صحيفة المثقف

عقيل هاشم: كتاب السماوة في القرن العشرين للاديب زيد الشهيد

عقيل هاشمالسماوة .. كتابُ مدينة:

أيتها البدوية الدافعة ساقيها

في خضيب النقاء

خذي مني فضاء النخيل

وانهضي !

أيها الفضاء ُ لقلبي: مَرِّر أصابعَك الضارية َ

على أديم وجهي

وانحتني بارقة ً لبدوية ٍ تحلم بالحنّاء

وترقد على وسادة ٍ من مدينة !

 ذات مساء أصبح الحكواتي الصعير شغوفا بالغروب ينتظره كل يوم بفارغ الصبر ليحدثه الحكواتي الشيخ عن مدينته الغارقة بالجمال  .تمر الأيام والشهور ويغيب الشيخ، فقرر ان يكون هو الحكواتي ليسرد الحكايات وبامعان محاورة بين الماضي التليد والحاضر المجيد .ياسادة ياكرام كان النهار يحدث الشمس وصوت الشيخ كأنه يتهادى إلى مسامعه وهو يحثه على اكمال مابدا.

السماوة  ذبالة ضوء النهار تغفو قليلا في حضن الغروب، فيفزع عن يومه المبلل غبش الصبح  ومن عرق الناس تدون الذكريات . فيهرع قرص الشمس الساقط خلف الأفق يمسد شعر النهار، يحدثه عن حكاياته المعهودة لينام دون ضجيج،  الليل يسدل رواقه على كل شيء، يعود الحكواتي إلى مجلسه، يستقبله الناس وتبدأ الحكاية..

الكتابة عن المدن هي الفكرة الأكثر غواية بالنسبة للباحث والأكثر صعوبة، الباحث يحتاج الى  مخيلة من الصور  الدقيقة وحفريات من حقائق واضحة تماما وعندما تفقد جلها تصبح وكانك تبحث عن وجوه بلا ملامح، وعيون تلمع في الظلام  . الكلمة بالنسبة للباحث لها وقعها في النفس  تمر لتحدث صخبا مؤلما وهلعا في مرورها، لها طعم غريب، غير مألوف ورائحة لا أحد يعرفها، لكن الباحث  الوحيد من يستطيع أن يرى نفسه بداخلها،

وهنا اقول يعد جهد الأستاذ زيد الشهيد التوثيقي هذا من الأعمال المهمة تاريخياً في  رصد وتوثيق المسكوت عنه من ثقافة السماوة، فدونها بشغف ذكريات من الوعي الثقافي لابناء هذه المدينة وجمال بناءاتها المعمارية في مجموعة من الكتب شعرا ونثرا وريما راحت تنهال كالسيل حتى راحت تعد ب 25 كتابا، فتوقظ في نفسه آلاف الذكريات،فكل حجر وكل منعطف من النهر وكل زاوية منها تحيل الصورة الصامتة الى حكايا واسرار. فيحدثنا الباحث عن التنشئة الاولى ثم حضورها أثناء الاحتلال  والى العهد الملكيوووالخ  الى حاضرها المشحون بالتحولات الفكرية والعمرانية وقد وثق ذلك بالصورة الفوتغرافية النادرة في نهاية الكتاب . وقد بدا الكتاب وكانه سيرة حياة للمدينة حتى بدات أكثر ألفة وقرباً إلى روحه ، شب معها وتنفس عبيرها ووجد نفسه مشتاقاً للنهر يغمر فيه قدميه الملتهبتين ليطفئ النار التي تشتعل في دمه .ذلك الطفل الحالم المتأمل قرص الشمس المنحدر ساعة أفوله. والنزق بملاحقة السحب الكثيفة التي تمر في سماء المدينة بأشكال ورسومات مختلفة.

الاديب والباحث زيد الشهيد في هذه المدونة  رسم الحدود الجغرافية للسماوة  موثِّقاً مدينته الجميلة التي تحتضن الصحراء مطلة على (بصيّة) وحوافها، متساوقة مع قضاء السلمان الذي يقع في قلب البادية، ليشير ضلعها الجنوبي بسهم نادر إلى قضاء (الخضر)، بوابة مركز محافظة المثنى؛ السماوة. قدم لنا زيد الشهيد دراسة ميدانية ممنهجة عن مدينته الفخور بتاريخها السياسي وبعطائها المتنوع في الفكر والحياة والتصاقها الواضح بحركة البناء الجديدة في عراق اليوم.

 الفصل الأول من الكتاب الذي نقرأ فيه مقدمة تاريخية عن العراق منذ العهود القديمة حتى نهاية الحكم العثماني الذي سرق خيرات البلاد سنوات طوالاً استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى دون أن يترك، عندما غادر العراق، سوى جادة خليل باشا المتربة في بغداد.

أليس.. اسمها القديم عرفت السماوة قبل الإسلام باسم (أليس)، وقد اتخذتها الجيوش الإسلامية محطة استراحة ولتجميع المقاتلين تحت نخلاتها الوارفة، وكانت مقاماً للمثنى بن حارثة الشيباني .في العهد العثماني أشير إلى السماوة بوثيقة دُوِّنت عام1492م تصفها بأنها قرية زراعية تقع على نهر العطشان، ووجدها الرحّالة الألماني عام 1765م مدينة مبنية من الطين وفي باديتها ملح كثير.

عند استقلال العراق عام 1921م تطلَّب الأمر عاماً كاملاً لإحلال اللغة العربية لغة رسمية بدل التركية في المخاطبات الرسمية ودوائر (الطابو).

يشير زيد الشهيد إلى قوة الحكم المحلي الصارمة الفاسدة من حيث الرشوة وفرض الإتاوات كما هو الأمر في العهد العثماني، إضافة إلى وجود (الشقاة) في المدينة وخارجها. وينقل المؤلف عن مذكرات عبد العزيز القصاب، أنه جاء إلى السماوة قائممقاماً عام 1909م ووجد المدينة تعيش ضائقة اقتصادية بسبب نقص المواد الغذائية.

عن معاني أخرى للحياة، في السوق أناس مشتولون في كسب الرزق، يفعلونها دون التفاتة لقيم الحداثة المزيفة. إن إنسان ابن السماوة  طليق المدن وبانيها بذائقته لا يحتاج إلى قاموس من الاصطلاحات التجارية.. فلا رغبة عنده في تحسين جودة بضائعه.. ولا ضرورة البتة في المناداة عليها بصوت عال، فالمنافسة هنا محكومة بالمزاج المُرقم لكل مستهلك.. فالجميع يختارون جهدهم في كسب الرزق دون منازعة.. ولا خوف حتى من السلطة.

يشير المؤلف إلى أن السماوة كانت تعاني أيامها من غزوات الإخوان الوهابيين وخطفهم الإبل وقت الربيع وسلب الحلال في فصول خضرة الأرض من الرعاة المحليين في (بصيّة) وسواها، حتى الوصول إلى سور المدينة المتداعي، فضلاً عن النزاع الداخلي القبلي بين الشيخ (رباط السلمان) شيخ الجانب الغربي والسيد (طفار جعفر) شيخ الجانب الشرقي، إضافة إلى موسم الفيضان الذي استمر سنوات منها سنة 1918م التي هلكت فيها المواشي وانهارت البيوت الطينية الضعيفة الأسس والأكواخ وقُلعت سكة القطار وصار التنقل بالسيارات هو الأساس ولمسافات قريبة.

كما يروي المؤلف وقائع هجوم الجراد الأصفر على المدينة وهوس الأطفال بشرائه مسلوقاً، كما يشير إلى انعدام الماء العذب في البيوت بحيث تضطر النسوة إلى الحصول على الماء من الفرات وهن يحملن (المصاخن) والقدور حتى عام 1954م حين استطاع الميرزا حسن عضو المجلس البلدي توفير المياه الصافية.

كانت دور الوجهاء والموظفين قبل تشكيل أنابيب المياه العذبة تستعين بالسقّاء لإيصال الماء من النهر بأجر معلوم، وكانت شوارع المدينة تنار بالفوانيس النفطية ليلاً لعدم وجود الكهرباء في المدينة.

في منتصف خمسينيات القرن الماضي قامت أسرة (الإمامي) بنصب ماكنة كهرباء في ملك لهم قرب الجسر القديم كان موقعها على يسار خان شاكر الإمامي، ثم اشترتها الدولة منهم بعد هذا لتأمين بعض احتياجات المدينة حتى تم الربط الكهربائي الموحد مطلع سبعينيات القرن العشرين.

الأوائل

أول مدرسة رسمية وجدت كانت عام 1922م، وقد اقتصرت على الصفوف الأربعة الأولى، ساهم في بنائها المتنورون من عائلات (الإماميين) و(آل قدوري) و(الدهان) و(آل سعيد)، وهي مدرسة المنصور.

افتتحت أول مدرسة ابتدائية متكاملة في (عكد النجارين)، ثم شطرت المدرسة إلى مدرستين عام 1947م هما (هارون الرشيد) ومديرها خضر الشيخ محمد ومدرسة (المأمون) ومديرها عبد الرضا الغرّة.

وأذكر بهذه المناسبة أن المدرسة الموحدة كانت حتى عام 1946م بإدارة والدي (عبد الحميد حمودي) قبيل نقله مديراً إلى مدرسة (أبي صخير) ذلك العام.

كنت طالباً في الصف الثاني الابتدائي قبل نقلنا، وكان المعاون هو الأستاذ خضر، ومعلم الرياضة والصف الأول الابتدائي أستاذنا شمخي جبر، الشهير بمهاراته الرياضية المتعددة، ومن معلمينا السادة: عبد الأمير أستاذ الجغرافيا، وزيّا معلم الرياضيات، والمعلم كرجي أستاذ الطبيعيات، وكانت والدة كرجي اليهودي صديقة لجارتها الحاجة زوجة الحاج علي مصيوي وجارتها أم حميد، وهي جدتي الأثيرة، وقد كنا نستأجر الدار المجاورة لبيت الحاج علي مصيوي المطلة على البستان.

أول مدرسة للبنات هي مدرسة (خديجة الكبرى) منتصف الخمسينيات، وقد افتتحت متوسطة السماوة للبنين عام 1947م وصارت ثانوية متكاملة عام 1950-1951م.

أول سينما هي (سينما عبد الإله) عام 1948م بناها وأشرف على عملها عبد الرزاق الإمامي على الرغم من معارضة الاتجاه المحافظ في المدينة، وقد أبدل اسمها إلى (سينما الشعب) بعد ثورة 14 تموز1958.

أول محافظ للسماوة، التي عرفت لاحقاً باسم (محافظة المثنى)، هو عادل عبد الغني، وقد أعلنت في 30 تشرين الثاني 1969م منفصلة عن محافظة الديوانية (القادسية) وضمت أقضية السماوة والخضر والسلمان ونواحيها.

الحرب والتضييق على الحريات

يأخذنا المؤلف في جولة تاريخية عن الحركة الوطنية في السماوة وتظاهرات رجالها في انتفاضتي 1952 و1956م، ودور الحرب العراقية الإيرانية في التجويع والعنف وقطع الأرزاق والآذان! بل إعدام السلطة الهاربين الذي ملّوا حرباً طويلة لا مخرج منها.

وشويّة شويّة لبربوتي!

يستعيد المؤلف ذكرى ثورة العشرين، وقبلها حركة المجاهد الكبير السيد محمد سعيد الحبوبي، التي انطلقت من النجف الأشرف إلى الشعيبة لمواجهة القوات البريطانية الغازية أثناء الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى تجمع العشائر الفراتية وقوات الشيخ هادي المكوطر وصحبه والقوات الكردية بزعامة الشيخ أحمد البزرنجي قرب جسر بربوتي، إذ كان الشيخ بربوتي السلمان يشرف على توزيع الطعام والماء للقوات المتجمعة تمهيداً لانطلاقها إلى الشعيبة .

هنا انطلق صوت المهوال يردد: (ثلثين الجنّة لهادينا) والمقصود الشيخ المكوطر، وهنا صاح المهوال الثاني: (وثلث لشيخ أحمد واكراده) فغضب الشيخ بربوتي الذي أضاف ومنح وتعب، فصاح المهوال: (وشويّة شويّة لبربوتي)، فابتسم بربوتي السلمان وهو يدرك أن لا أحد يستطيع تقسيم جنة الله، لكنها الذكرى الحسنة التي يستحق.

حروب ودفاتر حكم وانقلابات

قبل دخول العراق الحرب العالمية الثانية كانت عواطف شباب السماوة ومفكريها تنقسم بين ثلاثة اتجاهات؛ الأول هو تأييد المعسكر الاشتراكي، والثاني هو تأييد هتلر الزعيم الألماني النازي، والثالث هو الاتجاه الوطني العام إضافة إلى الاتجاه القومي. وعند اندحار الفاشية بدأت الدول العربية تبحث عن استحقاقاتها من الحلفاء الذين لم يعطونا شيئاً يذكر، بل كبلوا الدول العربية بمعاهدات جائرة أدت إلى انتفاضات متعددة وثورات منحت نوعاً من الاستقلال الوطني ولكن على حساب التماسك المجتمعي، إذ كان للديمقراطية المطلوبة وقودها في السماوة وسواها من مدن العراق، وقد اعتقل وقتل المئات من الشيوعيين نتيجة انقلابي البعث عامي 1963-1968م وصولاً إلى حربي الخليج الأولى والثانية.

واليوم صباحات السماوة تحمل في جنباتها ضجيج ماتع، قهقهات الأطفال المرتفعة، زحام الخطوات الذاهبة والقادمة، عطر الصبايا الذي يشق صدر الأزقة، رائحة القهوة الصاعدة من النوافذ، صباح يحاول رسم خارطة مختلفة.

الكتاب كتب بمداد كلمات شاعر عاشق لمدينته البكر هي بوابة يعبر منها الودّ عذبا فراتا، ويتدفق منها الحنو فيتغلغل في زوايا الأرواح، فتبرد معه نيرانها، وتتعلق العيون بالقادمِين اليها .السماوة مدينة السلام،  تفتح قلبها قبل ذراعيها  للاخرين،في السماوة الطيبةِ، الناس كالجسدِ الواحدِ، إذا اشتكى منه عضو، وفي أوقاتِ الشِّدةِ والافراح  وفية هكذا تربى الناس هنا  على الوفاء والكرم العربي فلا تكفي الكلمات المجردة عن التعبير عما يشعر أصحابها من فرح اوحزن، بل تتعداها لمظاهرٍ أخرى أكثر ألفة وحميمية  .

 

قراءة عقيل هاشم

..............................

*عن دار مسامير للطباعة والنشر صدرت للكاتب زيد الشهيد كتابَه الجديد (السماوة في القرن العشرين) متناولاً عبر الصفحات التي بلغت 250 صفحة كلَّ ما يخص مدينةَ السماوة طيلة قرنٍ كامل. فمر على تاريخ المدينة خلال العقود العشرة، مسلطاً الضوء على  السماوة بأمكنتِها (الاحياء، الازقة، الشوارع، وما تضم)، ومتناولاً الاحداث التي مرت بها ابتداءً من العهد العثماني، فالملكي، فالجمهوري… وجاء الكتاب الذي حوى ستة فصول ليكون الاول في تفاصيله، حيث سلط الضوء التاريخي على السماوة فلم يغفل ما هو ضروري يؤرخ للمدينة، ويقدمها للأجيال الحالية التي لم تكن قد عهدت نشوؤها كمدينة صغيرة شرعت تكبر مع تقادم الاعوام، مثلما يقدمها للأجيال القادمة كمادة تاريخية سيكونون بحاجة ماسة لها حين يرغبون في تناولها.

ويذكر ان زيد الشهيد اصدر ما يزيد على 25 مؤلَّفاً تناولت الرواية والقصة والشعر والترجمة والنقد الادبي.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم