صحيفة المثقف

محمود محمد علي: يحيي حقي.. القنديل المضئ في عالم النقد الأدبي (1)

محمود محمد عليما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي، بأن الرجال العظام، هم هدية النعيم للإنسانية، وهم يمثلون في التاريخ الأقطاب، الذين لا ينتصبون عادة عند مفارق الطرق، فيرشدون المسافرين إلي الطريق الصحيح، وقد كان الأستاذ " يحيى حقي محمد حقي" -(17 يناير 1905م - 9 ديسمبر 1992م )، يمثل ظاهرة فريدة فى تاريخ الأدب العربي الحديث، بأسلوبه الذى يتسم بالاقتصاد والتركيز والتصوير، حيث ترك لنا ميراثا من القصص، والروايات، والنقد، والمتابعات فى الأدب والفنون التشكيلية، والموسيقى، والعمارة، والتاريخ والحضارة، إضافة إلى ترجمته كتبا متنوعة (1).

ليس هذا فقط بل إنه عندما تسمع مقولة "قنديل أم هاشم"، أو تنتبه لكلمة "البوسطجي"، أو يقول أحدهم أمامك ولو على سبيل الدعابة: "إن فاتك الميري"، أو يذكر "أم العواجز" وهو اللقب الذي أطلق على حفيدة رسول الله السيدة "زينب"، يتبادر إلى ذهنك بشكل مباشر الأديب الكبير "يحيى حقي"، الذي كتب وقدم أعمالا أدبية خلدها التاريخ (2).

كما خلدت السينما بعض منها فى أفلام عبرت عن واقع المجتمع المصري في فترة من أهم فتراته؛ فهو القيمة التي لا تموت، أحد الآباء الشرعيين لفن القصة والرواية في مصر والعالم العربي، جنباً إلى جنب مع أقطاب يتقدمهم صاحب جائزة "نويل" الأديب العالمي "نجيب محفوظ"، "توفيق الحكيم" الذي زامله أثناء دراسته للحقوق، وكوكبة من الأسماء التي توهجت في سماء الثقافة المصرية، مثل "حلمي بهجت بدوي" وغيرهم من قناديل مصر الأدبية متقدة البصيرة ونافذة الأضواء (3).

ولهذا يقترن اسم "يحيي حقي" بقنديل أم هاشم كأنه لم يكتب غيرها. فهي تعتبر ابنته المدللة المحببة لدى الناس رغم أن لديه أبناء سواها. يصعب أن نصنف "يحيى حقي" في خانة واحدة لكثرة انشغالاته وميوله التي توزعت بين القصة القصيرة، والرواية، والمقال الأدبي أو النقدي، والمقال السياسي وغير ذلك. وكان له نشاط واضح في الحياة الثقافية من خلال المناصب التي تولاها ورئاسته لمجلس تحرير المجلة . وعمل أيضاً في السلك الدبلوماسي واكتسب خبرة قوية في ذلك، واطلع علي ثقافات متعددة ومهمة . وقد عمل فترة من حياته في صعيد مصر، وهو القاهري الذي ولد في حي السيدة زينب بحارة خلف ضريح "أم العواجز" وذاب في الحارة المصرية، وأغُرم ببيئة أدبية متمسكة بتقاليد الآداب العربية القديمة المتداولة كما كان أبوه يفتن بالمتنبي ويحفظ كثيرًا من شعره ويطرح منها على أولاده في جلساتهم المسائية فقد نشأ فى أسرة أدبية توطد الصلة بالأدب وتحبّه (4).

إن أي مجال من هذه المجالات إلا ويتطلب مبحثا مستفيضا لاستكناه أسراره وإبراز مميزاته. كما أن مجالا واحدا كالنقد مثلا، يتشعب بدوره إلى روافد مختلفة نظرا لسعة ثقافة يحيى حقي ووفرة تجاربه. فهو لم يكن مشدوداً إلى نمط خطابي بعينه، وإنما استهواه الخوض في أنماط خطابية متنوعة بالمتعة والشغف نفسهما. وهكذا لم يقتصر نقده على الأجناس الأدبية التي تدرج عادة في مملكة الأدب (على نحو الرواية والشعر والقصة القصيرة والمسرح)، وإنما وسع من دائرته ليشمل أنماطا خطابية أخرى من قبيل الأغنية والتشكيل والسينما (5).

كل هذه الخبرات الحياتية والأدبية نقلها إلينا "يحيى حقى" عبر كتاباته المتنوعة في مجال : القصة القصيرة، والرواية، والمسرح، والسينمائى، والموسيقي، والناقد الذى تابع إبداعات مجايليه، وبشر بكتابات الشباب، ورعاهم على كل الأصعدة، وكان يكتب فى الفن التشكيلي، وفى مقالاته كان يعالج المشكلات الاجتماعية، بأسلوب رشيق، يميل إلى السخرية، لكنه لا يتخلى عن الرصانة أبدا، ولذا كانت كلمته تسلك طريقها من قلبه مباشرة إلى قلوب الآخرين من القراء (6).

والناظر في إنتاجات "يحيي حقي" يجد أنها قد تنوعت تنوّعت فى أربع مجموعات، وروايتين ويوميات (خليها على الله) فى جزئين، والدراسات النقدية والتاريخية، والترجمة والأحاديث الأدبية، ومقدمات الأعمال الأدبية؛ وفي كتاب "كناسة الدكان" تطالعنا وجوه كثيرة ليحيي حقي كاتب القصة والرواية، وكاتب السيرة الذاتية والدبلوماسي، والناقد، وصاحب التأملات القوية النافذة، والمؤرخ الفني لأهم فترة من فترات الكتابة في بلادنا التي أسماها هو نفسه " فجر القصة المصرية"، إضافة إلي السخرية، وروح الدعابة، والتقاط الجزئيات الدالة المهمة التي ينقلها من الخصوص إلي العموم (7).

ولكن "يحيي حقي" كاتب السيرة يتحول بسرعة إلي ناقد لأعماله فيقول لنا : إنه عالج معظم فنون القول، ولكن ظلت القصة القصيرة هي هواه الأول، كما يفصل لنا أهم الأفكار التي ألحت عليه في قصصه، ويقول إن رواية "صح النوم" هي أهم أعماله إلي نفسه (8).

وفي السطور التالية سوف نتوقف عند الوجه الذي لم يشتهر به "يحيي حقي" وهو وجه الناقد، ذلك أن الناس عادة عندما يُذكر اسم يحيي حقي تتذكر علي الفور روايته المشهورة "قنديل أم هاشم"، وأعماله الروائية والقصصية الأخرى، وقد تتذكر كتابه "فجر القصة المصرية "، ولكنها لا تهتم كثيراً بفكرة أن يحيي حقي كان من كان من الكُتاب المهمين الذين أثروا في مسيرة النقد الأدبي في بلادنا، وهو نفسه كان مدركاً لذلك عندما قال في كناسة الدكان : أعرف أنني متهم بأني " ناقد تأثري" (9). وقد أجتهد يحيي حقي في الرد علي هذه المقولة المغلوطة (10).

كذلك ينطر "يحيي حقي" أن هواه القصة، لكنه علي الرغم من ذلك عالج معظم فنون القول، ومن بينها النقد الأدبي، ولم يكن ناقداً تأثريا كما أتهموه، لكنه كان ناقدا يمتلك ذائقة أدبية عالية جداً ؛ وهذه الذائقة هي التي كانت تهديه دائماً إلي القول المتميز فيتوقف عنده بصورة منهجية . وقد ثبت أن هذه طريقة منهجية قال بها عدد من النقاد حتي في قترة ازدهار النقد البنيوي الذي كان يميل إلي استخدام ما بالمنهج العلمي في النقد (11).

وهذا الأمر جعل "يحيى حقي" يغلب كفة النص على كفة صاحبه، ويحرص على خلق المسافة النقدية مع الموضوع المدروس حتى لا تتأثر أحكامه وتعليقاته بمؤثرات خارجية، وفي مقدمتها الصداقة التي كانت تجمعه ببعض الروائيين.وإن كان يتعامل مع النص فهو يؤاخذ على النقد الحرفي الحديث (أي النقد البنيوي) " حصر كلامه داخل العمل الأدبي، إنه عنده " هو ما هو" أو " هو في ذاته لذاته". فهو اتجاه يميل إلى تغليب الناحية الجمالية على الناحية النفعية أو الأخلاقية" (12).

ومن جهة أخري يدلل "يحيي حقي" علي اسهاماته في النقد بكتبه " خطوات في النقد"، وهذا الكتاب يدل علي اتصاله منذ وقت مبكر بالحركة الأدبية في مصر، علي الرغم من بعده المادي عنها، هكذا يقول – وهذا الكتاب يضم مقالات عن مسرحية " مصرع كليوباترا" لأحمد شوقي، وأهل الكهف لتوفيق الحكيم، وديوان أحمد رامي، وأعمال لإحسان عبد القدوس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ومسرح الريحاني وغيرهم، إضافة إلي كُتاب أجانب مثل المقال المعنون " تولستوي وتورجنيف وكيف تخاصما" . وبالكتاب دراسات عن كُتاب عرب مثل المجموعة القصيرة " في المقهي" للكتاب الجزائري " محمد ديب"، بل إن هناك دراسات عنوانها " الأغنية الجديرة بالدراسات الأدبية " قال في أولها :" من أماني أيضا أن لا يغفل النقد الأدبي عندنا أو يتعالى عن هذا النوع من فنون القول الذي نجعله يقف – رغم خيلائه لاعتزازه بحب الجماهير – وقفة التابع المتواضع المُقصى في طرف الحاشية المحيطة بعرش يعتقده الأدب الرسمي (13).. وللحديث بقية..

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

.....................

الهوامش

1- عزمى عبد الوهاب: عاش حياته ينشد أناشيد البساطة والعذوبة.. يحيى حقى القنديل المضىء.. 20-3-2021 | 22:23.

2- ياسر الغبيري : يحيى حقي.. صاحب القنديل.. مقال بجريدة البوابة نيوز .. نشر السبت 07/يناير/2017 - 11:00 م

3-  المرجع نفسه.

4- د. فاروق عبد المعطى  : يحيى حقى الأديب صاحب القنديل، دارا الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1994، ص86.

5- أنظر في هذا الصدد إلى يحيى حقي، في محراب الفن، إعداد ومراجعة فؤاد دوارة، الهيئة  المصرية  العامة للكتاب،2000,

6- يحيي حقى : أشجان عضو منتسب، سيرة ذاتبة، المجلس الأعلى للثقافة، 2005، ص 113.

7-أنظر : حامد يوسف أبو أحمد : يحي حقي في البوسطجي وفي كتابات اخرى، إبداع - الإصدار الثالث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد السابع والثامن، 2008، ص 201.

8- يحيي حقى : المصدر نفسه، ص 67.

9- يحيي حقي : كناسة الدكان، مكتبة نهضة مصر، بدون تاريخ، ص 52.

10- أنظر : حامد يوسف أبو أحمد : يحي حقي في البوسطجي وفي كتابات اخرى، إبداع - الإصدار الثالث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد السابع والثامن، 2008، ص 201.

11- المرجع نفسه، ص221.

12- يحيى حقي، عطر الأحباب، م.سا ص31.

13- أنظر : حامد يوسف أبو أحمد : المرجع نفسه، ص 202.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم