صحيفة المثقف

جمال العتّابي: إستعادة الدهشة عند باشلار.. بين جماليات المكان والعناصر الأربعة

جمال العتابيعلى مدى أربعة عقود من الزمن تيسر للقارئ العربي مرجعاً مهماً في جماليات المكان، لغاستون باشلار، الذي صدر عن مجلة الأقلام العراقية عام 1980، ترجمة الروائي الأردني غالب هلسا، حتى كادت أغلب الكتابات النقدية الجادة والرصينة - وما تزال - تعتمد أفكار باشلار في الرواية، والمسرح، والشعر، والعمارة، والتشكيل، والموسيقى، تقتبس نصوصه، وتنطلق منها في معظم الدراسات التي تناولت جماليات المكان، إذ من النادر أن لا نجد إشارة هنا أو هناك، تحيل القارئ الئ الينبوع الأول الذي تنهل منه تلك الدراسات.

يقول (إيتيان غيلسون  1884-1978) فيلسوف ومؤرخ فرنسي، ان باشلار رجل فذ، وعقله الباهر بلغ مداه في النجاح في كل مشروعاته النقدية، و(جماليات المكان)، هو آخر مرحلة لنشاطه الفلسفي، ويصف المترجم غالب هلسا، الكتاب، انه أحدث ثورة كوبرنيكية في علم الجمال، ومعروف ان كوبر نيكوس أعلن لاول مرة في التاريخ حقيقة دوران الأرض حول الشمس، لا العكس.

ان هذا الحدث الفكري المهم، وضع باشلار من جديد في موقع الصدارة من الدراسات الفلسفية والنقدية، وإقترن اسمه بهذا الحدث، وكأنه الوحيد في إنتاجه المعرفي، مع ان المكتبة العربية تحتفظ بالعديد من مؤلفات باشلار الأخرى، لا تقل أهمية من (جماليات المكان)، لذا تأتي هذه المقالة لإلقاء الضوء على إنتاجه الغزير، وافكاره العميقة في الفلسفة والتأمل، إذ صدر له أكثر من14مؤلفاً، ترجم بعضها إلى العربية: شاعرية أحلام اليقظة، جدلية الزمن، شعلة قنديل، الفكر العلمي، الماء والأحلام، العقلانية التطبيقية، وحدس اللحظة، وتكوين العقل العلمي، وسواها من الكتب، والدراسات والبحوث.

باشلار فيلسوف فرنسي، ولد عام 1884 وتوفي عام 1962، ينحدر من أسرة فلاحية، وكان أبوه إسكافياً، لم يتوقف لحظة واحدة من متابعة دراسته، عمل مدرساً للكيمياء في التعليم الثانوي، ثم إختص في الفلسفة، ونال درجة الدكتوراه فيها عام 1927، وعُين استاذا للفلسفة في الجامعة، وشغل كرسي فلسفة العلوم في السوربون بين 1944و 1955،وأنتخب عضوا في أكاديمية العلوم السياسية، ونال جائزة الآداب القومية الكبرى عام 1961.

حاول باشلار أن يضمّن فلسفة العلوم، الأفكار المستحدثة في عالم الكيمياء، في بداية الأمر، ثم إنتقل إلى ميدان جديد، هو تحليل الأعمال الأدبية تحليلاً نفسياً، ونشر كتاباً بهذا العنوان، وإتجه إلى نوع آخر من الدراسة، تعنى بالفكر العلمي وتطوره (دراسة أثرية - نفسية)، وهنا بدأت  تتضح أهمية العناصر الأربعة (الماء والهواء والنار والأرض) عند باشلار. ولديه سلسلة من الدراسات، تناول فيها تأثير هذه العناصر المشار إليها سلفاً في أعمال الكتاب والشعراء، وأوجد نظرية خاصة به تتعلق بالمخيلة والمعرفة.

بحث باشلار في دراسته لهذه العناصر عن أهم مكونات الكون، وإهتم في بحث الخيال، والصور الجمالية فيه، وخصص عدداً من مؤلفاته في تجلياتها، وتعدد دلالاتها ، وأدرك ان على الفيلسوف أن يجمع بين الشعر والعلم، بالرغم من تناقضهما، ويجعل من كل منهما شيئاً مكملاً للآخر، يقول بهذا الصدد : خلال تأملي لخيال العناصر الأربعة، عايشت مرة أخرى أحلاماً هوائية ومائية لاحصر لها، وكان ذلك وفقاً لمتابعتي للشعراء حين يبدعون  صور العش على الشجرة، أو الكهف الحيواني المتجسد في القوقعة، ونشوء فكرة عناصر التكوين، لم تنشأ من فراغ، بل ظهرت كأحد مقومات العقل البشري الباحث فيما وراء العالم المادي، وقد ربط الفلاسفة القدماء، هذه العناصر بمختلف النشاطات الإنسانية.

تبنى باشلار دراسة النار كما يراها اللاشعور، وجعل من الشعلة مصيراً لأحلام الإنسانية، وفحص النار المشتعلة بإعتبارها رمزاً للطهر والتطهر، والحديث عن جمالية النار، وسايكولوجيتها، بل وعن شاعريتها، حديث لا يخلو من المعنى، وما يقال عن النار يقال عن العناصر الأخرى، فكل منها يعد من الناحية المادية، نظاماً للإخلاص الشاعري، ودرس الهواء والأحلام، وتخيل الحركة، ويسمي الحلم بالطيران، ب(النفسية الهوائية)، ذلك الحلم الذي يعد بداية لمعتقدات، وإنطلاقات شاعرية لانهاية لها، في (شاعرية الأجنحة)، تمكن من الوصول الى المخلوقات المجنحة في الشعر، طائراً كانت، أم روحاً، أم ملاكاً، وجمع كذلك الصور والأحلام الخاصة بالأرض، فيما يسمى بالخيال الخارجي، والخيال الداخلي، وتزخر أغلب دراسات باشلار بالإكتشافات واللمحات العبقرية، التي تؤكد الدور الذي يؤديه الحدس التلقائي في النشاطات الذهنية والروحية.

يستعرض باشلار نظريته في العلاقة بين الخيال والعناصر الأربعة، في كتابه (الماء والأحلام)، إذ يطبق نظريته مادته، الماء، يدرس سايكولوجية الخيال المادي الخاص بالماء، وهو عنصر أكثر أنوثة ورتابة من النار، الشعراء يتغنون به، يقول باشلار: علينا ان نقنع القارئ ان هناك صوراً أخرى تحت سطحه، أكثر عمقاً، وسوف يشعر المرء بخيال المادة، وهو ينفتح تحت خيال الشكل، الماء إذاً كائن له جسد وروح وصوت، ولربما كان أكثر من أي عنصر آخر في حقيقته الشاعرية. المياه تنبت الحب، وفكرة الأمومة تتعلق بالمياه العميقة، النبع ميلاد دائم ومستمر، وتلك صور تولد أحلاماً عديدة لاتنتهي.

أثبت باشلار ان العلوم التي ظهرت في القرن العشرين، قدمت فائدة للنقد والأدب، وأكد ان العلوم الإنسانية مترابطة ترابطاً وثيقاً لا فصل بين عناصرها، وعندما إعتمد

في نقده للاعمال الادبية، على الخيال، دخل إلى لُبّ عملية الإبداع الفني، لكن تجربته ظلت تجربة فردية، لها خصوصيتها المرتبطة بشخصيته الساحرة الفريدة، تلك الشخصية التي جعلت البعض يطالب بتحليل كتابات باشلار النقدية، تحليلاً نفسياً.

في (جماليات المكان)، يبتعد باشلار عن منهجه الذي إتبعه في كتبه الأولى، ويفتح أفقاً جديداً في البحث، إذ إعتمد المنهج الظاهري، والظاهراتية، كفكرة فلسفية، هي قصدية الوعي، أي أنه دوماً متجه الى موضوع، ولا موضوع دون ذات، والمنهج كما يرى، هو الأصلح في دراسة موضوع الخيال، ويطرح جانباً السببية التي إنطلق منها التحليل النفسي، وتبناها في كتبه الأولى عن علم الجمال (التحليل النفسي للنار مثلاً، المترجم هلسا، ص10). هنا الدراسة تستحق ان تسمى هوس المسح الشامل، انها تبحث في تحديد القيمة الإنسانية لأنواع المكان الذي يمكننا الإمساك به، والذي يمكن الدفاع عنه ضد القوى المعادية، ليست وظيفة الظاهرية وصف الأعشاش، فتلك مهمة عالم الطيور، انما المهم قدرتنا على إستعادة الدهشة الساذجة التي كنا نشعر بها حين نعثر على عش، كما يؤكد باشلار موقفه الظاهراتي بوضوح.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم