صحيفة المثقف

الاله في الأديان القديمة في الشرق الأدنى (1-11)

اياد الزهيري (البوذية، التاوية، الكنفوشيوسية)

من المعروف تاريخياً أنه يوجد عدد لا يحصى من الآلهة تعبدت فيها شعوب بلدان جنوب شرق آسيا بالأضافة الى الصين واليابان ومنغوليا، حيث يوجد في معتقداتهم  اله لكل ظاهرة كونية، وأن مقام كل اله في السلم الهرمي للآلهه يتحدد حسب وظيفة كل اله، كما أن هناك آلهه يرجع أصلها الى الأسلاف، حيث أكتسبوا درجة الألوهية بسبب ما قاموا به من أعمال عظيمة وكبيرة، وأن هذه الالهه المتعددة، هي بالحقيقة تجلي لروح السماء، وقد وصف (والتر ميدهورست) (1796-1857) هذه الحالة مانصه (السماء العليا هي سيد لمئات الأرباب). ومن الألهه القديمة لديهم مثل (تيان) و(شانغدي) (الاله العظيم)، وتاي (العظيم الوحداني) وتياندي (اله السماء) أو أمبراطور  السماء، وتيانجو (رب السماء)، وتيانههوانغ (ملك السماء)، ولوتانيا (الأب السماوي القديم) وهناك الكثير الكثير من الالهة ولكنها بالحقيقة تعبير عن اله السماء ولكن بأسماء مختله، ولكني أردت أن أحصر الموضوع الذي نحن بصدده في ثلاث أديان رئيسية، وهي البوذيه والتاويه والكونفوشيوسية بأعتبارها هي الأكثر أنتشاراً،  ومعتنقيها الأكثر عدداً والتي لا زال لها وجود ومريدين لحد الان، كما أن  أحدهم وهي الكنفوشيوسية  لم يكن لها مريدين كديانة ولكن لها من البصمة الواضحة على الحياة الثقافيه خاصةً في الصين، وهناك الكثير من الأخلاقيات والممارسات الثقافيه والعادات والتقاليد في حياة هذه الشعوب،تنتمي بأصلها للكنفوشيوسية .

نتناول في الجزء الأول من هذه الحلقة الديانة البوذية، وهي الديانة الأكبر من بين هذه الديانات  الثلاثة بسبب سعت وأنتشار مريديها مقارنةً مع التاوية والكنفوشيوسية، كما لعل البعض يتسائل في كيفية أحتساب البوذيه على أديان الشرق الأدنى وهي بالأصل ذات منشأ هندي، بأعتبار مؤسسها بوذا ولد بشمال شرق الهند ومات فيها، والجواب، صحيح أنها ديانة هندية الأصل لكنها تمددت وبشكل واسع الى بلدان الشرق الأدنى وخاصة الصين ومنغوليا بشكل كبير جداً حتى فاق كثيراً أعداد مريديها بالهند . نحن سوف نركز جل أهتمامنا حصراً في مسألة الألوهية في هذه الأديان، وهي أديان بالحقيقة تشترك في الكثير من المشتركات،  بالخصوص في الجانب الأخلاقي والسلوكي،بأتخاذ الزهد كطريق في ممارسة الضبط النفسي، كما أعتمدت على الرياضات النفسية كضابط وكابح لغرائز ورغبات الأنسان والتي يعيق أستفحالها تحرر الأنسان وتساميه نحو النرفانا، كما أنها أديان تشترك بهدف مشترك، الا وهو رفع البؤس والشقاء من على كاهل الأنسان، ولكن طريقتهم في تحقيق ذلك ليس من موضوع بحثنا وهو أمر طويل وعميق.

بالحقيقة أن مؤسس البوذية غوتاما بوذا (563) ق.م لم تشغلة مسألة الألوهية، ولم يتعاطى فيها كثيراً، وأنما كان جل نشاطه الفكري والعملي هو التركيز على قضية الشقاء والبؤس الأنساني، وكيف يتحرر الأنسان منه، وما هو السبيل في الوصول الى حالة التحرر والأنعتاق والتنعم بحالة النرفانا، وهي تمثل أرقى حالات التسامي، وهي  نظره تمثل الحاله النهائية والأصلية للوجود، لأن بوذا يعتبر الأصل هو الفراغ، والذي هو أصل كل الموجودات، فمثلاً على سبيل الحصر أن من تقنياته السلوكية للسير في طريق التحرر والصفاء هو عدم تكوين أسرة، لأن الأسرة سوف تتكاثر، وتكون هناك زوجة وأبناء، وستكون هناك بينهم علاقة حب، ولكن لاشك سيتولد من هذا الحب بؤس وشقاء كنتيجة طبيعية لموتهم نتيجة المرض والحوادث مما تكون سبباً لشقاء الأنسان، وهكذا مع التملك والجنس، فكانت هذه الأمور هي ما شغلت بال بوذا، ففلسفته أقرب ما تكون ذات جانب نفسي وأجتماعي.

من الملاحظ بالوقت الذي يكون فيه المعلم الأول للبوذية لم تشغله كثيراً قضية الآلوهية، لكن نرى مريديه، وهم كُثر كان هاجس الألوهية لم يفارقهم، وقد أضافوا للبوذية أهتماماً أخر بالأضافة للجوانب الأخرى من أهتمامات هذه الديانه، وقد ظهرت مدارس وطوائف كثيرة جداً، وعلى سبيل المثال ظهرت في النصوص البوذية المتأخرة ما يؤكد أن البوذا كان كائناً ألهياً، يعيش في سماء توشيتا، ومن هناك جاء الى الأرض، وكانت هذه أول محاولة لتأليه بوذا، وترجمةً لذلك المعتقد نرى في معابد تايلاد البوذية صور للكائن العظيم (بوذا) حيث تكون تماثيله وصوره محاطه بالشمعدانات وأعواد البخور والمزهريات الذهبية، وهم يعتقدون بأن شخصية بوذا حية وفائقة الطبيعة، وقادرة على أن تسمع وتستجيب الدعوات، وأن الاله بوذا جاء ليخلص البشرية من الألم والشقاء، طبعاً هناك من الأساطير في ال (جتكا) من القرن الثاني ق.م تشرح كيف أصبح الكائن العظيم الذي صار بوذا ونزل الى الأرض، وبأختصار تروي الجتكا أن هناك ألهه هي من ذهبت الى السماء توشيتا، وطلبوا من الكائن العظيم أن يأتي الى الأرض، وهذا يعني أن الديانه البوذية بعد موت بوذا قد آمنت بوجود آلهه ثانويون، كما أن هناك في نظرهم اله أعظم والذي يدعوه ب (الكائن العظيم) وأن هذا الكائن العظيم هو من دخل في رحم أم بوذا وبواسطة الملائكة  ولدت بوذا. كما أن هناك ملاحظة مهمه جداً الا وهي أن بوذا كان يركز على الجهد الذاتي في عملية الخلاص، بينما المدارس البوذية التي أتت من بعده تقول أن الخلاص لا يتحقق بالجهد الذاتي وحده، بل كذلك بمعونة الكائنات الآلهية، وهذا هو سر أقامة الصلوات والطقوس التي يبتغي من خلالها البوذيون ألتماس المساعدة من الالهة في مساعدتهم بالعبور الى مرحلة التحرر ومساعدة الموتى، والخلاص من الألم والمرض والشقاء الذي يعانون منه في حياتهم، وهم يؤمنون أن هذه الكائنات الالهية تسكن السماء، وهي كائنات فائقة الطبيعه والقوة، حتى أن طائفة المهايانا البوذية تعتبر بوذا خالد في السماوات.

أن حالة الفراغ النهائية  التي جاء بها بوذا والتي ينتهي اليها العالم، والتي تمثل الحقيقة والأصل لكل مظاهر الكون لم تقدم لأتباعه الا حالة ضبابية معتمه ومشوشة، لأن لا يمكن للفراغ أن يكون سبب لعالم مادي، لذا أخذت أحد طوائف البوذية والتي تسمى بالمهايانية موقفاً أكثر وضوحاً، حيث أنشأوا فكرة (الجسد الثلاثي) والذي يدعي فيه أن لبوذا ثلاث أجساد : الأول هو جسد بوذا الكوني أو المطلق، وهذا ما يذكرنا بالمبدأ الهندوسي الاله (برهمان-أتمان) والذي يُعتبر الحقيقة النهائية للعالم والاله الكوني وتسميه هذه الطائفه ب (دارماكايا)، وهناك جسد ثاني، هو جسد النعيم الروحي، والثالث جسد الأشكال الدنيوية، ولكن الشكل الأول يشير الى الحقيقة الخالدة لبوذا، وهي الأساس والمصدر للعالم، وهو غير شخصي، وغير مميز . هذا الشكل الأول هو قاع الوجود الذي كان يقطن في السماء نوشيتا والذي نزل الى الأرض ليصبح البوذا التاريخي (موسوعة تاريخ الأديان ج4 فراس السواح).وعندما أنجز بوذا الرسالة الأرضية رجع الى مصدر كل الوجود (الدارماكايا) . هذا الأعتقاد جاء نتيجة طبيعية لما ترك فيه بوذا أتباعه في حالة من الفراغ المحير . فالفراغ حالة محيرة، لأنها غير منطقية، وهذا ما جعلهم يبحثون عن مخرج يطفئ ضمأهم عن طريق تلمس خالق لهذا الوجود الذي لا يمكن تجاهل التسلسل السببي لوجوده، والهاجس الشعور الذي يخالج مشاعر الأنسان، وهنا يمكننا الذهاب الى راهب صيني أسمه (تشيهي) وقد يكون هذا أكثر وضوحاً من مدرسة المهايانية، حيث يقول أن البوذا هو تجل للمبدأ الكوني الذي يسري في الكون بأسره، والموجود حتى في أصغر أشيائه، وأن هذا المبدأ هو ماتقصده الجماهير البوذيه عن طريق ما تؤديه من شعائر وطقوس للوصول الى الرؤية الوجديه (النرفانا) وهذا المبدأ الكوني هو ما تأول اليه كل الأشياء، وهو الحقيقه الكلية ومآل كل الأشياء.

.بالحقيقة أن بوذا كان ملحداً أو لا أدرياً بأقراره أن أصل الكون ومرجعه هو الفراغ، وهو تصور ضبابي، وحتى جعل تابعيه في حيره من أمرهم، وهو تصور بالحقيقه للايمت للمنطق بشئ لأن الفراغ لا ينتج عالم مادي، فليس من المعقول أن هذا الكون بنجومه وكواكبه التي تُعد بالبلايين أن تأتي من حالة فراغية وتنتهي الى فراغ، وأن حالة الأتقان في الصنع الكوني لا يمكن أن تأتي من فراغ، فالأمر لا يمكن التسليم به في قياس أبسط منطق . هذا الأمر هو ما دعى أتباع بوذا الى سد فراغ هذه الحلقه الغير محكمه الذي تركها بوذا، والذي ترك لهم نهاية سائبه وضبابية، وهذا الأمر من الأسباب التي جعلت الباب مفتوحة على مصراعيها في الأجتهادات والمدارس البوذية عبر الزمن، لذا نرى فقط باليابان هناك حوالي ثلاثمئة طائفة بوذيه، ويجري على نفس الوتيره في أقطار مثل الصين ومنغوليا وبقية دول جنوب شرق أسيا.

أنطلاقاً من فكرة بوذا بالفراغ الكوني التي لم تقنع مريديه، ومن هاجس الأحساس لدى فطرة الأنسان بوجود سبب أولي لهذا الكون، وأيماناً منهم بوجود قوى غير مرئية، هي من تؤثر فيما يجري من حولهم من أحداث كونية، ولا يمكن كذلك أستبعاد موروثهم الفكري وأيمانهم بوجود آلهه . كل هذه الأمور هي من حدت براهب صيني يدعى (تشيهي) بأن يدعي بأن العالم كل العالم بما فيه بوذا، هو عبارة عن تجلي لمبدأ كوني،  وهو أكيد شيء غير متصور وأزلي، ولم يتوقف الأمر على هذا الراهب، فنجد كذلك مدرسة بوذية أخرى تدعى (مدرسة السر) والتي أدعت بوجود مجمع آلهه من الكائنات البوذية المُخَلصة، والتي يُلتمس عندها عن طريق الأبتهالات والصلوات والطقوس الشفاء من المرض، وضمان الصحه والحظ السعيد، وأكيد هذا اللون من العبادة لا يمكن الا ليكون موجه الى كائن يعتقدون به بالأجابة لدعواتهم والقدرة على تنفيذها، وقد عبر أحد رواد هذه المدرسة ويدعى (كوكاي) عن هذا الاله ب (الكائن الواحد، الكلي، الشمولي، وهو بوذا العظيم، وهو الشمس العظيمة، وأن البوذات الآخرون أنبثاقات منه، وأطوار من طاقته التي لا تنفذ) . أن صلوات وطقوس وأبتهالات الفرد البوذي، وطلباته في الشفاء ودفع الضرر، وجلب المنفعه، لا يمكن أن تكون لولا وجود أعتقاد بوجود رب يسمع ويستجيب لدعواتهم .

قلنا أعلاه أن الحالة السائبة التي ترك بوذا به فلسفته وبالتالي أتباعه ومريديه، هي من فتحت الباب لأجتهادات كثيرة وعديدة، لأن الشوق للآله موجود في صميم تكوين الأنسان، وحالة فطرية لا يمكن تجاوزها، وهذا ما جعل أتباع بوذا رغم تقديسهم له لحد العباده، خرجوا بأجتهادات لم يأتي هو بها، ومن هذه الأجتهادات ما أتت بها طائفه بوذية تُدعى ب(التنترية)، وهي بالهند، حيث يعتقد هؤلاء بأن لكل الهه  تتمة على شكل زوجة، وأن القدرة العليا لا تتم الا من خلال هذا الأتحاد بين الاله وزوجته، حتى كان لهم علم أنساب للالهه، ويعتقدون بوجود خمسة بوذوات ربانيين سماويين هم (أميتابها) و(أكشوبهيا) و(أموغهاسيدي) و(رتنسمبهفا) و(فايروكانا)، ويفترض كما يزعمون قد أنجبتهم جميعاً (أدي- بودا) وهي تعتبر ماهية البوذا، والمصوره عاى أنها اله قصي يتصرف بصاعقة سحرية، وهناك من البوذيون من يقولون أن الاله (فايروكانا) كان الكائن السماوي الذي تسبب في ظهور بوذا غوتاما، كما أن هناك طائفه بوذية تبتية تدعي أن الأنسان بصلاته ونسكه وبأدائه للطقوس، وما يتفوه به من الفاظ صوفية تؤهله للدخول في النرفانا، حيث تضعه على مستوى واحد مع القدرة الالهية التي يتقرب اليها. ومن العجيب أن الديانه البوذيه بدأت ملحده أو لا أدرية وأنتهت بأتخاذ مؤسسها أله، والذي هو تجلي للاله أو المبدأ الكوني، والبعض من طوائفهم يسمونه بالكائن السماوي، وأن أتباع بوذا يطلبون عن طريق أدعيتهم وصلواتهم، وأداء طقوسهم من القوى الغيبية أن تجلب لهم الخير وتدفع عنهم الشرور، وأن طائفة التنترية تزعم بأنها يمكن أن تنشأ أتصالاً فعلياً مع الالهه والذين هم خمسة وثلاثون الهاً تنترياً أو أكثر وذلك عن طريق المودرات، وهي أوضاع خاصة بحركة اليد، تؤدى بطقوس خاصة. يتبع.

 

أياد الزهيري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم