صحيفة المثقف

سامي عبد العال: التفكير السياسي بوصفه "حَدَثاً"

سامي عبد العال"إنَّ تجلي الأحداث هو وسيط الفهم إزاء ما يجري ويستحضر ما كان ضائعاً ومفقوداً"

"الأحداث هي الأعماق التي تُحوّل الفعل العام إلى تأثير كلي يستبق راهن المجتمعات"

ربما يمتلك رجال السياسة أكثر النظريات حنكةً على صعيد الفكر، لكنهم أثناء الممارسة يتابعون الأحداث بلا أية نظرية ناجعةٍ. في الواقع المعقد تهرب النظريات كما تهرب العصافير من ثنايا الأشجار نتيجة انفجار مدوٍ. ولا سبيل إلى ارجاعها إلى أغصانها مرةً أخرى، لأنَّ الوقت قد فاتَ كما أنَّ الحياة لن تعود إلى الوراء. هذا مغزى إشارة كارل ماركس الدائمة: " الفلاسفة السابقون حاولوا تفسير العالم بطرق مختلفةٍ، لكن الأهم هو كيفية تغييره ". السياسة تخادع الأفكار (أية أفكار) بأفعال الدهاء العملي، لكن (مُعطى الحدث) بما هو كذلك سيختبر بنيتها من الأساس. فالإنسان حيوان سياسي متقلّب كما تتقلب الرقطّاء في أثوابها المتلونة. والحياة العامة تتكثف بنسيج معقد اسمه" الحدث السياسي political event"، وهو دائماً ينطوي على المفاجئة والتداعي المفتوح. لعلَّه بمثابة حدث خارج الأطر، فائق الوصف (حتى وإنْ كان صغيراً أو بالأدق محدوداً)، الحدث يتلّون بذاته ككيان فاعل وحر متنفِسّاً نبضّ التاريخ وحالة العالم في وقت واحدٍ.

لأول وهلةٍ (إذا دققنا كثيراً) ضمن تداعيات الربيع العربي حتى الآن، سنجد أننا كنا إزاء أحداث سياسية متلاحقة وما زالت. وداخل المواقف الحية للحراك اليومي، ظللنا نراقب الناس والمؤسسات وكيان الدول بملء أعيننا. وهي عملية حرجة لا يعرفها إلاَّ الواقفُ داخل أتُون الأحداث الصاخبة، فالمجتمعات العربية ضاربة بجذورها في الثقافة التقليدية وهي ثقافة محافظة يحوطها (العيب والتحريم) من كل جانب، ولم تكن لتنكشف بسهولة وأريحية أمام نفسها. إنَّ أنظمتها السياسية حجاب سميك جداً بعمق التسلط والقهر وبعمق التواطؤ المعرفي والفكري مع السلطة التي تعيش تكوينها في دقائق الحياة اليومية. ومن ثمَّ كان الحدث الثوري revolutionary event لحظةَ نادرة الوجود حين يتعرَّى المجتمع أمام ذاته، أمام تاريخه، أمام فاعليه. وهي لقطات نافذة كانت أشبه باللقطات السينمائية المشحونة بأفعال التاريخ. كان هناك نوع من ارتباك الفاعلين الاجتماعيين، وكواليس السلطة وحيرة المُشاهد ولغة الفوضى ومظاهر التخبط.

كيف كان سيجري (المونتاج السياسي)، كيف كان سيصبح توزيع الأدوار، وبأي منطق ستأتي الرؤية الاخراجية... حقاً لم يلتفت أحدٌ لكل هذا!! هل حين قام الشباب العربي بنشاطهم الثوري كانوا يدركون معناه الحدثيeventual؟!هل كانوا يعرفوا الثورة كتقنية سياسية تجاه أنظمة تقاوم انهياراً بكافة الطرق؟إذا كانت السلطةُ قدرةً على السيطرة والتوجيه، فلم ولن تذهب في دول الربيع العربي هباءً دون آثار جانبية. كانت الثورة مطالبة (أو هكذا يفترض) بتتبع ماذا كانت (السلطة) في الماضي القريب والبعيد قبل أنْ تصبح أثراً بعد عين (حالة ليبيا ومصر وتونس). كان علينا استعادة طابعها المتجاوز في كل مرة تشعرنا بحدوثها الذي لم يكن متوقعاً.

 إنَّ التفكير السياسي كحدث مصطلح غريب على العقل العربي.لأنَّ السياسة عند الأخير تقع في ظلام اللامفكر فيه unthinkable. إذ كانت كل سياسة تشكل كهفاً لمخاوف الرعيَّة من بطش الحكام ورجالاتهم. فكان منظروها الفحول تابعين للملوك والسلاطين والوزراء ورجال السلطة ولم يظهر هناك أي فقيه ولا منظر سياسي حراً خارج الأسوار. ثم كانت هناك اللغة الصورية والتجريدية يتدثرون بها، لأنهم يتحدثون عن واقع غامض وأسطوري دائماً. بعض العناوين السياسية في تراثنا الغني جداً من هذا الجانب كفيلة بإثبات هذا المعنى. مثل " التبر المسبوك في نصيحة الملوك" للإمام أبي حامد الغزالي، " السياسة الشرعية في أحوال الراعي والرعية " لابن تيمية، " التدبير في الإمامة " لهشام بن الحكم، " التاج في أخلاق الإمامة " و" السلطان وأخلاق أهله " لأبي عمرو بن بحر الجاحظ، " الأحكام السلطانية ونصيحة الملوك" للماوردي. وهي كتب ونصوص ظلت تتهيب لدرجة الرعب والهروب من الخوض في التكفير السياسي بما هو " إرادة حدوث " عام. بينما كانت تأخذ جانب النصائح والقيم الأخلاقية وآداب الملوك والحكم والتمثيل البلاغي والاستعارات السياسية. وهو تفريغ ثقافي مقصود بفاعل عام لقضايا الحرية والإرادة العامة والتحول المجتمعي والنظر في أحوال الرعية.

 من هنا كان الحدثُ في ذاكرتنا العربية فعلاً مُشيناً سياسياً لدرجة الفضيحة (أو التفضُّح). باعتباره ليس متوافراً ولا مسموحاً به بالنسبة لغالبية الناس، وهؤلاء كانوا مقيدين بالاخلاق والعادات والتقاليد دون المشاركة في أي عمل جمعي. فكان " الحدث" يأتي دائماً قراراً سلطوياً مُدبراً. وإلى حد اللحظة، كان الحدث يمتلكه الحاكم ومن عاونه ومن إلتف حوله دون سواهم. وذلك حينما كان يفتتح مشروعاً عاماً أو مؤسسة أو يحتفل بتدشين صرح أوتعمير مدن عادة ما يقال ذلك "حدث". ثم تظل وسائل إعلام النظام تلوك الافتتاح الأسطوري والخرافي غير المسبوق في التاريخ ولا في الجغرافيا. لتتفله الأنظمة على مواطنيها راضين رغم أنوفهم بما يفعل. وبذلك كثيراً ما تم إجهاض المعنى الثوري للإرادة العامة، وهو هذا المعنى غير القابل للترويض في كلمة الحدث.

 بينما يعد الحدث الفعلي (حركة وتحول) معاً. فهو لا يتم بأي طابع ميتافيزيقي لإرادة حاكمة تمسك بزمام الأمور. وليس الحدث منجذباً كذلك بغاية قصوى تسقط فوق رؤوس الناس من أعلى. لكنه عمل قيد الانكشاف (سلباً وإيجاباً) ضارباً في أعماق النظام السياسي القائم. ولهذا يحتاج كل حدث إبداعاً في التعامل مع المواقف والرؤى والتحولات. والأهم أنه يختبر وجودنا بالحرية الطازجة. ليصهر الصدأ الذي يمنعنا من التفكير الحدثي في راهنيته الثرية.

 ثمة فرقٌ جوهري بين ثلاثة أشياء: "الحدث "event و"الممارسة "practice و" الفعل"act . لنبدأ بالأخيرين وصولاً إلى الأول. الفعل أثر لعمل إنساني قادر على تغيير حال ما في الواقع. ولهذا سيكون الفعل السياسي ترتيباً لأوضاع معينةٍ كان بالإمكان أنْ تنظم حياة الجماعة البشرية. وعليه، فقد يصبح الفعل تنفيذاً للاستغراق في حركة جزئية بالمقام الأول. أي: أنه فعل له قدرة على ترك بصماته في المشاهد العامة بدلالةٍ واقعية قيد التنفيذ. فأنْ يفعل الإنسان سياسياً معناه استثمار عملي لمعطيات متاحة في الأنظمة السياسية.

أمَّا "الممارسة" فهي الجانب الإجرائي المترتب على جوانب الفعل من تلك الأنظمة. المرحلة العميقة من تفعيل المفاهيم والتصورات في شكل خطوات ومراحل. والممارسة قد تأتي كأبنية تمنح وجودها تماسكاً في حركة الحياة العامة للمجتمعات. فإذا كانت السياسة تنطوي على رؤى ومعايير، فإن الممارسة تبرزها بمعانٍ عملية. والتجارب النوعية في هذه الحدود هي النتاج المهم لكل ممارسة من هذا الصنف.

 بينما يجمع "الحدث" بين الأثر والتجريب المتواصلين لطاقات التغيير الجوهري. إنَّه الفضاء الأقصى للتمرد الجذري. حيث امتلاء الرغبة بفاعلية قوى التحقق العارم. وهو بهذا لا يعترف بالفكر السياسي الصوري، لكونه ضرب من الدينامية التي لا تتعين بأية حالة سابقة فقط. وهذا ما يجعل الحدث مرهوناً بعملية " الحدوث"happening المستمر. والحدث يماثل سر الحياة بامتلاء إمكانياتها حينما تعصف بمن يترقبها. لأنَّ " حدوث الحدث" لا يتكرر عادة. لأنه عمل مفاجئ، عاصف، متشظٍ، متفتت، متناقض، بالغ الديمومة، ثري التكوين.

 من هنا كما يوضح جان فرانسو ليوتار يعد الحدوث فضاءً مفتوحاً لآثار الرغبات والأحاسيس وإرادة التغيير. إنه أشبه بالجسد الثائر دون قيود، لكنه بلا أجزاء عضوية تشده إلى الأشياء الصغيرة. حيث لن نستطيع التحديد المادي مع وجود آفاق عامة ذات طابع كلي. ولا يمكننا القطع بأي شيء معين وملزم، فكل المظاهر بفضل هذا الحدث ستصبح غير قابلة للتنبؤ ومثيرة للاضطراب الخصيب. فقط علينا أن نشعر بالمخاوف والتحولات كما لو كنا في فوهة بركان مهتزة بالنيران.

وهكذا على مداه الأوسع يعد الحدث الثوري عملية مخاض متواصل لن تظهر مستوياته وآثاره بين ليلة وضحاها إنما ستأخذ عقوداً من التأثيرات الضمنية على المدى البعيد. ولذلك يستحيل دوماً لملمة وجود الحدث المحتمل في نظام مختلق يمكن أن يتداعى في أية لحظة. لأن الحدث بمضونه العميق يقوض الأسس والقواعد والآليات في فضاءات الثقافة وحقولها. وذلك حين يتغلغل عبر السياسة والاقتصاد والتاريخ والفن والحقائق. والقدر ذاته يخلخل المبادئ العامة والقيم السائدة اجتماعياً.

هل تنتهي أية ثورة دونما تأثيرات على طرائق التفكير؟! بالقطع لن يتم هذا الوضع، الثورة كحدث ليست أقل من أن تُعطي الكيانات السياسية والاجتماعية منظوراً حيوياً لمعالجة القضايا على نحو جذري. وبذلك هي نقطة ترتبط بنسيج المجتمعات في تحولاتها العاصفة. فعادة ما تُرجعنا (إذا انحرفناً) إلى بدايات حدية مؤثرة زمنياً. لنغدو من فورناً، كأننا امتلكنا تاريخاً جديداً (تاريخاً قيد التغيير)؛ أي تاريخاً مفتوحاً على إمكانيات ثرية.

ولا تعين الثورةُ كحدث موقعاً تقليدياً إلاَّ بقدر ما تدفعنا (بحكم المرحلة المختلفة) تجاه نقد الماضي وإعادة تجديده (تراثاً ومؤسسات) نقداً ثورياً على ذات الصعيد. وبما أنَّها منطوية على توجه فكري واعد، مستقبلي، فإن الثورة تتجسد في عمل جمعي مادي. عمل له حوافز جديدة ومختلفة عبر المؤسسات والقوانين والحياة الإنسانية التي تواكبه.

وهنا كان يجب علينا أن نضع مصطلح (الثورات العربية) تحت الاستفهام المجهري. معنى ذلك كان يجب وضعه تحت الفحص النقدي لمضامينه وأطره وتداعاته وهي المهمة التي مازالت مجهولة ولا يُسمح بالإقتراب منها لأن القائمون بذلك متورطون في التواطؤ لإجهاض أي تفكير حدثي.

والآن سأبدي ملاحظات عامةً على بعض الربيع العربي (كحدثٍ سياسي مفترض).

أولاً: كانت بدايات الربيع العربي مُبشرةً في رمزيتها العامة داخل آفاق المجتمعات. لكننا رأينا انقضاضاً عليها من اللصوص المحليين (فلول الأنظمة وأزلامها) والدوليين (القوى الدولية المهيمنة) ومن الوكلاء سواء للغرب أو لقوى داخلية تزعم أنها ليبرالية لكنها متخلفة ورجعية (الأحزاب العلمانية). كما جاء ذلك الأمر مع الأحزاب القديمة والقوى الدينية والجماعات الإرهابية. بينما نُحي هؤلاء الشباب الذين اكتووا بنيران الحدث من المشهد تماماً.

ثانياً: ظلت الثورات الربيعية تدور في مكانها ولم تبرحه بقدر ما تم تجاهل (حدوثها). فكلما كانت تخطو خطوةً سرعان ما كانت تستدير إلى الوراء بحكم تراث السياسة وحواشيها. ولذلك كانت تأخذ منحناها الحدثي واسعاً بعمق التاريخ وإلحاح المستقبل. لأنَّ الصندوق السياسي الأسود للمجتمعات العربية مازال لم يُمس، بل جاءت الأنظمة الحاكمة بعد الربيعية لتغطيته وتصنع له أقفالاً وراء أقفال. وظل صندوقاً غارقاً في التخلف لأنه الخافظ لإسرار الوعي ونمط العيش وصورتنا أمام أنفسنا، وبقي محاطاً بتقاليد اجتماعية وثقافية ضمنت له ترميم نفسه على نطاق واسع مع المراحل الجديدة.

ثالثاً: تحول الربيع إلى خريف دموي في ليبيا واليمن وسوريا في إشارة إلى أن معاني الحدث فقدت أهميتها وسط الصراع وصناعة التزييف والانهماك فيه. وجرى ذلك أيضاً بدرجات متفاوتة في تونس ومصر. ولهذا استعاد الحدث سريعاً التاريخ الصراعي لهذه المجتمعات. حيث جُرَّت كافة الطوائف والقبائل والأقليات والمذاهب إلى حرب ضروس مازالت مشتعلة في الهوامش والحواشي.

رابعاً: لم تتجسد الثورات في حقائق سياسية واجتماعية متوائمة مع الآمال المتوقعة لأنها فرغت ابتداءً من حدثيتها eventuality. ولم تفعل ذلك حتى مع الحراك السياسي الذي ضرب بمخالبه في لحم الواقع والحياة. وهذا موضوع خلاف متشابك مع آليات الغباء السياسي الذي طغى لدى التيارات السياسية.

خامساً: لم تُشكل الأعمال الثورية من قريب أو من بعيد نسقاً للقيم ولا إطاراً نقدياً جديراً بالرصد إلاَّ من مناقشات صارخة أغلبها كيدية من أطراف في مواجهة أطراف أخرى. وكانت الخطابات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار خطابات عنيفة وتعوِّل على كسب ميدان (التناطح الافتراضي) على الشاشات البراقة وعبر المواقع الإلكترونية. وهذا ديدّن الثقافة السياسية التقليدية التي تسطح الأحداث كنوع من عملية إجهاضها والتهوين من الآثار المترتبة عليها. وعادة ما يتم تحويلها إلى مظاهر للعرض والفرجة ليست أكثر.

سادساً: كثيراً ما جُرَّت القوى الثورية إلى دائرة الإنهاك الأيديولوجي كما جرى بمصر. نظراً إلى استدعاء معارك دينية وصدامات فكرية منذ أزمنة بعيدة. وكأنَّ التيارات السياسية ذات العمق الأيديولوجي تحاول حسم المعركة التي لم تحدث دمويةً بين أدوات النظام والجماهير في مسارات جانبية. ونتيجة إشعالها من قبل الإسلاميين وجهاً لوجه شمل قطاعات اجتماعية واسعة.

 وبهذا الوضع تعتبر عملية (التناسخُ الفكري) آلية مهم لفهم العماء السياسي الذي يصيب الفاعلين على مستويات الحدث. لأن الغباء يعبر عن عملية حلول الحمق (وتناسله) من عقلية إلى أخرى بضمانات ثقافية عامة. وكذلك تم الانتقال من مرحلة سياسية إلى أخرى، ومن نظام إلى آخر تماماً مثل دلالة هذا المصطلح (التناسخ) فلسفياً. عندما كان يُطلق على حلول روح الشخص الميت في جسدِ آخر، أو حلول روح كائن بشري في حيوان أو العكس.

الأمر بالنسبة للحمق السياسي مختلف نسبياً. لأن تلك العملية ستُظهر أثر الثقافة التي تحقق هذا الحلول من زاوية الفكر والممارسة والعادات. فالعقليات تسكن ثقافة واحدة لا تعي أبعادها الخفية والكامنة في تصرفاتنا. وقد لا يذوبُ فيها الحمق إلاَّ تمهيداً لبعثه تالياً من جديد إذا توفرت الظروف السياسية والاجتماعية. ويظهر الأمر كذلك أن التفكير التقليدي وأنماطه وسلوكياته من المفاهيم التي تكرس للغباء وبالتأكيد تسهل ولادته بشكل مستمر. وهو مفهوم متجذر في تربة الثقافة العربية. في حين أنَّ (الحدث) هو الذي بإمكانه حرث هذه التربة وتعريضها للشمس الحارقة التي تقتل الهواش وتحرق الغث، وحدُّه الحدث بمعناه الثري سيكون قادراً على تغيير الواقع بما هو إرادة جذرية لا تلفيقية.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم