صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: المرأة في مسرح الأمير

يسري عبد الغنيالمرأة في حياة أمير الشعراء / أحمد شوقي لا تكاد تذكر، وشعره في الغزل أهون أشعاره، برغم قيمته الفنية العظيمة .

 ويذهب بعض النقاد إلى أن غزل (شوقي) لا ينبئ الباتة عن عاطفة صادقة قوية، وأغلبه متكلف، وإن صحت له فيه أبيات صارت تجري إلى يومنا هذا مجرى الأمثال، من مثل قوله:

خدعوك بقولهم حسناء

والغواني يغرهن الثناء

 وقوله:

صوني جمالك عنا إننا بشر

من التراب، وهذا الحسن رباني

وقوله يصف مراحل الحب والغزل:

نظرة، فابتسامة، فسلام

فكلام، فموعد، فلقاء

 يقول النقاد: قد تصدق هذه المأخذ على قصائد شوقي، في المرحلة التي كان مقيدًا فيها بتقاليد القصر، وهذه التقاليد تحول بينه وبين الإفصاح عن لواعج نفسه، وخلجات فؤاده، وتدعوه دائمًا إلى التريث والتستر .

 والمعروف لنا أن (شوقي) افتتح بعض مدائحه بالنسيب والتشبيب على عادة القدماء من الشعراء العرب، ولكن القصر أوعز إلى مدير المطبعة، فأسقط النسيب، وأبقى المديح، ولذلك ـ كما يقولون ـ فترت همة الشاعر في هذا الباب .

 وعندي أن هذا الكلام غير دقيق، فإذا كان الشاعر، أي شاعر، متمكن في غزله، صاحب عاطفة، عاطفة قوية صادقة، غير متكلف لها، لأظهرها بصورة، أو بأخرى، فالتعبير الصادق لا يعوقه معوق مهما كان .

 اذكر هنا أن (شوقي) عندما كان في باريس يطلب العلم، كتب فصلاً من مسرحيته (علي بك الكبير)، وأرسلها إلى القصر، ولكن القصر لم يعجبه هذا اللون من الكتابة، التي لا يتفق مع تقاليده .

 السبب الرئيسي من وجهة نظرنا هو أن هذه المسرحية كانت تتكلم عن الاستقلال، والسيادة والحرية، وغيرها من الأمور غير المقبول الكلام فيها في تلك الآونة .

 وقالوا لشوقي صراحة: من الأفضل أن تهتم بدراستك، ولكنهم لم يرفضوا أي مدائح يرسلها، ولكن (شوقي) بعد ذلك أعاد كتابة هذه المسرحية، ضمن مسرحياته، والتي كتبها، أو أصدرها في عشر سنين، ومعنى ذلك أنها كانت مكتوبة وجاهزة عنده، واحتفظ بها حتى أضحت الظروف مواتية.

 ولكن (شوقي) عندما تخلص من ربقة القصر وتقاليده الصارمة، وقيوده الجامدة، كان شبابه قد ولى، ولكنه استطاع مع ذلك أن يعبر عن مواجد الحب والأشواق، بمعاناته الوجدانية، لما كان يضطرم في قلوب المحبين الذين يمثلهم، ونطق بألسنتهم في مسرحياته الشعرية .

 كما نجد له بعض القصائد الغزلية يعارض فيها الشعراء الأقدمين، كمعارضته للشاعر / الحصري القيرواني في قصيدته المعروفة:

ياليل الصب متى غده ... ؟

فيقول شوقي:

مضناك جفاه مرقده

وبكاه رحم عوده

 والمعارضة الشعرية في حد ذاتها ضرب من التقليد، ولاسيما في الغزل، ولكنك تشعر وأنت تقرأ القصيدة، أعني قصيدة شوقي، بحرارة الانفعال والمكابدة، وكثيرًا من قصائد شوقي الغزلية اختارها أهل المغنى لغنائها، وذلك لرقتها، وجمال موسيقاها، وذلك كقصيدة:

ياشراعًا وراء دجلة يجري

لها دموعي تجيئك العوادي

وقصيدته:

يا جارة الوادي طربت وعادني

ما يشبه الأحلام من ذكراك

 وشوقي في غزله المبكر مقلد، كثير الاحتفاء بالجمال الحسي، لكنه تطور في غزله المتأخر، وبخاصة تعبيره عن عواطف أبطال مسرحياته، كقيس بن الملوح، وليلى العامرية، وكليوباترا، وتيتاس بطلة مسرحية (قمبيز)، فالتمس أسرار الجمال وراء الظواهر الحسية، والصور المادية، وأصغى إلى نبض القلوب موقعًا على أوتار شجية من الشوق الجانح، والجوى المكتوم، مرهف الشعور بأفاعيل الهجر، والصدود، وفرحة اللقاء، وصدمة الحب اليائس .

 وإذا كانت شخصية (روميو) هي التي حركت (جوليت) في مسرحية شكسبير الخالدة (روميو وجوليت)، وكان (قيس) هو المحرك الأساسي لشخصية ليلى العامرية التي أحبت ابن عمها (قيس)، ولكن العادات والتقاليد حالت دون النهاية السعيدة لهذا الحب العذري الخالد .

 ولكن (كليوباترا) التي كتبوا عنها الأشعار والروايات، وكانت حكاياتها في التاريخ عجيبة، ونجدها في مسرحية شوقي (مسرح كليوباترا) هي الآمرة الناهية في كل شيء، يدافع عنها شوقي دفاعًا مجيدًا لا نظير له، بل أنه يعتبرها بطلة قومية، تدافع عن مصر ومجدها، مؤكدًا على أن التاريخ قد ظلمها ظلمًا بينًا، لذلك يجب أن ينصفها، وقد فعل شوقي ذلك، عكس كل من كتب عنها من كتاب الغرب .

 لقد عشق شوقي شخصيتين امرأتين، هما: (ليلى العامرية )، و(كليوباترا)، وأبدع في تصويرهما كل الإبداع، ولكنه لم يجد في مسرحية (علي بك الكبير) و(قمبيز) امرأة ليتحدث عنها، مع أن العنصر الأساسي في البناء الدرامي هو المرأة .

 ولا ننسى في (قمبيز) بتنتاس بطلة المسرحية التي تضحي بنفسها من أجل مصر، ومن أجل الدفاع عن أرضها .

 وهنا أتذكر بحثًا قديمًا ومهمًا لأستاذتنا الدكتورة / سهير القلماوي (رحمها الله)، عنوانه: (المرأة والحب في مسرحيات شوقي )، تقول فيه: إذا كان الانحدار شوقي من أصل تركي مخلط قليل أثر في مناحي شعره، فإن لهذذا الأصل الذي فرض على شوفي حياة أسرية بعينها أكبر الأثر في تصوره للمرأة .

 فلم تكن المرأة في هذه البيوتات التركية الأصل أو المختلطة هي المرأة المصرية الصميمة التي تملأ بيوتات مصر في أيامنا هذه، كانت بيوتات الأثرياء أمثال شوقي، وبيوتات المتصلين بالحكام وبالملوك خاصة تظلل حياة أخرى فيما يتعلق بالمرأة .

 كان هناك في هذه البيوتات نوع من الاحترام للمرأة لم يكن هو المألوف في بيوتات عامة الشعب، ولذلك كانت هذه البيوتات مثلاً تستقبل ميلاد الذكر أو الأنثى بغير فرق، ومن هنا نفسر تعلق شوقي بابنته أمينة، وتفضيله إياها على أبنائه الذكور .

 ولست أريد أن أفيض لك في هذا، وإنما حسبي أن أخلص إلى أن الأمير عندما كان يصور المرأة، كان يصورها بكل الاحترام الواجب لها، ومن هنا تجد نظرته للحب تعكس احترامًا أكثر مما تعكس لهفة أو حرمانًا أو تجارب ملتهبة .

 أقول لك: إن العاطفة نحو المرأة يحب أن تكون دائمًا وأبدًا عاطفة الواجب والاحترام، والارتفاع من منزلة الواقع، وهذه هي معالم الشخصية النسائية التي أبدع شوقي في وصفها، نساء يضحين بأنفسهن في سبيل الوطن مثلما ضحت الملكة كليوباترا بحبها في سبيل تاج مصر، ومثلما ضحت نيتيناس في قمبيز، في سبيل الوطن لتحمي بلدها من بطش الملك الفارسي الجبار قمبيز .

 أما صورة الحب الحقة التي كان شوقي يحسها بالفعل ولا يجرؤ على البوح بها أو التعبير عنها تمثيلاً قد ظهرت في مسرحه في الموضوعات أو الشخصيات الثانوية، كحب هيلانة لحابي، في مسرحية مصرع كليوباترا، وحب بثينة لحسون في أميرة الأندلس .

 إن الموضوعات أو الشخصيات الثانوية هي التي كانت تحمل العاطفة المتأججة، وكانت تنتهي بالزواج والوفاق، لأن الموضوع الثانوي لا يحتمل النهاية المأساوية التي يحملها أو يحتملها موضوع المسرحية الرئيسية .

 أنت تعلم مثلي أن أحمد شوقي عاش في عصر كانت التقاليد من حوله تنهى عن الحب أو العشق، وتجعل الغزل في الشعر صنعة أكثر منه تعبيرًا عن واقع حسي ملموس، وكانت هذه التقاليد تفرض أن يكون الواجب فوق العاطفة، وأن يرتفع الناس دائمًا فوق أحاسيسهم العادية إلى مراتب الأحاسيس الكبرى العامة .

 ولقد فرض هذا فكرة الحب العفيف على مواقف الحب في مسرحيات أحمد شوقي، فإذا اجتمع الحبيبان فإنما ليكونا كما وصف:

وعلينا من العفاف رقيب

تعبت في مراسه الأهواء

 ويقول شوقي: إنه شاهد فلمًا سينمائيًا عن ملكة فرنسية، صورها الفيلم في صورة امرأة داعرة، وبذلك أسيئ أعظم إساءة إلى هذه الملكة، فقال شوقي لنفسه: ماذا يجدي عرض الفضائح على الناس ؟، وكم في التاريخ من أغلاط وأكاذيب ؟ !

 وهنا برزت الملكة كليوباترا في ذهن أحمد شوقي، فقال لنفسه: لا يبعد أن تكون هذه الملكة قد جنى عليها المؤرخون من ذوي الأغراض، لأنه لا يمكن أن تكون كليوباترا على هذه الحالة الزرية التي نراها في كتب المؤرخين .!!

 وراح شوقي بمعلوماته القليلة وثقافته المحدودة عن الملكة كليوباترا، يرجع إلى أول من كتب عن تاريخ كليوباترا، وهو المؤرخ (بلوتارك)، وهو من صنائع الرومان، وبالطبع أمعن هذا المؤرخ في الحط من شأنها، فأراد شوقي أن يبرز ما في  حياتها من عبر ومثل، كالتضحية بالذات في سبيل الكرامة، وبذل كل غال ومرتخص من أجل الوطن .

 قلت لك من قبل: إن (شوقي) لم يجد في مسرحية (علي بك الكبير أو دولة المماليك) و(قمبيز) امرأة ليتحدث عنها، مع أننا تعلمنا في دراسة الدراما أن الإبداع الدرامي هو المرأة، ففي علي بك الكبير لا نجد غير (آمال وشمس وزكية )، وهن إماء معروضات للبيع، وأم محمود الماشة والواسطة في بيع الجواري، وصدقني إذا قلت: لم يكن هذا هو العجز عن إيجاد شخصية نسائية في مسرحيتي علي بك الكبير وقمبيز، ولكنه كان الحب الشديد لشخصيتي ليلى العامرية حبيبة قيس، والملكة كليوباترا، وحقًا فإن الشاعر أو المبدع حين يحب لا يصرفه أي شيء عن حبه .

شكسبير كتب مسرحيته الشعرية عن (يوليوس قيصر)، وليس عن كليوباترا، وسلط الأضواء على البطل لا على البطلة، وهكذا فعل برنارد شو عندما كتب عن كليوباترا، وهذا هو الفارق الذي أكلمك عنه من ناحية إحساس الشاعر أو الفنان بالشخصية، وكان شوقي يحب المرأة في مصرع كليوباترا، وكان يحبها كذلك في مجنون ليلى .

 ولذلك لم يسقط اسمها حتى في عنوان مسرحيته الشعرية، وذكرها باسمها، ولم يذكر اسم حبيبها وابن عمها قيس بن الملوح العامري، وكان في إمكانه أن يسميها (قيس وليلى) بدلاً من (مجنون ليلى) .

 حقًا، إنه شيء محير، المرأة عند المبدعين أمر عجيب، أمر غريب، لن نستطيع أن نفسره مهما كتبنا ومهما كتب غيرنا

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم