صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: نعم للإعجاب.. ألف لا للنفاق

يسري عبد الغنيلقد عزف الموسيقار النمساوي العالمي / بيتهوفن، عبقري الموسيقى الخالد، سيمفونية رائعة لنابليون بونابرت الذي غزا بلاده، وأذل شعبه !!، ولكن الرجل كان معجبًا به، لأنه كان محبًا عاشقًا للشجاعة وللعبقرية، ومتيمًا بالتفرد الذي هو الطريق إلى الخلود، وقد عبر عن ذلك بفنه .

 وجوته الأديب والشاعر الألماني الكبير، تقدم إلى نابليون هو الآخر، وخضع له، وهو شاعر ألمانيا الأكبر، وبالطبع كان لديه مبرراته الخاصة، وهو إعجابه بعبقرية نابليون وشجاعته، وهو حر بالطبع، والكل أحرار، أحرار فيما يقولون أو يفعلون، المهم أننا أحرار أولاد أحرار ما لم نضر الآخرين .

 وفي بلادنا ينافق البعض من أهل الأدب والفكر والإبداع الحكام وأهل الحل والعقد في كل عصر، ويوافقونهم كل الموافقة على أي تصرف أو قرار يتخذونه، والذي قد يصل في بعض الأحيان إلى أنه ضد الفكر والرأي والحرية والعقل، وبكل أسف فإنهم يفعلون ذلك مع كل حاكم جديد يعتلي الحكم .

 من الجائز أن تكون هذه هفوات في حياة الكتاب وأهل الفكر، ولكن الهفوات عندما تزيد عن حدها تنقلب إلى ضدها، وهفوة عن هفوة تختلف.

 ذهب الفيلسوف والشاعر والمفكر الثائر الفرنسي الشهير / فولتير إلى ألمانيا، وذهب إلى الإمبراطور الألماني / فردريك، الذي بنى لفولتير قصرًا شامخًا، هو قصر (بوتسدام)، وجعل فيه غرفة ضخمة واسعة، لها قبة تشبه السماء الزرقاء، وسماها قاعة فولتير، وما زالت موجودة حتى يومنا هذا يزورها الناس بشكل دائم .

 وقد تسألني: كيف أصبح داعية الحرية والعدل والمساواة والإخاء والثورة تابعًا مطيعًا من أتباع ملك وإمبراطور ألمانيا / فردريك ؟ !! .

 أقول لك: كم من أديب ومبدع وفنان مات معنويًا قبل أن يذهب إلى قبره، وذلك عندما نافق السلطة والسلطان، والأمر العجيب الغريب حقًا أن يكون قد بدأ حياته مناصرًا للحق والحرية وللفقراء وللمعدمين وللمطحونين، ثم ينقلب على عقبيه، ويعود القهقرى ليمشي في موكب ندماء السلطان، بل قد يرقى إلى درجة حامل مبخرة في حاشية السلطان!!.

 أذكر أنني قد سألت ذات مرة أحد هؤلاء عن الذي قلب حاله، فقال لي ساخرًا : ما عاد في العمر ما يسمح لي بأن أقول (لا) !، وسألت آخر فصرخ في وجهي قائلاً: لقد ذقنا السجن والنفي والتشرد والجوع، كفانا ما كان، ما الذي حققناه، لا شيء على الإطلاق، ولنغلق أو نسد الباب الذي يجيء منه الريح العاصفة، كي نستريح .. !!

 وبالطبع محال أن يعود هؤلاء إلى الكفاح والنضال، فقد تحولوا إلى طيور داجنة، تعيش في رغد العيش، والثراء، والمناصب، فكيف يتركون ذلك كله، ليعودوا طيورًا حرة تحلق في سماء الحرية ؟ ! .

 وصدقني ـ أيها القارئ ـ فإنهم مهما قالوا أو كتبوا فلن يصدقهم الناس، الناس قد تتناسى أو تدعي أنها نسيت، ولكن من المحال أن تنسى بالفعل، أضف إلى ذلك أن إبداعهم قد نضب، ويراعهم قد جف إلى أبد الآبدين .وفاتهم  أن مزبلة التاريخ تنتظرهم بفارغ الصبر

 قالوا: إن أمير الشعراء / أحمد شوقي بعد النفي الاختياري إلى أسبانيا، تحرر من ربقة القصر والسلطة والسلطان، وأصبح بحق شاعر الشعب يعبر عن آماله وآلامه .

 في نفس الوقت الذي دخل فيه شاعر النيل والشعب / حافظ إبراهيم إلى سجن السلطة، يوم أن قبل وظيفة أميرية في دار الكتب المصرية، وأصبح الرجل متحفظًا، وقلت حماسته، ولم نعد نقرأ له أشعاره النارية ضد السلطة والمستعمر .

 لماذا ؟، لأن حافظًا أراد أن يحافظ على لقمة العيش، ولم يعد في عمره ما يسمح له بالتسكع أو بالتشرد، أو بسؤال الناس، أعطوه أو منعوه .

 ولكن هناك من يرد على ذلك بقوله : إن حافظًا لم يستمر كثيرًا في الوظيفة الحكومية بدار الكتب المصرية، حيث أحيل الرجل إلى التقاعد حين بلغ سن المعاش القانوني، وليس كشوقي الذي عاش أغلب عمره في القصر .

 ويقولون: إن حافظًا لم يترك قلمه، ولم يخاصم الشعر الوطني، أثناء عمله الحكومي بدار الكتب، بل أبرزوا العديد من الأشعار التي تؤكد أنه كان يكتب شعره الوطني الناري بأسماء مستعارة .

 على كل حال، ففي حياة المبدعين والعباقرة أشياء وأشياء، أشياء غريبة، وأخرى عجيبة، تحار فيها العقول والأفهام، وقد يعجز مؤرخ الأدب عن تحليلها بأي منهج تفسيري، أو أسلوب تحليلي، وقد حدث هذا عندنا، وعند شعوب المعمورة الأرضية كلها .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم