صحيفة المثقف

محمود محمد علي: يحيي حقي .. القنديل المضئ في عالم النقد الأدبي (2)

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن يحيي حقي الناقد، وهنا نجد "يحيي حقي" يؤكد علي منهجه النقدي في مقدمة كتابه " خطوات فى النقد" ؛ حيث يقول: لا أنكر أنني لم أخرج عن دائرة النقد التأثري. فليس في كلامي ذكر للمذهب، ولعل السبب أنني لم التحق بكلية الآداب في إحدى الجامعات لأدرس النقد دراسة منهجية تاريخية " (14) ؛ ويمضي يحيي حقي في رصد ما حدث من تطور إلي أن يقول:" ثم قفزنا بعد ذلك سريعاً إلي أهم مطلب: أن تكون لنا قصة مصرية لحماً ودماً تنبع من خصائصنا وتدل علينا (15)؛ غير أنه لا يقف عند حدود التذوق التأثري، كما يري د. فاروق عبد المعطى، بل يهتم بالدلالات الاجتماعية. ويقول بنفسه في صدد مجاراته في الفقرة:" وإلى جوار القصة، والمقال الأدبي، لا الصحفي، أسهمت بقدر لا بأس به في النقد والدراسات الأدبية، فكتبت تاريخ ” فجر القصة المصرية " بأسلوب درامي يجمع بين الحقائق العلمية والتشويق القصصي، ويدل كتابي ” خطوات فى النقد ” على اتصال منذ وقت مبكر بالحركة الأدبية فى مصر رغم بعدى المادي عنها، ففيه مقالات عن ديوان رامي و" مصرع كليوباترا لشوقي " و" أهل الكهف لتوفيق الحكيم "(16).

ولا أريد أن أتوقف كثيرا عند كتاب " خطوات في النقد" لأنتقل إلي كتاب آخر صدر في أعماله الكاملة تحت عنوان "هذا الشعر" . وقد كان هذا الكتاب مفاجئة مدهشة، إذ نجده يدخل إلي الشعر من خلال قصة أو حكاية، وهذا شئ يعد مهم جدا لكونه يقدم لنا صورة ممتعة، مشوقة، فيها طرافة، وتنطلق من ذوق أدبي مرهف، وثقافة موسوعية.

علاوة علي أنه في هذا الكتاب دراسات عن المتنبي، وشوقي أمير الشعراء، ومراثي شوقي، ورباعيات صلاح جاهين، ومحمد إقبال وخواطره الطياري، وغالب شاعر الهند، وغير ذلك (17).

كذلك خصص يحيى حقي، في مقالاته وتعليقاته النقدية، حيزا للنقد الروائي. وإن كان كلفا بمتابعة الإصدارات الروائية المصرية لتحسيس القراء بمكوناتها الفنية وإثارة شهيتهم لاقتنائها وقراءتها، فهذا لم يمنعه من الانفتاح على الرواية العالمية لإبراز نضجها واكتمال عناصرها ومقارنتها بمثيلتها المصرية التي كانت، وهي في بداهة مشوارها، تبحث عن استيفاء المقومات الفنية واستنبات بذورها في التربة المحلية. ولم يستسغ يحيى حقي أن تكون الرواية العربية نسخة مكررة عن الرواية الغربية، وأن تثقل بنيتها بأساليب البديع. وبالمقابل، كان يدافع عن فكرة تأصيل الرواية العربية حتى " تصبح فنا شعبيا صادق الإحساس"، " يجمع بين الطابع المحلي، والمعاني الإنسانية.. التي تسمو على فروق المكان، والجنس، واللغة". كما دعا إلى " التحرر من التقليد واقتباس الأخيلة من الغير"، وإلى ضرورة تكييف هذا النوع من الكتابة مع طبيعة المجتمع المصري وبنياته الاجتماعية، حتى يكون خير معبر عن خصائصه وأحاسيسه الذاتية والشعبية  (18).

ولم تقف محاولته الأدبية عند هذا الحدّ النقدي بل تقدم إلى كتابة المقال واشتهر ككاتب المقال الأدبى و جمع مقالاته فى هذه الكتب الأربعة وهى: فكرة فابتسامة، دمعة فابتسامة، ناس فى الظل، حقيبة فى يد مسافر (19).

ولا ينسي "يحيي حقي" أن يتحدث عن الدور المهم الذي لعبه مع أبناء جيله لتطوير فن القصة القصيرة، وفي هذا يقول:" كان علينا في فن القصة أن نفك مخالب شيخ عنيد شحيح، حريص علي ماله أشد الحرص، تشتد قبضته علي أسلوب المقامات، أسلوب الوعظ وارشاد والخطابة (20) .

كذلك حرص "يحيى حقي" خلال مساره النقدي على متابعة المستحدثات الثقافية ومواكبة الإصدارات الجديدة لإبراز سماتها الفنية، واستجلاء ما تحفل به من قضايا وأسئلة. ونظرا لتنوع ممارسته النقدية وغناها، فإن مداخلتنا ستنكب على رافد منها أو بلغة يحيى حقي على فن من فنون القول، ألا وهو النقد الروائي (21) .

وفيما يخص القصص القصيرة التى عالجها "يحيي حقي "فى سنّ مبكرة فى حوالى السادسة عشرة، فنجد "حقي" يقول:” لقد عالجت معظم فنون القول من قصة قصيرة ورواية ونقد ودراسة أدبية و سيرة أدبية ومقال أدبى، وترجمت عددًا من القصص والمسرحيات ولكن تظل القصة القصيرة هى هواي الأول، لأن الحديث فيها عندي يقوم على تجارب ذاتية، أو مشاهدة مباشرة، وعنصر الخيال فيها قليل جدَا، دوره يكاد يكون قاصرًا على ربط الأحداث ولا يتسرب إلى اللب أبدًا" (22).

وهذه هى باكوراته القصصية، ثم توالت قصصه و نشرت له مجلة ” الفجر ” إحدى عشرة قصة و نشرت قصصه فى السياسة اليومية والأسبوعية والمجلة الجديدة، كما توالت ابحاث و دراسات أخرى فى مجالات النقد والفكاهة فى جريدة ” البلاغ” و صحف أخرى؛ثم جمعت قصصه و نشرت له مجموعة قصصية و صدرت له أول مجموعة قصصية باسم ” دماء وطين ” سنة 1929م، ثم جاءت بعدها مجموعات عديدة مثل مجموعة ” أم العواجز” و ” الفراش الشاغر” و ” عنتر و جوليت ” و ” فلة مشمش لولو ” و ” خليها على الله ” و ” امرأة مسكينة ” وغيرها كما صدرت له رواية ” قنديل أم هاشم ” سنة 1941م و ” صح النوم”.

ونالت روايته كثيرًا من الاهتمام عند النقاد و يقول يحيى حقى أنها فازت بقبول من الناس بأنها خرجت من قلبه مباشرة فيقول:” إنها قصة غريبة جدًا كتبتها فى حجرة صغيرة كنت أستأجرها فى حىّ عابدين حيث عشت لوثة عاطفية مثيرة عبرت عنها فى أناشيد ” بينى و بينك ” التى ألحقتها بالكتاب (23).

وفي كتابه "هموم ثقافية" تصدى لقضايا هامة ومتجددة حتى إنها ما زالت تطرح حتى اليوم مثل تعريف الثقافة والمثقف ودوره في المجتمع ودور اللغة كوعاء للفكر ومعنى كلمتي الأدب والأديب وعلاقة الحاضر بالماضي واشكاليات الترجمة فيما أكد أن حلمه الكبير يتمثل في محو الأمية بمصر، فهو أبن الطبقة الوسطى الذي ولد في مثل هذا اليوم السابع من يناير عام 1905 وقضى نحبه في التاسع من ديسمبر عام 1992 كان أحد نجوم السلك الدبلوماسي والقنصلي المصري فيما عمل قبل ذلك كمعاون للإدارة في مناطق بصعيد مصر وامتدت تجربته الوظيفية الثرية لتشمل عمله كمستشار بدار الكتب والوثائق (24).

ورأى هذا المبدع المصري النبيل والمثقف الموسوعي الذي ارتاد افاق الثقافة الغربية مع ارتباطه الوثيق بثقافته العربية أنه ينبغي أن يكون لكل كاتب لمسة فنية تميزه وهي لمسة خاصة تخطر عن ذاته وتهمس بحضوره المميز عمن سواه، كما كان يرى أن الكاتب الحقيقي هو الذي يشعر أن جميع الفاظ اللغة تناديه لتظهر للوجود على يديه، وكان يرى أنه لا عشق للقصة والشعر الا بعشق أهم هو عشق اللغة الطيعة كاللون للرسام والحجر للنحات (25).

وختاما  يمكن أن نقول مع أستاذنا الدكتور يحي الرخاوي بإنه:ينبغى  علينا أن نقوم بمهمة النقد ونحن نحترم كل حرف ورد فى النص، نحترمه ونجادله ونتعلم منه، ونعيد تشكيله فى إبداع ناقد مستكشف. إن كلا من حدس العتب وقنديل أم هاشم يمكن أن يحمل دعوة لتعميق فهم الوعى والوجدان ليصبح إسهامهما فى استعادة التوازن نحو الصحة  فعلا بيولوجيا إيجابيا إيمانيا يكمل عمق العلم و يسهل وظيفته. إن هذا، وليس الإيحاء السطحى، هو  الذى يعيد الصحة بمعنى التوازن الإيقاعي من خلال استعمال آليات العلم بالضرورة، والإيقاع الحيوى الكونى هو اللحن الأساسى الذى يحتاج إلى آلات تعزفه، وما الآلات البشرية إلا أدوات لعزف هذا اللحن الأعظم، تفاصيل أوتار الآلات البشرية تشمل كل شىء: من مفردات العلم إلى حدس الفطرة، إلى انتظام فحوى العبادات، كل ذلك يتكامل مع وعْـى من يستعملها من خلال إيقاعه الحيوى الخاص، ومن ثم يصبح قادراً على أن يتلاحم مع إيقاع وعى مريضه الناشز، فى حضن وعى الكون المحيط الممتد بغير نهاية، فينتظم فى لحن الوجود الأكبر إلى غيبٍ يقينىّ ليس كمثله شئ؛ وبهذا تصبح أية آلة منفردة، سواء كانت معلومة علمية شاردة، مهما كانت صحيحة، أو زيت قنديل منفصل عن نوره، أو قاذورات من بقايا النعال على عتبة ولى. أو فتوى سلطوية تافهة أو منافـقة، يصبح أى من ذلك نشازا لو عزفت أية آلة منف (26).

ويطول بنا الحديث عن إسهامات "يحيي حقي" ذلك القنديل المضئ في عالم النقد الأدبي وفي نهاية هذا المقال نقول عنه بأنه يعد بحق نموذج نادر يصعب أن يتكرر في عالم النقد الأدبي، ولمثقف واسع الثقافة، وكذلك لأديب وناقد حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة الأدبية وحدها.. رحم الله المبدع "يحيي حقي"، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

.........................

الهوامش

14- يحيى حقي: أشجان عضو منتسب، سيرة ذاتبة، المصدر نفسه، ص 116.

15- المصدر نفسه، ص 157.

16-د. فاروق عبد المعطى : المرجع نفسه، ص 38.

17- أنظر: حامد يوسف أبو أحمد: يحي حقي في البوسطجي وفي كتابات اخرى، إبداع - الإصدار الثالث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد السابع والثامن، 2008، ص 202.

18- أنظر محمد الداهي: يحيى حقي ناقدا روائيا، مقال منشور ضمن موقع الناقد المغربي محمد الداهي.

19- د. فاروق عبد المعطى : المرجع نفسه، ص 78.

20- أنظر: يحيي حقى: أشجان عضو منتسب، ص 57.

21- أنظر محمد الداهي: المرجع نفسه.

22- دراسات فى أدبنا الحديث ( المسرح، الشعر، القصة)، لويس عوض، دار المعرفة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1961، ص178.

23- المرجع نفسه، ص254.

24-. ياسر الغبيري: المرجع نفسه.

25- المرجع نفسه.

26- يحي الرخاوي: نيازك الخرافة والإيقاع الحيوى بين يحيى حقى و خيرى شلبى، بحث منشور ضمن نشرت فى مجلة وجهات نظر -عدد مارس 2006.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم