صحيفة المثقف

مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (20): جوزيف شومپـيتر

مصدق الحبيبJoseph Schumpeter

(1883 – 1950)


هو الاقتصادي النمساوي الشهير الذي لم يكن احد اقطاب المدرسة النمساوية في الاقتصاد لانه اختط لنفسه دربا لم يسلكه احد غيره،  فاصبح بذلك من اشهر اقتصاديي القرن العشرين.

ولد جوزيف ألويس شومپيتر عام 1883 في مقاطعة مورافيا النمسو-هنگارية الواقعة الآن ضمن ما سمي بجمهورية الچيك. کان والده يملك مصنعا للنسيج لكنه توفي عام 1887 فبقي جوزيف ذو الاربع سنوات يتيما لحين زواج والدته عام 1893 من ضابط كبير في الجيش النمسو-هنكاري وانتقالها معه الى فيينا ليعينها على تربية ابنها . وفعلا اهتم به زوج والدته فادخله احسن مدارس فيينا واخذ بيده لحين دخوله الجامعة. في جامعة فيينا درس شومبيتر القانون والاقتصاد وتتلمذ على يد يوجين بوم بافرك وفريدريش مايزر واستطاع ان يكمل الدكتوراه عام 1906 وهو بسن 23 عاما.  في عام 1907 تزوج من گلاديس ريكاردي،  وهي ابنة رجل دين انگليزية وتكبره بتسع سنوات. وفي نفس العام حصل على وظيفة استشارية في مؤسسة قانونية ايطالية تعمل في القاهرة فسافر مع زوجته وامضيا سنتين في مصر انشغل خلالهما بالبحث فأكمل دراستة عن طرق البحث الاقتصادي. في عام 1909 عاد الى النمسا وحصل على عمل استاذ مساعد في جامعة Czernowitz التي انجز فيها كتابه المهم عن التنمية الاقتصادية ونشره عام 1911 والذي قدم فيه رؤيته الرائدة عن دور واهمية ظاهرة المقاولات الاقتصادية Entrepreneurship. ولأنه لم يرق له العيش في منطقة الجامعة ، انتقل الى جامعة Graz بعد نشر كتابه وشيوع اسمه. عمل في جامعة گراز لمدة سنتين اضطلع اثناءهما بحمل ثقيل من الدروس، الامر الذي ارهقه ودعاه ان يفتش عن فرص اخرى،  فوجد فرصة الذهاب الى الولايات المتحدة كاستاذ زائر في جامعة كولومبيا في نيويورك لمدة سنة واحدة 1913-1914.

عند انتهاء مهمته في جامعة كولومبيا وحلول عودته الى وطنه، كانت الحرب العالمية الاولى قد اندلعت في اوربا فرفضت زوجته العودة الى النمسا خلال اجواء الحرب الملتهبة واصرت على العودة الى اهلها في بريطانيا وتركته يعود للنمسا وحيدا، فكان ذلك بدء الانفصال بينهما الذي دام ستة اعوام وانتهى رسميا بالطلاق عام 1920.

2594 جوزيف شومپـيتر أربع سنوات من الحرب انتهت عام 1918 وأدت الى ان تكون اليد العليا في السياسة للاشتراكيين في النمسا وألمانيا، حيث ذهب شومبيتر الى برلين ليلتحق باللجنة الاشتراكية العليا لوضع خطوات التحول الى الاقتصاد الاشتراكي ونتيجة لذلك اصبح وزيرا للمالية عام 1919 لكن الصراع الفكري حول كيفية تطبيق الاشتراكية كان قد احتدم بينه وبين كبير الاشتراكيين أوتو باور  Otto Bauer مما ادى بعد فترة وجيزة الى اقالة شومبيتر وشيوع الفوضى وفشل التجربة الاشتراكية في النمسا والمانيا وهي مازالت في رحمها.

بعد هذه التجربة المريرة في اروقة الحكومة قبل شومبيتر عرضا ليصبح مديرا عاما لمصرف بايدرمن التجاري في فيينا، لكنه عاد الى التدريس عام 1925 وهذه المرة في جامعة بون.  في عام 1931 سافر الى اليابان كاستاذ زائر في كلية تجارة طوكيو لمدة سنة واحدة، وفي عام 1932 هاجر الى الولايات المتحدة ليصبح استاذا للاقتصاد في جامعة هارفرد،  كان في ذلك محظوظا لحدوث هجرته قبل صعود هتلر الى قمة السلطة في بلاده عام 1933.

فی هارفرد بدأ شومبيتر بعصر جديد من الشهرة والتألق فكان زميلا لاشهر الاقتصاديين آنذاك واستاذا للطلاب الذين اصبحوا فيما بعد من المع الاقتصاديين. من زملاءه كان وسلي ليونيتيف وبول سويزي وجان گالبريث، ومن طلابه كان بول سامويلسن وروبرت سولو وجيمس توبن وروبرت هليبرونر ولويد متزلر وآخرون. في عام 1937 أسس مع زملاء آخرين جمعية الاقتصاد القياسي التي انتخب رئيسا اولا لها للفترة 1937-1941، كما اصبح في عام 1948 رئيسا لجمعية الاقتصاديين الامريكيين. استقر شومبيتر كاستاذ في هارفرد لغاية تقاعده عام 1949 ثم وفاته عام 1950. من بين العديد ما نشر شومبيتر اثناء عمله في هارفرد كانت ثلاثة كتب التي احتوت على مجمل مساهماته في الفكر الاقتصادي: الاول كان عام 1939 عن الدورة الاقتصادية، والثاني وهو الاهم من بين جميع ماكتب هو "الرأسمالية، الاشتراكية، والديمقراطية" عام 1942، والثالث الذي يعتبره اغلب النقاد اوسع واشمل كتاب عن تاريخ الفكر الاقتصادي الذي لم يتمكن من اكماله قبل وفاته، فاكملته زوجته الثالثة والاخيرة إليزابيث بوودي، وهي استاذة في هارفرد ايضا. نشر هذا الكتاب بعد مرور اربع سنوات على وفاته، أي عام 1954، وقد جاء بنحو 1500 صفحة.

تذكر الوثائق بأنه عند اندلاع الحرب العالمية الثانية كان شومبيتر وزوجته، وكلاهما استاذا في هارفرد قد استدعيا للتحقيق من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي من اجل اختبار فيما اذا كان لديهما اي ميول نازية. وقد اختتم التحقيق بان المحققين لم يجدوا اي دليل او اشارة على ذلك.

من اشهر ماعرف به شومبيتر كاقتصادي رأسمالي هو تنبؤه بنهاية النظام الرأسمالي، الفكرة الصادمة التي وردت في كتابه الاشهر "الرأسمالية، الاشتراكية، والديمقراطية المذكور اعلاه.  على ان فكرة موت النظام الرأسمالي لدى شومبيتر تختلف تماما عن الانهيار الثوري الذي تنبأ به ماركس حيث ان النظام يحمل اسباب موته في رحمه فيتآكل من الداخل بازدياد الاستغلال الطبقي ويسقط  في نهاية المطاف على يد اكثر الخاسرين في المجتمع وهم الطبقة البروليتارية التي تقاسي الظلم والاجحاف. كانت رؤية شومبيتر قائمة تماما على العكس، فقد اعتقد ان النظام الرأسمالي سينتهي بنجاحه وازدهاره الذي سيقوده الى مرحلة اخرى جديدة اكثر تطورا تنشأ على انقاض المرحلة السابقة، والتي هي الاخرى ستستمر بالازدهار فتهئ الى المرحلة الافضل التي تليها، وهكذا كان تصوره للنظام الرأسمالي بكونه محكوما بالتحولات الدائمة Evolutionary أي بما يشبه فكرة التطور والارتقاء. وعلى عكس ماركس الذي اناط مهمة انهاء النظام الرأسمالي بطبقة العمال المستغَـلين، فان شومبيتر اعتقد ان طبقة المثقفين والمفكرين والعلماء هي المؤهلة لاحداث وقيادة مسيرة التطور التي تتمحور على التقدم التكنولوجي والتنوير الفكري. اذ ان هذه الطبقة ، كونها تملك الادراك العالي والمسؤولية الاخلاقية، ستضيق ذرعا بمساوئ الرأسمالية الاقتصادية والاجتماعية المزمنة، وتنفر من سفاسف البرجوازية وتركيز الملكية الخاصة، وهي الطبقة التي تنزع عموما الى المساواة والرفاه والعدالة الاجتماعية  وتطمح الى الادارة الذاتية في المصانع والمؤسسات والى قوانين منصفة للاجور، فلا تذرف دمعا على انهاء الاستغلال والجشع والثراء الفاحش الذي يتعايش مع الفاقة والبؤس.

ترتبط هذه الرؤيا ارتباطا وثيق الصلة بثلاثة مفاهيم شومبيترية رائدة هي:

-  دور واهمية المقاول الاقتصادي Entrepreneur ونظام المقاولات  Entrepreneurship في العملية الانتاجية.

- الابتكار والتجديد  Innovation

- التدمير الخلاق Creative Destruction

المقاول الاقتصادي ونظام المقاولات:

لم يكن شومبيتر الاول الذي صاغ مصطلح المقاول لكن الفضل يعود اليه في تسليط الضوء على هذا العامل واعادته الى الاذهان والاشارة الى اهميته المركزية في العملية الانتاجية والنشاط الاقتصادي بعد ان توارى واندثر استخدامه منذ الادبيات الاقتصادية الاولى في بداية القرن التاسع عشر. مصطلح الـ entrepreneur  فرنسي ويعود استخدامه الى جان بابتيست سي ويقصد به الشخص أو الوكيل الذي يمتلك فكرة انتاج سلعة او خدمة معينة والقادر على التأكد من صلاحيتها للانتاج والتسويق وقابليتها على سد طلب المستهلك وضمان هامش من الربح للمنتج. ومن اجل ذلك يقوم بتأمين تمويل هذا المشروع الانتاجي وتهيئة عناصر الانتاج وتنظيمها، والشروع بعملية الانتاج، ولا ينتهي دوره الا برؤية الانتاج الفعلي. عندذاك ينصرف الى تنفيذ فكرة انتاجية اخرى. فبالتلخيص هو العامل القادر على تحويل الافكار الى منتجات حقيقية وخدمات فعلية تطرح في السوق ويستفيد منها المنتج والمستهلك.

وبموجب ذلك فنظام المقاولة Entrepreneurship  هو النظام الذي يخلق القيمة الاقتصادية عبر تحويل افكار الاستثمار الى مشاريع تجارية فعلية مربحة. أدرك شومبيتر اكثر من أي اقتصادي في زمنه بأن المقاول ونظام المقاولة يشكلان حجر الزاوية في عملية الانتاج الرأسمالية، ومنهما يبدأ الابتكار والاستثمار والنمو الاقتصادي.

الابتكار والتجديد:

ربما كان شومبيتر أول من ميز بين مفهومي الاختراع أو الاكتشاف Invention ومفهوم الابتكار والتجديد  Innovation في كتابه الاول حول نظرية التنمية الاقتصادية المنشور عام 1911.  فالاختراع او الاكتشاف ينطوي على خلق او استنباط شئ جديد، سلعة أو خدمة أو طريقة ، أما من اجل سد حاجة معينة او لزيادة كفاءة الانتاج عن طريق تحسين نوعية المنتجات أو تقليل كلفتها بالمواد والمال والجهود والوقت. أما الابتكار والتجديد فهو تطبيق تلك المخترعات والاكتشافات عمليا وتنفيذها بطريقة اقتصادية وجعلها قيد الاستعمال التجاري وتوفيرها للمستهلك. بعبارة اخرى تحقيق الفائدة الاستعمالية منها. وإلا فلا تعني اكبر واجمل الاختراعات شيئا اذا بقيت اسيرة في صفحات الكتب واروقة المختبرات وورشات العمل. فما فائدة اكتشاف التيار الكهربائي واختراع المصباح مالم يكن بالامكان كهربة البيوت والشوارع والمصانع وجعل فوائد الكهرباء المتعددة بمتناول الناس؟  على ان مفهوم الابتكار والتجديد هو من المفاهيم الفاعلة على المدى الطويل ونجاحه يعتمد على ركيزتين اساسيتين: 1)توفر الطلب الكافي المستدام و 2) توفر امكانيات تقليص الكلف المتزايدة، وذلك يعني ضرورة توفر المنافسة الكاملة. وبذا فقد كان شومبيتر من أشد انصار المنافسة الحرة الكاملة التي تسمح بالحصول على افضل مايمكن من نتائج

يعتقد شومبيتر ان المقاول الاقتصادي هو الذي يطلق شرارة الانتاج فيما يتمحور النمو الاقتصادي برمته حول ظاهرة الابتكار والتجديد عبر سلسلة الاستثمارات المتكررة والمتجددة والتي توسع معها دائرة النشاط الاقتصادي وتخلق السوق التي تستوعبها.

التدمير الخلاّق:

صاغ شومبيتر هذه الفكرة التي قد تبدو صادمة في كتابه المنشور عام 1942  والذي تضمن صلب مساهماته في الفكر الاقتصادي. يعتقد شومبيتر ان النمو الاقتصادي ليس عملية تدريجية سلسة تجري بمسار خطي، انما هي عملية معقدة لتفككها وتباين اجزائها وعناصرها. وفي النظام الرأسمالي، حيث السعي المحموم لاكتساب الربح والسباق التنافسي نحو ايجاد الفرص الجديدة للاستثمار، يؤدي ذلك الحال الى ما سماه بالتدمير الخلاق الذي يعني ضرورة تفكيك وازالة طرق ووسائل الانتاج القديمة وفسح المجال لما هو اكثر تطورا واكثر استجابة لحاجة السوق التي هي الاخرى متجددة. ولايقتصر ذلك على التخلص من وسائل الانتاج المتقادمة واستبدالها بأحسن منها ، انما يشمل مايتبع ذلك من خزين الادوات والمنتجات وطرق تخزينها وادامتها فتتجدد التكنولوجيا ومعها تتجدد الافكار والمواقف والتطلعات وبذلك سيكون النظام قد نزع ثوبه العام ولبس ثوبا جديدا كما تخلع الافعى جلدها القديم لتظهر بجلد اكثر نظارة وحيوية، وهذا هو المقصود بالتدمير الخلاق ذلك انه ينطوي على جدلية الهدم والبناء المستمرة. ولأن الهدم يحدث تحت حاجة وضرورة تشييد البناء اللاحق الافضل فهو هدم بنّاء. وهذه الفكرة هي التي بنى عليها شومبيتر رؤاه حول نهاية الرأسمالية، وهي بهذا المنطق ليست نهاية ابدية، انما نهاية طور والبدء بطور آخر جديد.

بناءً على ذلك فان مصطلح النمو الاقتصادي الشومبيتري Schumpeterian Growth يعني نظام النمو الاقتصادي القائم على الابتكار والابداع والنزوع الى التحديث البناء الذي يؤول الى زيادة كمية ونوعية الانتاج السلعي والخدمي وتقليل الكلفة واعادة توزيع الثروة والاستغلال الامثل للموارد الاقتصادية.

ولد شومبيتر في نفس السنة التي ولد فيها كينز وتوفى بعد وفاة كينز بأربع سنوات! اي انه عاصره على طول الخط ونافسه منافسة شديدة. لكن سطوع نجم كينز ألقى بظلاله على ماقاله وكتبه شومبيتر حينذاك ولم تستوف افكار شومبيتر حقها من الانتباه والاهتمام إلا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. أختلف شومبيتر مع اغلب طروحات كينز إلا ان اهم ما اختلفا عليه كان في أمرين: الاول هو التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي واتخاذ السياسات النقدية والمالية كأدوات للسيطرة على التضخم وسعر الفائدة وادامة النمو الاقتصادي. عارض شومبيتر هذه الاطروحة الكينزية الرئيسية معارضة شديدة واعتبر تدخل الدولة المسبب الرئيس للتضخم. الامر الثاني هو التوازن الاقتصادي المستقر الذي اعتبره كينز دليل على صحة الاقتصاد وتعافيه، فيما يعتقد شومبيتر ان الابتكار والتجديد، وليس التوازن المستقر، هو الذي يؤشر حيوية وصحة النظام الاقتصادي. هذا وقد عرف عن شومبيتر تقاطع افكاره مع زملاء آخرين مثل مايسز وهايك من المدرسة النمساوية، اضافة لكونه معروفا كمناوئ للماركسية والنظم الشيوعية التي يعتبرها قاب قوسين او ادنى من الدكتاتورية. يقول بعض النقاد ان شومبيتر كان متأثرا بافكار المدرسة التاريخية في الاقتصاد وعلى الخصوص كتابات شمولر Schmoller وسومبارت Sombart. كما انه يبدو قد اخذ بعضا من افكار الاقتصادي الروسي كوندراتيف    Kondratievفي صياغة رؤيته للدورة الاقتصادية طويلة الامد ، رغم ان شومبيتر اعتبر ظاهرة الابتكار والتجديد هي التي تقود لحدوث الدورة الاقتصادية بهبوط وصعود النشاط الاقتصادي عندما يحين الوقت للاستثمارات الجديدة وحسب حدس وتقدير المقاولين الاقتصاديين.

كان شومبيتر رجلا صارما عنيدا معتدا بنفسه الى ابعد الحدود. وقد تداولت بعض المصادر حكاية طريفة  جاءت عن لسانه قد تلقي بعض الضوء على طبيعة شخصيته: فقد صرح يوما بأنه كان قد وضع ثلاثة اهداف كبرى في حياته: الاول ان يصبح اعظم اقتصادي في العالم، والثاني أن يصبح اعظم فرسان النمسا، والثالث ان يصبح اعظم حبيب في فيينا. وقد تبع ذلك بقوله انه تمكن من تحقيق هدفين من هذه الثلاثة، لكنه لم يشخصهما! الا انه اردف قائلا ان النمسا فيها فرسان كبار لايمكن الفوز ضدهم!

 

ا. د. مصدق الحبيب 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم