صحيفة المثقف

عدنان حسين أحمد: شخصيات إشكالية لا تجد حرجًا في الإتكاء على معطيات الموروث الديني والاجتماعي

عدنان حسين احمد"أجنحة في سماء بعيدة" تقنية متطورة ومِكنة ملحوظة في البناء المعماري للنص السردي

صدرت عن دار "لندن للطباعة والنشر" في المملكة المتحدة رواية "أجنحة في سماء بعيدة" للكاتب العراقي جمال حيدر، وهي باكورة أعماله الروائية التي تكشف عن قدرة واضحة في التقنيات السردية، وتمكّن ملحوظ في البناء المعماري للنص الروائي المحكم الذي ينطوي على شخصيات إشكالية تجمعها ثيمة رئيسة يمكن أن يتلمّسها القارئ على مدار النص السردي. لا يمكن اعتبار هذه الرواية نصًا كلاسيكيًا لأنّ مُبدِعها استغنى عن مبدأ البطولة الفردية واستعاضَ عنها بالبطولة الجماعية التي توزعت على خمس شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية مؤازرة توحي بأن الكاتب لا يُغلّب الجانب الذكوري على حساب الشخصيات الأنثوية التي أسند إلى بعضها دورًا موازيًا للرجل وربما أكثر خطورة منه. كما انتقى الروائي مكانًا متفردًا وغريبًا وهو مقبرة "وادي السلام" في مدينة النجف التي تُعدّ أكبر مقابر المسلمين في العالم ليطّعم نصّه الروائي ببعض الرموز والدلائل الفلسفية التي لا تجد حرجًا في الإتكاء على معطيات الموروث الديني والاجتماعي بما ينطوي عليه من أبعاد أسطورية لا تبتعد كثيرًا عن الخرافات التي تؤسسها الذاكرة الجمعية للناس. فيما ظل الزمن الروائي مرتبطًا بالأحداث المستقرة في ذاكرة العراقيين على وجه التحديد، وأبرزها الانتفاضة الشعبانية التي تفجّرت إثر اندحار القوات العراقية في الكويت وانسحابها غير المنظم إلى داخل الأراضي العراقية التي أعقبها سقوط المحافظات الجنوبية ومن بينها مدينة النجف التي تدور فيها أحداث هذه الرواية، وتتخذ من المقبرة مكانًا لشخصياتها الإشكالية المدروسة بعناية فائقة.

تمظهرات الثيمة الرئيسية

تحتشد هذه الرواية بثيمات رئيسية عديدة لكننا سنختار الفكرة التي طرأت على ذهن جعفر الذي التحق بالمقبرة وقال بما يُشبه اليقين الثابت:"أنّ على الأموات الراقدين تحت الرمال أن يستيقظوا من نومتهم الأبدية لأن الأحياء ماتوا منذ زمن، ماتوا بعدما حاصرهم الخوف ... الخوف من الموت من دون أن يعوا أنهم قد ماتوا بالفعل". لقد تمّ اختيار هذه الثيمة لأنها شاملة، وتحريضية تحفّز الأموات على النهوض من نومتهم الأبدية وأخذ زمام المبادرة لأن الأحياء قد ماتوا بفعل الخوف، وهذه إدانة واضحة لهم ستؤرقهم بعض الوقت قبل أن يحطمّوا جدار الخوف الذي شيّده النظام الدكتاتوري المستبد وشلّ حركة الشعب العراقي لفترة طويلة من الزمن. عبّود، العامل البسيط يعترف بأنّ "الأموات لا يؤذون أحدًا، الأحياء هم المشكلة". المعلّم جميل حسن الذي يكتب الشعر والمغرم بالقراءة يفلسف الأمر بشكل آخر حين يقول:"لكل إنسان خيطه الخاص بألوانه وشكله وسماكته معلّق به" لكنه يتمنى أن يجدل هذه الخيوط ليصنع منها بساطًا، جميلاً، ساحر الألوان. تتشظى كل ثيمة على انفراد إلى عدد من الأفكار الثانوية التي تتوهج ضمن النسق السردي للشخصيات وهي تبوح بمّا يعتمل في ذهنها، وما ينتابها من مشاعر وأحاسيس داخلية. فالرواية تجمع بين الشخصيات الريفية والمدينية، بعضها قادم من الريف مثل عبّود خضر الصكَبان وزوجته أميرة، وبعضها الآخر قادم من بغداد أو هارب منها لكي يلوذ بمقبرة النجف، ويقارع الاستبداد، ثم يعود في خاتمة المطاف إلى العاصمة بهويات مزوّرة. العديد من شخصيات هذه الرواية تقع في الحب أو تعيشه أو تستذكره في الأقل، فجميل حسن يحب ابنة عمه زهرة، وستار جبر يعشق مديحة، وجعفر يقع في حبها أيضًا ويتمنى أن تبادله الحب ويصبح بديلاً لستار غير أنّ هذا الحب مطعّم بالجوع الجنسي الذي يعاني منه إضافة إلى إحساسه بالوحدة، وشعوره بالكآبة واليأس المطلق. تُحيلنا تجليات الثيمة إلى الصراع المحدود بين عبود الذي ينحدر من أسرة فلاحية وبين الشيخ الإقطاعي الذي اصطف إلى جانب الحكومة ضدّ مصلحة الفلاحين البسطاء في قرية "كحل العين"، وذات يوم يُقتل ابنه صيهود وهو عائد من سهرة ليلية في مضارب الغجر. وفي مقابل الهجمات التي تشّنها القوات الأمنية أو قوات الحرس الجمهوري ضد المنتفضين الذين يتخذون من المقبرة ملاذًا لهم يفاجئنا الروائي جمال حيدر بالتوظيف الرمزي لهجوم النمل الأحمر على المقبرة والمدينة برمتها لكنه يتوقف قبل أن يصل إلى المرقد والقباب اللامعة. يذوّب الروائي بقدرته السردية المطواعة بعض الشطحات الفلسفية ويصوغ منها جملاً مهمة لا تفارق الذاكرة مثل مقولة جميل حسن التي يكررها دائمًا: "الذين لا يعرفون الحب هم الذين يوقدون الحروب". كل الثيمات المُشار إليها سلفًا تصلح لأن تكون مهيمنات نصيّة لهذه الرواية التحريضية التي تقوم على تقويض حاجز الخوف الذي ظل مرتفعًا إبّان الحقبة الاستبدادية من تاريخ العراق الحديث. 

شخصيات من قاع المجتمع العراقي

2593 جمال حيدريمكن القول بإطمئنان كبير بأنّ "أجنحة في سماء بعيدة" هي رواية شخصيات أكثر منها رواية أحداث وقد رجّحنا الكفّة الأولى لأن الشخصيات الفاعلة هي التي اختارت مصائرها، وانتقت المآلات التي ستمضي إليها بمحض إرادتها وكأنّ الأحداث هي صدىً للقرارات التي تتخذها شخصيات النص السردي التي لاذت بالمقبرة واتخذت منها موضعًا قتاليًا لصدّ الهجمات المتوقعة للقوات الأمنية. سنركز في هذه القراءة النقدية على خمس شخصيات رئيسية وهي ستار، وجميل، وعبود، وجعفر، واسماعيل من دون أن ننسى شخصيتي مديحة وأميرة اللتين تلعبان دورًا مهمًا في النص الروائي.

لا يقدم الراوية معلومات كثيرة عن ستار جبر لكنه يحيطنا علمًا بأنه سِيق إلى الحرب وهرب منها، كما يخبرنا بأنه أحب مديحة وتعلّق بها فهي "زهرة القدّاح في صحراء روحه". وحين دهمتهم القوات الأمنية اختار ستار الهرب من المقبرة باتجاه المدينة لكن المهاجمين سيطاردونه في الأزقّة الضيقة ويردونه قتيلاً في خاتمة المطاف، الأمر الذي يدفع حبيبته مديحة للانضمام لهذه المجموعة المناوئة للنظام بهدف الانتقام من قتلة حبيبها ستار.

تعمّق العدمية والإلحاد شخصية جميل حسن الإشكالية، فهو معلم مثقف يكتب الشعر، ويهوى القراءة كثيرًا، قادم من قرى الجنوب البعيدة والمهملة. أحبّ ابنة عمه "زهرة" لكن والدها رفض تزويجه إيّاه لسببين مباشرين؛ الأول عدم إيمانه بالله سبحانه وتعالى كما سُرِّب إليه من أخبار، والثاني تحريضه للفلاحين ضد الملا صالح الذي يُعدّ سلطة دينية في بيئته الاجتماعية المتواضعة التي تقدّس هذا النمط من الشخصيات الدينية حتى وإن كانت بسيطة وساذجة وغارقة في الغيبيات. يمكن التقاط شرارة الوعي والثقافة لدى جميل من بعض المعطيات التي بثها الراوية في النص السردي، فلقد قرأ رواية "الأم" لمكسيم غوركي مرات عدة وكان يصفها بالقول:"إنها أمنّا جميعًا". كما يمكن الإمساك بالنبرة الفلسفية في أحاديثة المطعّمة بوخزات ساخرة حين يقول مثلاً:"إعرف نفسك أولاً ستعرف العالَم تاليًا". لقد تحول هذا المعلِّم، الشاعر إلى متشرد في المقبرة وقارئ قرآن على قبور الأموات. وبعد أن شاهد زفّة عرس حبيبته زهرة إلى عريسها "مضى وحيدًا إلى العتمة، مصغيًا لنبضات قلبه الملتهب".

ينحدر عبّود خضر الصكَبان من أصول ريفية لكنه حصل على مهنة عامل بسيط في المدينة المجاورة لقرية "كحل العين". تزوج عبّود من "أميرة" التي أنجبت له طفلتين جميلتين وهما فاطمة وزينب رغم أنّ أسرته قد عابوا عليه أن يتزوج من غريبة. يدخل عبود في مناقشات حامية وشجارات متواصلة مع شيخ العشيرة ويعتقد بأن مشكلتهم مع الإقطاع دائمة. ومما يزيد الطين بِلّة هو مقتل صيهود ابن الشيخ الذي عاد متأخرًا من سهرة في مضارب الغجر فهل يمكن إلصاق هذه التهمة بعبود، الإنسان العملي المسالم خصوصًا بعد التحاقه بالمجموعة المناهضة للسلطة المستبدة التي تموضعت في المقبرة؟

أروقة التعذيب ودهاليزه السريّة

تنتمي الشخصية الرابعة إلى قاع المجتمع أيضًا حيث يُطل علينا جعفر بعد هروبه من السجن وتعرضه للتعذيب، والتحاقه بمجموعة المقبرة، وتهمته هذه المرة جاهزة وهي نقل أسلحة للمعارضة، وتسهيل عملياتهم. يعمل جعفر سائقًا لسيارة أجرة، ورغم احتكاكه المتواصل بالناس إلاّ أنه كان وحيدًا وصامتًا جرّاء شعوره بالعزلة. وذات مرة زار طبيب نفسي فنصحة بالذهاب إلى مهرّج يعمل في سيرك ويضحِّك الناس فأخبره جعفر بأن هذا المهرج صديقه الأقرب وهو مصاب بالاكتئاب أيضًا ويعاني من اليأس. يتعقّد موقف جعفر حين يقع في حب مديحة من طرف واحد ويتمنى لو أنه استطاع أن يكون بديلاً لستار ويحل محله، وبعد مقتلها يجافي النوم عينيه، ويسقط في دوامة من الأرق.

لا تختلف شخصية اسماعيل من حيث نَفَسها الإشكالي، فقد قُبض عليه بالقرب من سوق الكاظمية، وتعرّض للتعذيب، وأُخلي سبيله بعفو رئاسي. ومن أبرز الصفات المميزة هي حبه لوالدته وتعلّقه بها. بلغ اسماعيل في منتصف عقده الرابع ويعمل حاويًا للثعابين يُخرجها من صناديقها الخشبية ثم يعيدها قبل أن تصل إلى الجمهور المتحلّق حوله.

وثمة شخصية أخرى تدعى محمود الذي طلب من المجموعة أن ينضم إليهم ويقبلونه كما هو، فهو قوّاد لكنه أصبح مطاردًا من قبل السلطة، ويدعي بأن ما رآه في المدينة قد علّمه الكثير، وقلب حياته رأسًا على عقب. يخبرنا الراوية بأنّ محمودًا هو الابن الوحيد بين خمس بنات، وقد فشل في دراسته، ورفض مهنة والده الذي يعمل في صناعة الأحذية، وقرر الغرق في متاهة العاهرات، والسماسرة، وعربدة الزبائن. كان محمود يتلقي برجال المجموعة ويتبادل معهم ما بلغهُ من أخبار وتحركات القوات العسكرية.

وفي مقابل هذه الشخصيات الذكورية المتعددة تلعب مديحة، التي أحبت ستارًا وأخلصت لحبه، دورًا مهمًا في الرواية، وسنعرف تباعًا بأنها وَفدت إلى مدينة النجف لكي تبحث عن أصدقاء ستار الذي قُتل في أزقة المدينة بعدما غادر المقبرة. لا شك في أنّ مديحة جميلة، بلونها الحنطي، وغمازتيها اللتين ترصّعان وجهها، وقد عشقت حبيبها ستار الذي بات يأتيها في الحلم ولعل إصرارها على المجيء هو نوع من التعويض عن خسارته. وقد كلّفها رجال المجموعة أن تكون ساعية وحلقة وصل بينهم وبين مؤازريهم في المدينة تنقل الأسلحة، وتجمع التبرعات، وتذلل الصعاب التي يمكن أن يواجهونها في هذا المكان الموحش والمنعزل.

على الرغم من ضيق المساحة التي منحها المؤلف لشخصية أميرة إلاّ أننا نعرف كقرّاء أنها غريبة عن عبود ومع ذلك فقد تزوجها خلافًا لرغبة أهله الذين يفضّلون أن يقترن ابنهم بإحدى قريباته، ومع ذلك فهو سعيد بحياته الزوجية، ومحب لزوجته التي أنجبت له بنتين مثل حمامتين كما يصف دعتهنّ وجمالهنّ. ويكفي أن نشير بأن أميرة قد قررت في النهاية أن تخرج من البيت وتبحث عن زوجها عبّود ولن تسمح لشيخ العشيرة أن يحدّد قدرها، فهي شخصية فاعلة وقادرة على صناعة الحدث، ولا تختلف كثيرًا عن مديحة رغم أن هذه الأخيرة قد واجهت التعذيب والقتل بطريقة بشعة على أيدي العناصر الأمنية الآثمة.

صناعة الأحداث في النسق الروائي

مثلما أشرنا سلفًا بأن الشخصيات في هذه الرواية هي التي صنعت الأحداث، فلولا تمردهم، ومناهضتهم للسلطة الاستبدادية لما شنّت القوات الأمنية هجومها الأول الذي راح ضحيته ستار إضافة إلى أناس آخرين من مجموعات أخرى. وبسبب موت ستار جاءت مديحة لتبثّ في نسق الرواية دماءً جديدة ومغايرة، كما حفّزت جعفر على الوقوع في حبها، والتعلّق بها حتى بعد مقتلها. أما الهجوم الثاني الذي ينطوي على بُعد رمزي فهو هجوم النمل الأحمر الذي اجتاح المدينة من دون أن يقترب إلى مركزها الذي يزدان بالمرقد وقبابه المذهّبة لكنه سينحسر شيئًا فشيئًا بعد أن سبّب أذىً وإزعاجًا كبيرين سواء للمتمردين الذين يتمترسون في المقبرة أو لأهالي النجف والزوار الوافدين إليها من عموم المدن العراقية. بينما يقتصر الهجوم الثالث على القوات العسكرية التي دهمت المقبرة واقتادت العديد من الأسرى الذين سيواجهون مصيرهم المحتوم. وقبل الانعطافة الأخيرة للرواية سينمو إلى سمعنا بأن الهجوم القادم ستنفّذه قطعات الحرس الجمهوري ولا غرابة في أن يتوقع الجميع بأن مذبحة كبيرة تقف على الأبواب. وقد نجح جمال حيدر في اجتراح هذه النهاية المفتوحة وزرعها في ذاكرة القرّاء الذين سيصوغونها بحسب مخيلتهم التي تعرف جيدًا ما يفعله الدكتاتور في سويعات غضبه الهستيري.

غموض الجملة الاستهلالية

لم يُوفَّق جمال حيدر في اجتراح جملة استهلالية تتساوق مع طبيعة الأحداث الجارية في النسق السردي حيث يقول:"كان الوقت يقارب منتصف الليل أو بعده بقليل، حين وصل إلى أسماع الرجال صراخ من بعيد، أعقبة شتائم من العيار الثقيل". وحينما ندقق في تفاصيل هذه الجملة الاستهلالية التي يُفترض أن تكون عتبة نصيّة تساعد القارئ في الولوج إلى الحدث أو تُوحي إليه في أقل تقدير، لكن هذا المفتتح سرعان ما يقودنا إلى حادثة عرضية يضرب فيها محمود شخصًا آخر يعتقد أنه آذى امرأة مومس وتوعّده بمزيد العقاب حتى يكّف عن ملاحقة المومسات، لكن جمال حيدر سينتبه في نهاية الفصل الأول إلى الفكرة التي ينبغي أن يلامسها في الجملة الاستهلالية أو يشير إليها صراحة فجاءت على لسان الراوي على وفق الصيغة الآتية:"غرق الرجال مجددًا في وادي سحيق من الأسئلة. . . أسئلة تحاصر معنى حياتهم، وتدور حول العودة إلى منازلهم، إلى أزمنتهم". وهذه العودة الحميمة سواء للمنزل أو للحياة الطبيعية التي ينبغي أن يعيشها أي إنسان هو ما نجده في الجملة الختامية التي التي صاغها ببراعة وتفرّد تجعلنا لا نتردّد في القول بأنه كان صانعًا ماهرًا في اجتراح الجملة الختامية من معنى الرواية ومغزاها العام حيث يقول:"ثمة شبح ابتسامة حزينة بانت على محيا جميل، أشياء ترتسم في مخيلته. هزّ رأسه راسمًا جملة ظلت مطبوعة على أطراف شفتيه من دون أن ينطقها: سنعود" وهذه الجملة المقتضبة جدًا التي قالها بسين الاستقبال وبضمير الجمع تُوحي بيقينية العودة لإسقاط النظام على يد أبنائه لكن ما حصل هو العكس تمامًا، إذ جاء الأمريكان وأسقطوه بعد أن أيقنوا أن هذا الدكتاتور قد بات نمرًا من ورق ولن يحتاج إلى أكثر من هزّة بسيطة لتُسقطة من قاعدة التمثال التي استقر عليها كرئيس للجمهورية العراقية قرابة 24 سنة. ومع أنّ الفكرة الأساسية تتجسّد في كلمة "سنعود" إلاّ أن الروائي جمال حيدر كان وفيًا لعنوان الرواية الذي شغله لبعض الوقت فارتأى أن يضمّنه في الجملة الأخيرة من النص السردي حيث قال عن الشخصيات الأربع  التي قرّرت الخروج من المقبرة بهويات مزورة حصلوا عليها من بعض المنتفضين الذين سيطروا على دوائر الدولة في النجف وختموها بأختام رسمية وغادروا إلى بغداد:"استقلوا السيارة كغرباء، بعد أن نمت لهم أجنحة واسعة للغاية، وحلقّوا بعيدًا في سماء بعيدة". ولو تأملنا هذه الجملة الختامية لوجدنا فيها وفاءً لعنوان الرواية الذي انطوى على معنىً مجازي يقترب من الرمزية ولا يشتط عنها كثيرًا.

أدب السجون

تنتمي هذه الرواية في جانب منها إلى أدب السجون والمعتقلات في العراق فقد تعرّض جعفر واسماعيل للسجن والتعذيب الأمر الذي دفعهما إلى مقارعة الظلم والدكتاتورية. كما أنّ شخصية مديحة لوحدها كافية لأن تضع هذه الرواية في خانة "أدب السجون" فقد تعرّضت للاستجواب والضرب والتعنيف في منزلها من قبل ضابط القوة الأمنية التي دهمت منزلها وحينما لم تعترف بتهمة نقل الأسلحة إلى المنتفضين في المقبرة تم نقلها إلى مديرية أمن النجف وماتت على أيدي الجلادين. توحي الرواية في العديد من مواضعها بأنّ البلد برمته قد أصبح سجنًا كبيرًا وأنّ شرائح واسعة من المجتمع العراقي قد باتوا أشبه بالرهائن، وقد سكت البعض منهم على مضض، فيما انسحب البعض الآخر إلى الصفوف الخلفية واكتفى بمراقبة ما يحدث من بعيد. لا يمكن لهذه الشخصيات الأربع أن تظل مختبئة في المقبرة إلى الأبد لأن الإنسان يشتاق إلى أسرته، وبيته، وحارته، ومدينته ولايمكن أن يظل متواريًا عن الأنظار، لهذا قرّرت الشخصيات الأربع أن تغادر المقبرة رغم المخاطر الكبيرة التي تتربص بها، فهم ثوار ومنتفضون حملوا السلاح بوجه السلطة الغاشمة ووقفوا ضدها جهارًا نهارًا ومع ذلك فقد تسربوا من ليل المقبرة المعتم واختلطوا بعامة الناس وتوجهوا صوب العاصمة محلّقين مثل الطيور المهاجرة التي تحنّ للعودة إلى أعشاشها الأولى.

يمكن اعتبار هذه الرواية تحريضية كما أشرنا لأن جميع أبطالها قد ساهموا في كسر حاجز الخوف، وكان البعض منهم يسعى لتحطيمه نهائيًا، فقد تحدى عبود وزوجته أميرة شيخ العشيرة وواجهوه بطريقة لم يألفها من قبل، كما تحدّت مديحة السلطات الأمنية وقامت بما لم يقم به الكثير من الرجال ودفعت حياتها ثمنًا لهذه المقارعة الشرسة مع السلطة الاستبدادية.

تجليات اللغة السحرية

يتمتع الروائي جمال حيدر بأسلوب شاعري شديد العذوبة تعززه في ذلك سلاسته السردية التي تتوهج في مواضع عديدة من الرواية وسأكتفي بالإشارة إلى تجلياته الحُلُمية على وجه التحديد فهي تعينه على صياغة جمل فنطازية تُحاذي الجمل الشعرية أو تنبثق منها. يقول جمال حيدر في تموجات الفصل الخامس وانثيالاته ما يؤكد نزعته الأسلوبية الأخاذة:" في إغفاءات مسروقة يحلم جعفر أنه يرسمُ زورقًا ويبحرُ بعيدًا ليسابق الريح، يرسم قمرًا ويقضم قطعة منه ثم يرميها للنوارس البيضاء، يرسم بخورًا ثم يُوقده ويوّزعه على زوايا الأرض، يرسم علبة ملونة يجمع فيها الأماني ويرميها في لجة بحر هائج". لو وضعنا التوهج اللغوي جانبًا فإن الصور الشعرية التي ابتدعها الروائي وما تنطوي عليه من مخيّلة مجنحة كافية لوحدها لأن تضعه في مصاف شعراء الخط الأول الذين يرصّعون الكلام ترصيعًا ويأخذون القارئ من المنطقة النمطية الرتيبة إلى منطقة الأحلام التي تبرق فيها الكلمات مثل ألعاب نارية متوهجة عصيّة على الانطفاء.

جمال حيدر كاتب متعدد الاهتمامات، وقد عرفناه ناقدًا أدبيًّا، ومترجمًا، وكاتبًا في أدب الرحلات وقد أصدر العديد من الكتب نذكر منها "بغداد في حداثة الستينات"، "المعنى والظل في الأدب والفنون والمعرفة"، "الغجر... ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب". كما ترجم عن اليونانية مجموعتي "الصيف الأخير" و "إيروتيكا" ليانيس ريتسوس، إضافة إلى ترجمة "المجلد الرابع" من أعمال ريتسوس الكاملة بالاشتراك مع الشاعر عبدالكريم كَاصد. وها نحن اليوم نعرف جمال حيدر روائيًا مُلمًا بصنعة الرواية واشتراطاتها الفنية التي تراهن على الأصالة والمصداقية والإبداع.

 

قراءة: عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم