وكذلك الطرد الفوري للمنظمات الماركسية البيضاء. وتعاطف طبقة روز العاملة تحمل هذه المخاوف وتعكسها. ومع أن سهولة قدرة روز ظاهريا على تجاوز خطوط  الطبقة والعرق يقود بالنهاية لعطالتها، فإن هذه الخصلة هي التي تقف وراء إعجاب سونالي بصديقتها. 

وسونالي ليست هي روح روز المحبوبة فقط، ولكنها أيضا العائق لها. ومع أن كلا الشخصيتين تشتركان بموقف أخلاقي معاكس للفساد السياسي واللاإنسانية التي تطورت إلى طوارئ غاندي، فهما تختلفان لحد بعيد بأسلوب مقاربتهما للقوة. لقد اهتمت روز أولا بزواجها وتجارة زوجها، وهذه بلا شك أمور شخصية. بالمقابل خصصت سونالي وقتها منذ أيام الجامعة في أكسفورد لما يسميه أبوها “هندية الهند” (ص24). وحاولت أن تستوعب رؤية جواهر لال نهرو السياسية عن دولة بعد كولونيالية. وبالتركيز تماما على الاهتمامات العامة ذات الصفة السياسية والوطنية، تضحي سونالي بشكل واضح بمعنى الهوية الخاصة. فهي امرأة من الهند الجديدة، عازبة ومهنتها هي خدمة أمتها الناشئة.

هاتان الشخصيتان هما ملتحمتان بمعنى من المعاني. وكما بينت أعلاه سياسة روز الفطرية تسمح لها كما يبدو للتأقلم والتماهي مع أفراد من جماعات دينية وعرقية أخرى تشغل وضعا طبقيا مماثلا. ولكن سونالي دائما ما قاربت السياسة بمستواها التجريدي، ونادرا ما شردت خارج دائرتها الاجتماعية المفضلة. وباستيعاب هذه الحدود تعترف بلحظة من اللحظات “العمل المكتبي يعاني من علة ما - القراءة والكتابة تحل محل الحياة - وهذا يمنع المرء من الاتصال بما هو حقيقي وقريب منه”(ص82). وقرابة نهاية الرواية حينما تنقذ سونالي المتسول من بيت روز، نكون أمام لحظة اختراق للاتصال السياسي والذي توحي به مباشرة حالة روز. ومن الجدير ملاحظته أنه في روايتي سويف وساغال تحقق البطلة المؤنثة نفسها وتصبح ذاتها سياسية وذلك من خلال قتل محبوبها: في حالة إيزابيل وأمل قاد موت عمر لتشكيل فضاء أنثوي تراكمي في طواسي، وفي حالة سونالي دفعها موت روز لإنقاذ المتسول وتحقيق العدالة لصديقتها.  

ولكن التجنيس المركب للمرأتين يصعب الاطمئنان للإمكانات السياسية الكامنة في هذه الصداقة بين سونالي وروز كما تصورها رواية “أغنياء مثلنا”.

وكما ذكرت هارفين ساشديفا مان Harveen Sachdeva Mann بذلت ساغال جهدها لتقديم روز بصورة بطلة لا تقاوم ولكن فشلت بإضفاء حالة إشكالية على جنوسة بطلتها ولم تصنعها بطريقة تناسب النساء الهنديات التقليديات النموذجيات وبصورة سيتا. وعمليا تشجع ساغال على مثل هذه القراءة بتسمية زوج روز باسم زوج سيتا، وهو راما. والتجنيس يقلل خيارات روز ويفرض عليها عدة مواجهات في الرواية: ابتداء من زواجها برجل أناني يعمل بجني النقود كيفما كان، وحتى تطوير وفرض خطة عمل ناجح للشركة مع أنها لا تتحكم بها ومع أن ريعها لا يعود لها.

ومع أنها لاقت حتفها في نهاية الرواية، كانت تشرب لتقتل نفسها باليأس بسبب ظروف زوجها وبسبب مخاوفها على مستقبلها. ويمكن للمرء أن يلاحظ وضعية روز حينما تحاول ساغال إضاءة المصاعب التي تواجهها النساء، باستثناء أن روز، مثل سيتا، تبدو أغلى بسبب الصفات التي تجعل من المستحيل أن تثور على ظروفها. وتؤكد مان أن هذا التزامن بإضعاف تمثيل روز والاهتمام به هو نتاج قبول غير نقدي لساغال بجينيالوجيا البلاغة الوطنية التي تعود لمهندس غاندي ونهرو وغيرهما، ويمجد الأنوثة التقليدية لخدمة المشاعر الوطنية. وقد أكد غاندي نفسه أن النساء شريكات مثاليات في  الساتياغراها satyagraha “صيانة الحقيقة” لأن ”جنس الأنثى.. حتى اليوم هو الممثل للتضحية، والمعاناة الصامتة، والإيمان، والمعرفة”. واستمرارية سلبية روز ومقتلها في النهاية يدعها تحمل مرتبة شهيدة في سبيل الوطن ويربطها بالمرأة المثالية التي وصفتها في حكاية سيتا، وهي امرأة مستبعدة ومعزولة وفي النهاية تقتل بالرغم من إثبات شرفها.

أما سونالي بالجهة المقابلة تحتل مرتبة وتتوارث التقاليد الذكورية الوطنية، التي تعود لأيام جدها، والذي عمل على “تحديث” الهند وصارع المظالم. لا ترى الرواية  في ساتي - قضية سياسية يتبناها جد سونالي - وفي  الجرائم المعاصرة المرتكبة ضد النساء الريفيات على أيدي الشرطة الفاسدة كالحرق - مصير زوجة المتسول وسبب عجزه - جريمة جنسية ولكن أمثلة رمزية عن عنف الدولة المطبق على الضعفاء.  وطبقا لهذه التقاليد الوطنية، يصبح العنف مثالا على الظلم البنيوي المتضمن في العنف نفسه. وهو نتيجة من نتائج الخطأ الدولي، وهذا لا يساعد على تصنيف هذه الأفعال في حقل النشاطات الناجمة عن التداخل النوعي بين الاقتصاد والسياسة والثقافة. وعليه حينما تتصفح سونالي أوراق أبيها بعد وفاته، تفهم لماذا ألقى نفسه على محرقة أمها بمحاولة غير ناجحة لإنقاذها، وهي لحظة مؤثرة تمثل الكفاح ضد الظلم كما يدور في رأسها. وكما قالت مان: إن بطولة الرجال، غالبا للدفاع عن النساء الذين لا يسعهم إنقاذهن، هي ما تعتبره الرواية أعلى مثال عن الخصال الوطنية. ويبدو أن سونالي تفقد مشاعرها بنفسها كذات جنسية، مع أنها تعود في نهاية الرواية لمدير قوي كان فيما مضى عشيقها في محاولة لإنقاذ روز - وهي محاولة لا تنجح، مثل فشل والدها في إنقاذ أمه قبيل سنوات. وفكرة سونالي عن ساتي أنها رمز لكفاح أوسع مجرد جزء من تفكير يقودها لرؤية كل الرعايا على أنهم أتوماتيكيا جاهزون للتوحد ضد الظلم. ولكن هذه النظرة تنتج تحالفا لا يتواجد فيه أحد، فهو يتجاهل الاستثمارات المتنوعة للمقاطعات المختلفة وقصور القوة بين الجماعات اليائسة. وتتخطى سونالي رؤية التحالف الذي يقوم على أساس “صولة الحق” الغاندية فهو شيء لا يستحق أن تبدأ به.    

في النهاية يحرض تصوير هاتين المرأتين في الرواية عدة أسئلة. لأي مدى تشير ماركسية روز الفطرية ووطنية سونالي الذكورية لحالة سغال الأرستقراطية بذاتها؟. ولماذا على روز أن تتكئ جدا على الغريزة وليس على الثقافة أو نوع آخر من أنواع الصحوة؟. هل هي محاولة ساغال في تحقيق مثقف عضوي وبلورته؟. ولكن أمامنا محددات أمام الاحتمالات السياسية التي تمثلها صداقة سونالي وروز. من مستوى رسمي، تأخذ ساغال مقاربة شبيهة جدا بسويف في إنتاج رواية عن الأزمة السياسية لحالة الطوارئ التي تعتمد على إعادة كتابة الغرام الكولونيالي.

ومثل سويف تستعمل ساغال علاقة غرامية عابرة للقوميات بين عرقين، وطرفاها بريطانية بيضاء ومواطن كولونيالي مذكر. وهذا مبرر لمقاربة رابطة ذات معنى أعمق - وهي بين المرأة البيضاء والمواطنة الكولونيالية المؤنثة. وفيما تجدد أمل انتماءها للفلاحين برواية حكاية آنا، تمر سونالي ببعث سياسي بعد صداقتها مع روز. وتشغل سونالي وأمل موضعا مماثلا فهما من النخبة المثقفة الغربية وتكافحان للمحافظة على معارضتهما لنظام كولونيالي قمعي وفاسد تدعمه عدة مصالح عابرة للقوميات. وكلتاهما وحيدتان، تتساءلان كم مضى من حياتهما هدرا. وكلتاهما، أمل وسونالي، تمثيلات بوجه القصور السياسي وهذا أمر جازم. وكما بيّنا تفهم أمل دورها كمترجمة وقاصة تدافع عن الفلاحين. وبنفس الطريقة تقبل سونالي عملا من مارسيلا خليلة رام السابقة، وتكتب تاريخ الفن الهندي في القرن السابع عشر من أجل معرض في صالة فنية في لندن. وتقرر أن تعمل بخدمة المرأة التي تسببت لروز بالقلق لسنوات. وهذا يدل على حدود تسييس سونالي بالمقارنة مع أمل. ترغب أمل بوضوح أن توظف موضعها الطبقي بخدمة ريف مصر الفقير. ولكن ماذا يقدم عمل سونالي بمعايير المستقبل السياسي؟.

تؤكد مان أن عملها الجديد يبدو استعمارا جديدا تماما، ما دامت تفهم تاريخها وهي تعلّبه بأسلو هندي “مؤتمت” و“تتقنه” لخدمة زبائن في لندن. وأي تفسير أعمق سيقودنا إلى أن سونالي مثل أمل اهتمت بالكتابة عن تاريخ الفن كوسيلة لكسب الإلهام في صراعها المستمر ضد انحدار الهند إلى الشمولية.  مثل هذا التفسير يضع سونالي مع روز، وهي بدورها تجد ملجأ يوتوبيا بالتمثيل من خلال حكاية سيثيرا، وذلك في مكان سابق من الرواية. وتسمع روز أولا من زافار صديق زوجها بحكاية هذه الجزيرة الحقيقية الإغريقية وتعلم أنها وطن ميثولوجي “للمؤمنين بالحب”. وذلك في حفل غداء في الثلاثينات (1930). ويخبرها زافار أن سيثيرا هي “مكان مجهول” و“مشتت مثل الباكتسان”، والتي كان إنشاؤها يجري الإعداد له في ذلك الوقت. (ص66). 

تشتري روز لاحقا خلال زيارة إلى إنكلترا بطاقة بريدية تحمل لوحة مشهورة لجين أتوان واتو، هي لوحة “رحلة إلى جزيرة سيثيرا”، ويبين العنوان أن “الرحلة كانت بحثا.. وسيثيرا فردوسا، حلما مستحيلا، ولكن الرحلة لم تصل أبدا”(ص181). لكن سونالي تكره الزخارف الزائدة في الصورة، وهي زخارف تعود لتلك الفترة. ثم توافق لاحقا على توثيقها من أجل مارسيلا، فالزخارف طراز استبعدته الثورة الفرنسية. كانت روز أبطأ في رفض سلطة الصورة، وكانت تفكر بصوت سري وتقول لنفسها:”الأساطير على الأكثر مقاومة للفناء بالمقارنة مع بقية الأشياء. وهي من المادة التي خلقنا منها، هكذا قال والد سونالي مرارا، وهناك أكثر من حقيقة تاريخية تبرهن عليها، هناك مارسيلا أيضا”(ص182). 

ومثلما وهب رام نفسه للأسطورة المستحيلة وهي الارتباط الكامل بمارسيلا، التزمت روز بأسطورة سيثيرا كرمز يعبر عن المستحيل المرغوب الموجود في السعادة الحقيقية وهي برفقة رام، والأمل غير المتحقق باتحاد مسلمي وهندوس جنوب آسيا خلال وبعد التقسيم. واهتمام روز بسلطة الأسطورة، كما تمثلها سيثيرا، يمثل اتصالا سياسيا ضعيفا مع مشروع الجينيالوجيا الفنية لسونالي. وفي حين أن أمل تكشف عن السردية الكولونيالية المصرية، تنتقل سونالي للحظة سابقة من الافتتان الكولونيالي في الهند.

في كلا الحالتين تؤكد الروايتان ضمنا أن ما يبدو ابتعادا عن السياسة وتقاربا مع الجماليات (الاستعمارية) قد يتبين أنه عودة للخلف نحو النشاط الإيجابي وليس تراجعا عنه. إن السياسة المبهمة التي تلتفت للفن في نهاية الروايتين تتوازى بالمثل مع لحظتي أمل غامضتين يرمز لهما بحياة جديدة في كل حالة. وفيما أن “خريطة الحب” تنتهي بولادة طفل، تنتهي رواية ساغال بخلاص المتسول. وحينما تجده سونالي يبكي في مكان مقتل روز تقول:”كنت مسرورة أنه بمقدوري إخباره عن اليدين الصناعيتين اللتين تدبرتهما له، وأنني سأحمله في يوم أو يومين لتركيبهما. وبعد أن تعلم طريقة استعمالهما سيتعلم العمل بالتجارة” (ص226).

ولكن ماذا حصل للمتسول؟. كان هو آخر اتصال لسونالي مع التحالف الذي مثلته روز، وحينما غاب عن مسرح الرواية، اختفى معه الموضوع السياسي الوطني الذي مثله جدلا. وتتحول النهاية السعيدة المفاجئة للمتسول فورا إلى لقاء سعيد لسونالي مع رافي كاشرو عشيقها القديم، وقد عاد الآن ليقف على أرض أخلاقية ذات مستوى أرفع بعد طرده من وظيفته الحكومية لأنه حاول تقديم المعونة لروز. وهذا المشهد، بدوره، يتبعه تقديم فرصة عمل لسونالي من مارسيلا. ولكن إذا استعادت سونالي هويتها السياسية من خلال علاقتها مع روز، فهي أيضا “تتنازل” لمستوى وضعية “كسولة” مثل روز تماما -  وتجهز المنتوجات الهندية للبيع في الأسواق الغربية وتلتفت للفضاء الخاص بحثا عن الاستقرار في عصر الأزمات. 

 

..........................

إميلي س. دافيز Emily S. Davis أكاديمية أمريكية تعمل في جامعة ديلوير. تهتم بالخطاب الأدبي الكولونيالي وما بعده. والترجمة من كتابها “إعادة التفكير بالنوع الفني للرومانس”.   

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم