صحيفة المثقف

إنتزال الجبوري: العطاءُ أُسُّ العلاقةِ بين الآخر والأنا

العطاء هو كل فعل دال على الهبة والإنفاق. والعطاء محدود وغير محدود، فالمحدود هو العطاء البشري، وغير المحدود هو العطاء الإلهي؛ فالإلهي هو كل ما تكرّمت به يد الله (جل وعلا)على مخلوقاته، وهو القوة المعطاء الكبرى. وعطاؤه مطلق بنوعيه الدنيوي والأخروي؛ فالدنيوي؛ يستوعب جميع أصناف خلقه من بشر وشجر وحجر؛ وهو سارٍ في الخلق ما دامت السموات والأرض (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)[1]، (قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ)[2].

والأخروي هو عطاء الله في الآخرة التي هي دار المعاد، وما أعدّ فيها لخلقه من جزاء (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ )[3]. (وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ٱلْجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍۢ)[4].

ما يهمنا الحديث عنه هو العطاء البشري؛ ويُفَسّر بأنه علاقة تكاملية بين الذات والآخر، وهو عملية اكتشاف لقوة الذات، وإمكاناتها، وقدراتها، ومهاراتها في تقديم ما تستطيعه من أعمال خير، وكلما بذلت الذات اكتشفت نفسها. حينما يستطيع الفرد من استغلال المواهب والقدرات الكامنة فيه؛ فإنه يصل الى مرحلة بلوغ استثمار كامل الطاقات التي يمكنه بها مساعدة الآخرين. فحينما يمنح الفرد شيئا ماديا أو معنويا تعتريه مشاعر إيجابية حول قيمة ذاته، ويسبغ عليه العطاء شعورا وإحساسا عاليا بالنفس[5].

مجالات العطاء واسعة؛ منها للنفس، والأسرة، والمجتمع، وللأرض ومن عليها. والعطاء قوة بأية صورة كان؛ فهو يحقق السعادة والراحة للنفس، ولمن حولها.

والعطاء البشري بلونين لله أو لخلقه، فما هو لله ففيه يكون الفرد واهبا نفسه له منقطعا عما سواه ولا يرجو الاّه، وهذا ديدن المتصوفة والعرفاء. وقد يكون عطاؤه منقسما بين الله وخلقه فيكون عطاؤه نسبيا؛ وقد يكون العطاء موجها لعامة البشر، وفي الغالب يكون نسبيا وهو مشروط ومحدود.

والعطاء البشري نوعان مادي ومعنوي، فالعطاء المادي مجالاته كثيرة تتجسد –مثلا- بإنفاق المال للفرد المحتاج، أو للمجتمع العام، أو المساهمة المادية في مشاريع عامة تعود بالفائدة لفئة معينة من الناس، أو في إغاثة المجتمعات في الحوادث والكوارث والحروب، أو رعاية الأيتام والفقراء والمهمّشين، أو في مشروع صحي، أو تعليمي أو ثقافي، وكثير غيرها.

والمعنوي له مجالاته المتجسدة –مثلا- بإنفاق المعاني الروحية من أهل العرفان وأصحاب التجارب الروحية بلا شروط، ونعني بها كل ما يرسّخ العلاقة بالله من أفعال وأقوال وممارسات ف"المعلم الروحي الصادق لا يوجه انتباهك اليه، ولا يتوقع طاعة مطلقة أو إعجابا تاما منك؛ بل يساعدك على أن تقدر نفسك الداخلية وتحترمها. إن المعلمين الحقيقيين شفافون كالبلور يعبر نور الله من خلالهم"[6]. أو إنفاق العلوم، أو المعارف، أو الحكم، أو المحبة، أو الوقت، أو الجهد، أو العطف، أو البر، أو الكلم الطيب، أو حسن الخلق، أو السلوك القويم مع المجتمع، أو إفشاء السلام، أو معونة الناس؛ والكثير من أساليب السخاء والبر بالآخرين.

العطاء المادي والمعنوي لكل منهما أحد اللونين إما الفردي أو الجمعي. ونعني بالعطاء الفردي هو ما يتكرّم به فرد بما يستطيعه من إنفاق مادي أو معنوي، والعطاء الجمعي هو إنفاق المجتمع، أو شريحة منه في مشروع ما يؤوب بالخير المادي، أو المعنوي على مجموعة منه، أو كله، وقد يجتمع العطاء الفردي والجمعي معا عند بعض من الناس، وقد لا يجتمع.

في العطاء الفردي هناك فجوة بين الواهب والموهوب، حيث يكون الواهب في درجة أعلى على سلّم الرقي الاجتماعي سواء منه المادي أو المعنوي؛ فيما يكون الموهوب في درجة أدنى؛ فيهبط الواهب درجات السلم ليمسك بيد الموهوب لكي يترقّى، لكن في العطاء الجمعي أو التضامن العام يكون التسلق متكافئا للواهب والموهوب؛ فلا وجود للأدنى والأعلى الاّ في المواهب، والكفاءات، والاستعدادات الذاتية.

أما كيف يمكن للفرد أن يكون معطاءً؛ فهذا يستوجب الوعي، والذكاء الذاتي، والذكاء الاجتماعي. ويمكن تنمية الذكاء الذاتي بتنمية المواهب، والمهارات، والقدرات الذاتية التي منها القدرة أولا على وعي الذات واكتشاف نقاط قوتها وضعفها، ومن ثم الوصول الى نقطة يمكن اتخاذ الموقف الحازم لتكون أكثر وعيا وتفهما وتعاطفا مع الآخر ثانيا؛ فالتأمل بالذات يقود الى تغييرها وتجاوزها الى الذات العامة والتواصل والتعاطي معها. ومن تلك القدرات أيضا القدرة على التواصل بفاعلية عبر الكتابة، أو الحديث، أو القراءة، أو الإنصات؛ وكل هذه السبل تؤدي به الى التفهم والتعاطف والسعادة مع المحيط الخارجي، والقدرة على تحمل المسؤولية الكاملة تجاه التوجهات والأفعال الشخصية، ومنها القدرة على إدارة المال والممتلكات بأسلوب متزن حتى يمكن أن يقدم للأعمال والمشاريع الخيرية الاجتماعية؛ حينئذ يكون قد بلغ درجة الذكاء الاجتماعي. وكلما استطاع الفرد أن يصقل مواهبه وقدراته الذاتية ازداد قدرة على العطاء[7].

نسلط الضوء على أهمية العطاء على الصعيد الفردي والمجتمعي من منظور الدين، وعلم النفس الطبي، وعلم الاجتماع.

العطاء من منظور الدين

يؤكد الدين الإسلامي على إيجابيات العطاء التي منها تطهير المال وتزكيته، ومضاعفة الأجر للمعطي، وتحقيق السعادة والراحة للقلب، والضمير الفردي والجمعي. وتربو العطاءات في الأموال والممتلكات، أو المعارف، أو العلوم.

والطرف الموهوب يعبر عن سعادته تارة بالشكر والدعاء، وأخرى بالامتنان والتقدير الدائم، وبعض ليس بالضرورة أن يعبّر عنه سوى أن يكون سعيدا، فضلا عن الجزاء الأوفى للواهب في الآخرة.

يدرج القرآن الكريم جملة من الآيات التي أوردت أثر وأهمية العطاء؛ منها:

(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .[8](مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم)[9].

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[10].

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)[11].

والرسول الكريم (ص) حث على العطاء بأحاديث كثيرة منها(صدقة السر تطفىء غضب الرب)(صنائع المعروف تقي مصارع السوء)[12].

وينهي الدين الإسلامي عن الرياء والمنّة في الصدقة أو التذكير بها، وإذلال الواهب للموهوب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[13].

في الدين المسيحي أخذ موضوع العطاء حيّزا كبيرا بنوعيه المادي والمعنوي، فالسيد المسيح (ع) أوصى بالعطاء بلا حدود إذ قال:

من سألك فاعطه ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده[14]. وقال: من سخّرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين[15]، وحث على العطاء دون مقابل بقوله: أقرضوا وأنتم لا ترجون شيئا[16].

وكتب توماس ميرتون اللاهوتي المسيحي والناشط الاجتماعي والباحث في مقارنة الأديان: "إن الأرواح مثل الرياضيين الذين في حاجة الى خصوم جديرين بهم وذلك إذا أردت أن تختبر قدراتهم وتزودها، وأن تدفعهم الى استخدام كامل طاقاتهم"[17]؛ فهو يشبّه الأرواح بالعضلات التي تتطلب تمرينا دائما؛ للحفاظ على قوتها وحيويتها ومرونتها؛ وأندادا دائمين لتبرَعَ في استخدام مختلف صنوف قدراتها؛ والعطاء هو أحسن تمرين لأرواح أقوى وأمتن وأرشق، وأكثر فعالية وديمومة وبراعة.

العطاء من منظور علم النفس الطبي

إن العقل والنفس عنصران يجتمعان معا في تحديد العلاقة بالآخر؛ فالعقل يفكر ويخطط، والنفس تستجيب أو ترفض. وأوردنا في مقال سابق أن النفس هي الآمرة والناهية؛ والموقف القاطع لها لا للعقل[18]. فإن كان في النفس حيز للعطاء فهذا معنى أنها قادرة معطاءة؛ والعطاء يفتح حيزا للمحبة في النفس، والنفس هي مركز المحبة. والعطاء قيمة إنسانية كبرى؛ فحينما تتحقق في النفس المحبة معنى هذا إن النفس قادرة على منح المعنى. وقد يجتمع حب العطاء مع حب الناس المعوزّين؛ فالعطاء أُس المحبة؛ والمحبة أس العطاء، والنفس المحبة تكون معطاءة واهبة. وبذلك يترجم أسلوب العطاء حب الخير للناس في نفس المعطي أولا، وحبا للبذل والعطاء ثانيا؛ فالحب النظري لا يكفي ما لم يصدّقه التطبيق والعمل والإقدام على البذل والسخاء. وقد ينبع العطاء من نفس تجرّدت من حب الذات، أو أبقت على قدر يسير من حب الأنا، ووهبت الكثير للآخر.

على العموم فإن المحبة والعطاء في النفس الإنسانية وجودهما نسبي؛ فبعض الناس الشحيحين يتوفّرون على نسبة من العطاء المادي أو المعنوي لكنها ضئيلة.

ويرى طبيب النفس الفرنسي Serge Tisseron تعليم الأطفال منذ الصغر تقنيات التعرف على مشاعر الآخرين، وأيضا تعليمهم حسن النظر الى مشاعرهم من خلال التعاطف الذاتي؛ فالتعاطف الكامل مع الذات أولا، ومع الآخرين ثانيا يستثير مناطق عدة في الدماغ، حتى اذا بلغ الطفل عمر 8-12؛ فإنه من اللازم أن يكون قد وصل تربويا الى مرحلة الاعتراف بتعدد وجهات النظر، واقتنع بضرورتها؛ وهذا الأمر سيفتح الطريق أمامه لاحترام مبدأ المعاملة بالمثل، ولكن -حسب قوله- أن أغلب الأطفال يتوقفون في منتصف المحطات التربوية، ولا يصلون الى نهاية الطريق المؤدي الى التعاطف الناضج الكامل مع ذواتهم ومجتمعاتهم[19].

لكن هذا لا يعني توقف أو تلكؤ البشر عن الاهتمام ببعضهم وما أثبته العلماء "بفضل تكنولوجيا المسح الضوئي للمخ من اكتشاف دليل على أن البشر مبرمجون على العناية ببعضهم البعض، وتقديم يد العون لبعضهم البعض، وأن الشعور بالراحة النفسية منبعه الأساسي سخاء الروح والأفعال "[20].

وأثبت علم النفس الطبي أهمية العطاء وتأثيره على النفس والدماغ؛ "فالعالمان Jorge Mall – Jordan Garamfan جيوردن جرامفان، و جورج مال في علم الأعصاب وجدا دلالات علمية باستخدام الرنين المغناطيسي عام 2006 أن العطاء يستحث جزأين هامين من الدماغ في المركز العاطفي ما يعرف ب "ميزولمبيك - Mesolimbic " و Sublingual cortex – سيبلونغيوال، اللذين يؤديان وظيفة التعزيز السلوكي؛ أي إعادة وتكرار نفس السلوك بعد الشعور بالنشوة والفرح، واستحثاث المنطقة الدماغية المسؤولة عن الانتماء الاجتماعي، والشعور بالروابط الاجتماعية العاطفية الدافئة والحميمة، وإن العطاء لا يعمل على تثبيط الأنانية فقط؛ بل يؤدي الى الشعور بالغبطة، والسعادة"[21].

كما إن بعض الأبحاث الطبية وجدت "إن العطاء ينشط جهاز المناعة الجسدية، ويقلل من الشعور بالآلام الجسدية العضوية والجسدية النفسية، واستحثاث العواطف الإيجابية التي تشعر الإنسان بالحيوية، والطاقة، والاستمتاع، والصحة الجسدية، والتقليل من الاتجاهات السلبية لدى الإنسان كالنزعة العنفية، والعدوانية، وتحسين الوضع الفسيولوجي للجسم (أي تنظيم عمل أجهزة الجسم بشكل سليم) بإزالة الضغوطات النفسية، والشعور بالمرح والانبساط والنشوة والفرح، وهذا ما يؤدي الى الاستمرارية في العطاء. ونتيجة لتكرار هذه المشاعر المريحة، وإزالة الضغوطات فان المزاج يكون دوماً في أحسن الأحوال. وزيادة افرازات الهرمونات المخدرة الدماغية الطبيعية Endorphins – الاندورفين؛ وهذا أيضا ما يساعد على المزيد من الارتياح والنشوة، وتعزيز السلوك العطائي، ويؤدي الى ارتفاع المزاج، وأن الذين يمارسون قدرا أكبر من الإيثار أي تفضيل الآخرين على أنفسهم يتمتعون بتدفق كمية أكبر من الاندروفين؛ وهذه الكمية يمكن أن تعطي دفعة للجهاز المناعي؛ الأمر الذي يساعده على التعافي سريعا من العمليات الجراحية، ويقلل من الشعور بالأرق، وعدم الارتياح"[22].

ما توصلت اليه أبحاث علم النفس الطبي هو أن العطاء يحقق تكافؤا على صعيد الصحة العامة بين الطرفين؛ الواهب والموهوب؛ فالواهب حين يعطي ينعكس عليه بسلامة الصحة الجسدية والنفسية؛ كتحقيق الراحة، والبهجة، والسلام، والأمان، والقوة، والسعادة؛ وكذلك الموهوب؛ فمردودات العطاء عليهما واحدة.

العطاء من منظور علم الاجتماع

لكل فرد عالمان داخلي وخارجي، ونعني بالداخلي ذاته وما يتعلق بها، والخارجي هو الأسرة والمجتمع، فمحور حركته هو ذاته ومجتمعه، وكيفية إدارة العلاقة بينهما؛ وإدارة العلاقة بين العالمين هي قضية حياتية كبرى؛ لأن فن إدارتها يقتضي الحكمة والبصيرة والوعي. وعند بعض الأفراد يتمركز في عالمه الداخلي؛ وأعني في نقطة ارتكاز الذات وما يتعلق بها فيتمحور حولها، وهي الأولى وينهمك بشؤونها، والحركة نحو المحيط الخارجي لديه نسبية محدودة، فسيرورته تبتدئ بالذات، وتنتهي بالمجتمع. لكن عند البعض تكون الذات العامة هي الأولى والمقدمة على الذات الخاصة، وهي القضية المركزية عنده؛ فتحقيق الذات عنده مرتبط بمدى العطاء الذي ينفقه على المجتمع بأي لون كان؛ فسيرورته تبدأ بالمجتمع وتنتهي بالذات.

كلما انهمك الفرد في قضية ما من قضايا محيطه الخارجي مهما كان لونها اجتماعية كانت، أم سياسية، أم اقتصادية، أم ثقافية، أم صحية؛ فإن ذلك سيفضي الى انسلاخ الذات الخاصة من شرنقتها الى حيث الفضاء العام، وزحزحتها عن مركزيتها ليمتلئ الفراغ المتولد بالذات العامة الكبرى، وعندها ستتماهى الذات الخاصة بالذات العامة. وبالطبع فإن هذا لا يحدث للفرد وهو جالس في برجه العاجي، فالتماهي مع الذات العامة يقتضي تحمّل المعوقات، والتحديات، والتضحيات المترتبة لأجل القضية المركزية عنده التي تفرض عليه أن يكون مضحيا معطاء؛ فالعطاء عنده هو السبيل الوحيد الذي تسمو فيه ذاته، وتتشبع بالقوة، والصبر، والعزم، والتحمل، ومواجهة الحياة بنجاح كبير. فهو بالعطاء ينشد تحقيق المعنى الكبير الذي وجد من أجله على هذه الأرض؛ وهو التضامن الحيوي الفعّال مع المحيط الخارجي الذي يحتوي الأسرة والمحيط العام. فالعطاء شرطه وجود حيّز في الذات الإنسانية الخاصة للذات العامة؛ مساحته تتبع النفس الحاضنة.

الإيمان بمبدأ التكافل الاجتماعي نابع من عقل راجح، ووعي عال عميق بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية التي تقتضي الانسجام والتماسك والتفاعل بين أفراد المجتمع. ولا يمكن أن تتحقق المحبة بين أفراد المجتمع ما لم يكن هناك عطاء فالعطاء قوام المحبة، وهو عملية تكاملية بين الفرد ومجتمعه. ويطلق على الفرد الواهب بأنه "معطاء"؛ وليس كل الناس ينطوون على سمة العطاء بكل انشراح وكرم نفوس؛ سيما ونحن نغط في عالم يموج بالمادة ومظاهرها اللانهائية، وما يتبعه من طغيان الحالة الفردية على النفس الإنسانية، وتركّز التمحور حول الذات الخاصة والانهمام بها.

يفسّر لنا علم الاجتماع عملية العطاء الاجتماعي في إحدى نظرياته؛ وهي نظرية التبادل الاجتماعي Social Exchange Theory ؛ وروادها هم كيلي، وثيبوت، وجورج هومانز، وبيتر، وفحوى هذه النظرية هو" إن الحياة الاجتماعية عملية تفاعلية تبادلية بين طرفين؛ كل طرف يأخذ ويعطي، وليس فقط يأخذ أو يعطي، وهذا الأخذ والعطاء يؤدي الى ديمومة العلاقة التفاعلية واستمرارها وتعمقها، وأما المبادئ الأساسية التي تستند عليها هذه النظرية فهي أن الحياة الاجتماعية هي عملية أخذ وعطاء، وتبادل بين شخصين، أو فئتين، أو جماعتيْن، أو مجتمعيْن، وتتعمق العلاقات وتستمر اذا كان ثمة موازنة بين الأخذ والعطاء؛ أي بين الحقوق والواجبات المتعلقة بالفرد أو الجماعة، وتتوتر العلاقات أو تنقطع اذا اختل مبدأ التوازن بين الأخذ والعطاء بين الشخصين المتفاعلين"[23].

حينما يفهم الفرد نفسه يفهم مجتمعه، وما ينبغي له وعليه ضمن قيم لا ينبغي الزيغ عنها؛ وهو منتمٍ للمجتمع وقيمه؛ والعطاء إحدى القيم المجتمعية المهمة.

وأدت تعقيدات وتغييرات عصرنا الراهن بالمجتمع الى عدم التمييز بين القيم الموجودة في داخله عن القيم الوافدة من خارجه، وهذا ما يؤدي الى العشوائية، والضبابية، وعدم الرؤية، والخلط بين ما هو أصيل وما هو دخيل. وأحسن وسيلة هي الانتقال بالقيم المجتمعية الأصيلة من مستوى التنظير الى مستوى العمل في كافة المجالات. وحينما يسير الناس وفق القيم المعتبرة عندهم فإن الصراع ينتفي فيما بينهم، ويتحقق التوازن النفسي للفرد، وبدوره يحقق التوازن المجتمعي، وفقدانه بعد فقد القيم والعمل بها فإنه يؤدي به الى التوتر والقلق[24].

خصلة العطاء من الخصال السامية، وتطبيقها جزء من سلوكيات إيجابية اجتماعية؛ منها الإيثار، والتعاطف، والتسامح، ومساعدة الآخرين وتفهم مشاعرهم؛ والمحك الأساسي في هذا النمط من السلوك أن فاعله يقدم شيئا ماديا كان أو معنويا من دون ترقّب أو توقّع لأي مكافئة بالمقابل[25].

الهدية المادية -على سبيل المثال- هي طقس اجتماعي يقوم على التبادل والتواصل بين الأفراد والمجتمعات تتضمن العطاء والمنح، ولها دور مهم في توطيد أواصر المحبة وتنمية مشاعر الود بين أفراد المجتمع. وقد ترجم مارشال سالنز معناها بقوله:"إذا كان الأصدقاء يتبادلون الهدايا فإن الهدايا هي التي تصنع الأصدقاء[26].

وقد كشفت دراسة نشرتها مجلة جمعية علم النفس الأمريكية؛ أن الهدايا تولّد شعورا بالرضا والسعادة، وأوردت أن الأشخاص الذين ينطوون على مستوى أعلى من الذكاء العاطفي يمكنهم توقع تأثير تقديم الهدية على نفوسهم ونفوس المتلقين، ومدى أهمية تبادل الهدايا في تمتين أواصر العلاقات الاجتماعية؛ فهم لا يترددون في شراء الهدايا المتميزة للآخرين[27].

والعطاء في المجتمع مردوده إيجابي على المعطي والمُعطى اليه، فشعور الانتماء للإنسانية عند المعطي بلا شروط، وإقدامه على فعل العطاء يولد لديه شعور الراحة والسعادة، أما على المُعطى اليه فإنه يتحقق لديه الفرح، والطمأنينة، والأمان على حياته من خلال عطاء الآخر. ويمكننا هنا استثناء بعض من مرضى النفوس الذين لا ينطوون على خصلة تقدير العطاء، فيأخذون دون تقدير للآخر، وقد يتنكّرون لفضله وعطائه.

على صعيد المجتمع العالمي فقد تجسّد العطاء بصوره المختلفة حسب الظروف التي يمر بها العالم؛ كالإغاثة، أو الإعانة، أو الاهتمام بفئة خاصة أو مجتمع خاص. فمنذ الحرب العالمية الأولى، وليومنا هذا تأسست منظمات عالمية، ومؤسسات إسلامية لإغاثة المتضررين من الحروب والكوارث في دول عدة بعيدا عن انتماءاتهم وأعراقهم وألوانهم. ومن بين هذه المنظمات؛ الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر الذي تشكّل عام 1919 في باريس، والمنظمة العربية الدولية للأعمال الخيرية التي تأسّست هذه المنظمة بجهود مجموعة من النساء العرب عام 1967،.و منظمة المعونة الإسلامية تأسست في المملكة المتحدة عام 1985 بجهود مسؤولين من 17 منظمة إسلامية عقب الجفاف الذي أصاب القرن الأفريقي، ومنظمة حياة للإغاثة والتطور؛ وهي من أقدم منظمات الإغاثة الأمريكية تأسّست في مدينة كاليفورينا الأمريكية عام 1992 بتضافر جهود عرب وأمريكيين ثم نقل مركزها الى مشيغن؛ إثر الكارثة الإنسانية التي خلّفتها حرب الخليج عام1991[28].

ولعل من أبرز منظمات الإغاثة العالمية هي؛ منظمة الإغاثة الإسلامية عبر العالم، تأسست عام 1984 بجهود الطالب (هاني البناء) ورفاقه في مدينة برمنغهام البريطانية. يتمحور عملها حول إغاثة الفئات المهمشة والفقيرة، والإغاثة العاجلة في حالات الكوارث والطوارئ، وتقديم الخدمات التعليمية والصحية للأطفال اليتامى بغض النظر عن العرق، والدين، والانتماء السياسي، والنوع الاجتماعي. وتعتمد في مبادئها الإنسانية على الدين الإسلامي كمرجع أصلي، وتستوحي أهدافها من قيم القرآن الكريم وتعاليم السنة النبوية المطهرة. وتتمثل قيم المنظمة بالإخلاص، والاحسان، والرحمة، والعدل، والأمانة لتحقيق عالم مليئ بالتكافل. ولها مركز إستشاري لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة. ولديها عدد من المكاتب الميدانية والشركاء والفروع المسجلة المنتشرة في 50 دولة. وتعتبر أكبر منظمة دولية خيرية مستقلة[29].

وهناك ما لا یقل عن 15 مؤسسة خیریة إسلامیة في الولایات المتحدة الأمریکیة؛ ومنها الجمعیة الطبية الإسلامیة في أمریکا، وجمعیة أخصائي الصحة المسلمین فی أمریکا[30].

أما في العالم العربي فقد انبثقت هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية عن رابطة العالم الإسلامي في الأردن؛ عام 1979، وهي منظمة خيرية إسلامية متبنية مبدأ الإسلام في التكافل والتضامن والتعاون. وهي متعاونة مع الميسورين المحسنين لتقديم التبرعات للمنكوبين والمحتاجين في العالم. وإغاثاتها متنوعة من تعليمية، واجتماعية وصحية وتنموية في معظم دول العالم عبر مكاتبها وممثليها في 95 دولة. أولها المملكة العربية السعودية.[31]

وعلى الصعيد الخاص -كمثال- على تجنيد الذات لخدمة المجتمع العام "الأم تيريزا"؛ الراهبة الكاثوليكية المقدونية التي جنّدت نفسها لخدمة الفقراء والمحرومين والمستضعفين في مدينة كلكتا في الهند؛ " فقد أنشأت مدرسة في الهواء الطَلْق، ومسكنًا للفقراء المُعْدَمين بإحدى المباني المهجورة، والتي كانت قد أقنعت إدارة المدينة بالتبرع به لصالح مشاريعها الخيرية. في أكتوبر 1950، أسست جماعة "الإرساليات الخيرية" بانضمام عدة عضوات، أغلبهن مدرسات أو طالبات سابقات في مدرسة القديسة ماري. مع زيادة تدفق التبرعات من أنحاء الهند والعالم، وسَّعت الأم تيريزا من نطاق أهدافها الخيرية. وخلال حقبة الخمسينات والستينات، أسّست مستعمرةً للجذام، ودارًا للأيتام، ودار حضانة، وعيادة عائلية، وسلسلة من العيادات الصحية المتنقلة. في عام 1971، سافرت الأم تيريزا إلى مدينة نيويورك لافتتاح أوَّل دار خيرية لها في أمريكا. وفي صيف 1982، سافرت سرًا إلى بيروت بلبنان، حيث ساعدت الأطفال المسيحيين والمسلمين خلال الحرب في عام 1985"[32]. هذا جانب من أعمالها الخيرية الواسعة.

وبعض من الشخصيات العالمية لديها مساهمات في مشاريع اجتماعية خيرية كثيرة؛ وبعض منهم تبرّع بكل ثرواته لمشاريع إغاثة الفقراء، أوالمرضى، أو الأيتام، ولا يسع المجال لذكرهم هنا.

بالنتيجة أجمعت وتكافأت الأديان والعلوم البشرية في تأكيدها على أهمية العطاء والعمل التطوعي الجمعي بمختلف ألوانه؛ ومردوداته الإيجابية على الأفراد والمجتمعات من النواحي المعنوية، والنفسية، والصحية، والبدنية، والعقلية، وعلى الحياة الاجتماعية بصورة عامة.

التضامن الجمعي أجلى صور العطاء

العطاء مبدأ إنساني عظيم إذا تم بناؤه على أساس التضامن الجمعي ودعمه بالعمل والتطبيق الواقعي، وحفظ وتطوير التراكمات المنجزة المترتبة عليه، والسير عموديا بموازاتها، عنذ ذلك نكون قد أنشأنا مجتمعا حضاريا مسؤولا. والحضارة ليست باللون، أو اللغة، أو المظاهر، أو الالتفاف حول الذات، أو التسابق للفتك بالإنسان بمختلف سبل ووسائل العنف المسلّط. فمجتمعاتنا تربّت على التناقض الطبقي والعرقي، وترسّخ في وجدانها الشعور بالفوقية، والاستعلاء، والأفضلية.

ومن فوائد التضامن الجمعي على الفرد والمجتمع بصورة عامة أنه يحمي الطرفين الواهب والموهوب من الوحدة والانعزال، ويحقق الشعور بالرضا عن النفس، فضلا عن تمتين العلاقة بالمجتمع وتعزيزها بمختلف الأنشطة المشتركة، وتعزيز مشاعر الإيثار، والقوة، والثقة بالنفس طبقا لمبدأ العلاج النفسي الجماعي، Group Psychotherapy، ويشمل في مفهومه الأوسع أية عملية مساعدة واسناد في أية مجموعة بشرية. وهذا النوع من العلاج يسعى الى تعزيز العديد من المفاهيم والمبادئ الإيجابية مثل مساعدة البعض، وتعزيز القدرة على العطاء، والعمل على غرس الأمل وتقويته في نفوس المجموعة المتضامنة من خلال إلهام وتشجيع أعضائها للتغلب على المشاكل التي يواجهونها، فضلا عن إن العلاج هذا باعتباره مبدًأ أساسيًا فإنه ينظر الى التماسك اذ لا تحدث عملية الشفاء بدونه، ومن خلاله لا تحدث التنمية الشخصية الاّ في سياق العلاقات الشخصية، والمجموعة المتماسكة هي التي يشعر فيها الأعضاء بالانتماء والقبول والتأكيد، ويعزز مفاهيم الإيثار والأمل والتماسك والمسؤولية عن القرارات. ويصبح التطوع الجماعي شكلا مصغرا أو مبسطا من أشكال العلاج الجماعي، فضلا عن إن التطوع الجماعي هو وسيلة مهمة يشعر فيها الشخص بجدوى وهدف الحياة، وتعزيز التواصل مع الآخرين، والشعور بالرضا عن الذات؛ فإضفاء المعنى على الحياة يسعد الفرد والجماعة، وينعكس على صحتهم النفسية والجسدية بالإيجاب كذلك. ومجالات التضامن الاجتماعي كثيرة منها مثلا الاشتراك في عمل تجاري أو زراعي، أو تقديم خدمات صحية أو ثقافية ...الخ[33].

وتربية المجتمع على مبدأ التضامن الجمعي الذي يقوم على أساس الشعور العميق بالمواطنة الحقيقية؛ هو إحدى السبل لبناء مجتمع مدني يكون قاعدة أساسية لبناء دولة مدنية حديثة.

وعلى الرغم من تأكيد علم النفس الغربي على الفلسفة الفردية، وعدم إيلائه أهمية للفاعلية الجماعية Collective Efficcacy الاّ بشكل ثانوي على الصعيد النظري والعملي، لكن بالنسبة للشعوب الشرقية وبعض الشعوب التي هي بطور البناء والتكوين فإن الفاعلية الجماعية لها حق الأولوية كما في شعوب آسيا وأفريقيا[34]. والفاعلية الجماعية تعني تعبئة الطاقات والقابليات الفردية لأجل القضايا العامة لمجتمع ما؛ فمن خلال دينامية الفاعلية الجماعية تتمدد الطاقات والامكانيات الفردية وتتحول الى كيان عضوي فاعل يستمد أفراده منه القوة والتضافر والتضامن والمواجهة[35].

كمثال على التضامن الجمعي هناك مبدأ في العلاقات الاجتماعية أسمه أبونتيوUbuntu) )؛ وهو مصطلح شائع في لغات جنوب أفريقيا، ويطلق على مبدأ فلسفي قديم مفاده: إن قيمة الإنسان تنبع من خلال انتمائه للجمع أي للمجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه، وتستمد اعتبارها من خلال الآخرين. وإن أي فرد يتّسم به يعني هو منفق كريم، وإن مكانته الاجتماعية مرهونة بمدى قدرته على العطاء، وسعيه الحثيث في إسعاد وراحة الجميع، وإن أي ضرر أو ظلم يمس المجتمع يمسه هو أيضا لأنه منتمٍ له.

المعنى الإجمالي للمصطلح هو: أنا أكون لأننا نكون؛ أي أن مصالح الفرد الشخصية مرتبطة بشكل مباشر بالمصلحة العامة التي تتحقق بإسهام أفراد المجتمع في البناء والإنماء والتطوير بشكل فعال؛ فهم يتشاركون في المصالح، والتطلعات، لأجل قضاياهم الواحدة؛ فالمجتمع يستمد قدراته وقابلياته ومواهبه في البناء والتكوين من قدرات وقابليات وجهود أفراده؛ فلا وجود للفردية انما الوجود للمشاركة الجماعية الفعالة في كل الميادين للنهوض بالمستوى العام الجمعي.

ويوضّح أيقونة الإصلاح المناضل الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا معنى هذا المبدأ الفلسفي الإنساني الذي أشيع تداوله على نطاق واسع في جنوب أفريقيا؛ باختصار:

إن إنسانية الفرد مسبغة بشكل جوهري مشترك على الآخر وعلى ذات الفرد، ويقوم على المساواة بين أفراد المجتمع والتوزيع العادل للثروات[36]، ويجسد هذه الفلسفة في عبارته التالية: حين يقف المسافر عبر بلادنا عند قرية ما فإنه لا يحتاج الى السؤال عن الطعام أو الماء؛ فبمجرد وقوفه عند هذه القرية سيجعل أهلها يطعمونه ويرحبون به وفقا لمبدأ أبونتيو. هذا جانب منه، وهو لا يعني أن الفرد غير ملزم لإثراء نفسه و تطويرها، لكن الإثراء، والتطوير، والإنتاج، والعطاء من الواجب أن يكون انطلاقا من كونه ساعيا لتطوير وسعادة مجتمعه.

على ضوء هذا المبدأ أراد أحد علماء الأنثروبولوجيا اكتشاف مدى تقبّل نفوس أطفال صغار بعمر السادسة في إحدى القبائل الافريقية البدائية مبدأ ال(أبونتيو)؛ فوضع سلة من الفواكه المتنوعة قرب شجرة، وقال لهم:

إن أول طفل يصل الشجرة سيحصل على السلة بما فيها. وعندما أعطاهم إشارة البدء للتسابق فيمن يحظى بالسلة تفاجأ بهم يسيرون سوية ممسكين بأيدي بعضهم حتى وصلوا الشجرة معا، وتقاسموا الفاكهة؛ وعندما سألهم:

لماذا فعلتم ذلك فيما كان كل واحد منكم بإمكانه أن يصل الشجرة بسرعة، ويحصل على السلة له فقط، أجابوه بتعجب:

أبونتيو، أي: كيف يستطيع أحدنا أن يكون سعيدا فيما الباقون تعساء[37].

يذكّرني هذا المشهد بنا يوم كنا صغارا نتلقى عن مربينا في الأسرة والمدرسة أسمى القيم والمثل الإنسانية، وبفطرتنا نشدوها بألحان مزهوّين فرحين ونطبقها كما هي ظنّا أننا سنسكن عند الكبر في مدينة افلاطون الفاضلة؛ لكن ما إن غدونا كبارا ارتطمنا بصخور شر العالم بألوانها....عنف بأسلحة دمار جسدية، رمزية، مادية، معنوية، فكرية، اقتصادية، سياسية، ثقافية؛ من محيطات مختلفة. وعلة الشر هي مركزية الأنا، ونرجسية الذات، وندرة المعاني، وشحة العطاء، واستبداد الرأي، وبراغماتية بصورها الملوّنة. وتمكث تلك القيم الجميلة التي تلقيناها عند الصغر في نفوسنا أماني لا تستفيق يوما على رؤيا تحقيقها في عالم يموج بالشرور.

ما يثير الدهشة أن هؤلاء الأطفال ليسوا كبارا في السن، ولا علماء في حقل، ولا مشاهير، ولا منتمين للشعوب المتحضرة؛ لكنهم قدحوا شرارةً في الضمير العالمي تعلّمه فن الحياة بأرقى، وأنقى، وأجلى أسلوب حضاري يحقق السعادة والرضا للجميع.

مشهد الأطفال الأفارقة يستحث خطى سكان الأرض أن يتشاركوا في مهرجان التضامن العام، كأن يفيضوا على بعضهم البعض بكل ألوان العطاء بشكل دائمي أبدي؛ الإغاثات المادية في حالات الأخطار والحوادث والكوارث البيئية والحروب؛ وما أكثرها اليوم!، المعارف والعلوم، التجارب العلمية، الكلام الايجابي، المشاعر الايجابية، العواطف والأحاسيس الإنسانية، الهدايا، التشارك في السراء والضراء، في الأفراح والأتراح، في الضحكات والدموع، في السلم والحرب، في نزول الوباء؛ ونحن منذ عامين نرزح تحت جائحة كوفيد-19، والتضامن العالمي ينبغي أن يكون في أقصاه للخلاص من الجائحة بعيدا عن كل ألوان التطرف، والتزمت، والانتماء العرقي، أو الطبقي، أو الديني، أو الثقافي، أو العلمي، أو المذهبي، أو السياسي، وغيره. والعالم اليوم بفعل تكنولوجيا الاتصالات اختُصر فصار صغيرا؛ فانتماؤنا للكوكب الأرضي الذي يتوسّم فينا الوحدة والتفاعل العام في كل الحقول الحياتية لتحقيق السعادة لساكنيه؛ هو انتماء أمدي، وقبله انتماؤنا لجنة أبينا آدم وأمنا حواء لكنه انتماء أبدي.

 

إنتزال الجبوري

...............................

[1] الإسراء- 20.

[2] طه- 50.

[3] الضحى- 4-5.

[4] هود- 108.

[5] أنظر: جمال، عظيم، وماكينون، هارفي. قوة العطاء. الرياض: مكتبة جرير، ط1، 2010، ص24.

[6] التبريزي، شمس الدين. القاعدة الثالثة عشرة من قواعد العشق الأربعين.

[7] أنظر: جمال، عظيم، وماكينون، هارفي. مصدر متقدم، ص81.

[8] التوبة- 103.

[9] البقرة- 261.

[10] البقرة- 265.

[11] الليل- 5-7.

[12] المعجم الكبير للطبراني.

[13] البقرة- 264.

[14] انجيل متي 5:42.

[15] نفس المصدر 5: 41.

[16] انجيل لوقا 6:35.

[17] جمال، عظيم، وماكينون، هارفي. مصدر متقدم، ص21.

[18] أنظر: الجبوري، إنتزال. (المحبة معين متدفق أبدي). صحيفة المثقف: عدد 5389(17/5/2020).

[19] أنظر: موقع إذاعة مونتكارلو الألكتروني.

[20] جمال، عظيم، وماكينون، هارفي. مصدر متقدم، ص4.

[21] موقع الطبي.

[22] نفس المصدر.

[23] صغير، عطاف مناع. نظريات علم الاجتماع العام. موقع:New- educ.com.

[24] أنظر: كشيك، منى. القيم الغائبة في الإعلام. مصر: دار فرحة للنشر والتوزيع، 2003، ص 84.

[25] أنظر: عاشور، قياتي مدرس مساعد في علم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة بني سويف –مصر.  موقع: Scinentificamerican. Com.

[26] الجويلي، د. محمد. الهدية عند العرب طقس اجتماعي يختزل الروابط الإنسانية. صحيفة العرب(11/4/2016).

[27] أنظر: عادل، مها. صحيفة الخليج(4/3/2021).

[28]أنظر: السي ميلكونيان. موقع ارفع صوتك (17/2/2017).

[29] أنظر: موقع وكالة الأنباء القرآنية الدولية iqna. ir

[30] أنظر: نفس المصدر.

31- أنظر: الدويري، محمد نواف. (هيئة الإغاثة الإسلامية في الأردن). صحيفة الدستور الأردنية(1/2018).

[32] موقع www.arageek. com

[33] أنظر: موقعNoon Post.com.

[34] أنظر: حجازي، مصطفى. إطلاق طاقات الحياة. بيروت: دار التنوير، 2012، ص208-209.

[35]أنظر: نفس المصدر، ص177.

[36] أنظر: موقع عكس الاتجاه.

[37] أنظر: نفس المصدر.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم