صحيفة المثقف

إميلي س. دافيز: قراءات متعاكسة عن رواية أهداف سويف

2519 Emilyترجمة: صالح الرزوق

هناك سبب داخلي لننظر إلى حالة سونالي في نهاية رواية “أغنياء مثلنا” على أنها دراما لأزمة (المرأة) الكاتبة بعد الكولونيالية - التي أرغمتها قوة السوق لتعليب الثقافة بطريقة تغري القراء الغربيين المهتمين بأساليب التعبير عن عالم “متطور” يغلب عليه الاستهلاك المباشر، والعبارة الأخيرة لجوزيف سلوتير Joseph Slaughter. أضف لذلك أن نايانتارا ساغال لم تدقق كثيرا في توزيع رومانسياتها كما هو الحال مع أهداف سويف. وسبب أساسي وراء ذلك كما أزعم هو موضعها المتأرجح بين لغتها و تقاليدها الأدبية التي لها علاقة بالدولة - الأمة بعد الكولونيالية. لقد عاشت ساغال في الخارج في أوقات مختلفة، ويمكن اعتبار أنها تدخل ضمن تقاليد موجودة ومنتشرة في دائرة جنوب شرق آسيا الأنغلوفونية.

علاوة على ذلك سهلت لها روابط عائلتها الدخول في السرد الوطني، وفي النهاية احتل عمها جواهر لال نهرو منصب أول رئيس وزراء للهند، واحتلت أمها جيفايا لاكشامي بانديت منصب أول سفيرة للهند في الأمم المتحدة. وحينما انتقدت ساغال نظام ابنة عمها أنديرا غاندي، فقد كانت تفعل ذلك بلغة النصح المسموح به بين أفراد الأسرة الواحدة، كما يفهم قراء ساغال الهنود من ذلك. ومع أن ساغال تتحدى بناء الرومانس الوطني في روايتها، فإن سيرتها الشخصية تسمح بذلك، فهي تلتحق بالخيال الوطني لتصبح “واحدا منا”، وتقدم نفسها لسوق النشر الدولية بصفتها كاتبة من الهند.

بالمقابل إن حالة سويف في الدياسبورا وانزياحها اللغوي من تقاليد اللغة العربية والأدب العربي الناطق بالفرنسية في المنفى، يعقّد دوران رواياتها العابرة للقوميات، وبالمثل يفعل مع خيالها الذي تتسلح به لإنجاز نشاطها السياسي والأدبي. إن سويف امرأة مصرية عالية الثقافة وتعيش في لندن وتكتب عن مصر وعن بريطانيا بلغة إنكليزية، ولذلك هي تحتل فضاء بينيا معروفا في دوائر معاصرة تضم الكتاب الكوزموبوليتانيين الأنغلوفونيين في الشتات، ولكن هذا إشكالي على نحو خاص بالنسبة لكاتبة عربية إذا قارناها مع كاتبة من جنوب إفريقيا أو جنوب آسيا. وكما اتضح لي خلال بحوثي عن روايتها، لاحظت اضطرابا عميقا حول ما أحاط بها من افتراضات، وحول الموضوع الذي يجب أن تكتب عنه. ولفت انتباهي على نحو أساسي الأساليب المختلف لثلاثة شرائح جماهيرية مختلفة قرأت الرواية وعلقت عليها وعلى كاتبتها. وهذه الشرائح هي: الصحافة العربية الناطقة بالإنكليزية، والقراء في الولايات المتحدة وبريطانيا، والصحافيون والأكاديميون.

من غير المدهش أن نجد في الآراء والقراءات خلافا في فهم معنى الكتابة الجيدة.

فقد اختلفت الصحافة المصرية مثل الأهرام والقاهرة تايمز (وكلتاهما تصدران في القاهرة)، عن ما عداها وكان الاهتمام الأساسي، في الصحيفتين، يركز على مسألة الهوية. لماذا اختارت سويف الكتابة باللغة الإنكليزية والحياة في بريطانيا.

في مقالة نشرتها القاهرة تايمز، على سبيل المثال، تقول هند واصف إن سويف من زمرة غريبة، “مصرية تعيش في إنكلترا وتكتب عن مصر بالإنكليزية”. ومثل معظم بقية الآراء في الصحافة المصرية، تقدم واصف سويف على أنها صوت هجين وليس صوتا مصريا “أصيلا” (فهي ترغب أن تكون مقروءة في السوق الأمريكي الشعبي)، وتؤكد أن “إبداعها له رؤية هجينة”. وتخصص بقية مقالتها لسبر أهمية كتابة سويف بالإنكليزية، وتزعم أن هذا عزلها عن غيرها من الكتاب العرب المعاصرين. وتلاحظ واصف أنها “على نحو غريب غير قادرة - أو غير راغبة - بوضع نفسها في صف بقية الكتاب العرب أو أن يكون لها علاقة بمجتمعها”.

وتكتب أمينة البنداري في الأهرام وتصنف سويف في قائمة تضم الكتاب العرب المحدثين الذين يعملون في ما تسميه “الرواية التاريخية العربية” الناشئة. ولكن تنتقد سويف لأن “عملها مكتوب بالإنكليزية وعليه لا يمكن اعتباره عربيا بنفس الدرجة من المصداقية والمباشرة”.

وفي مقالة أخرى من الأهرام تركز أيضا سحر صبحي عبد الحكيم على هجنة سويف وترى أنها “نوع مهمش من الكتاب العرب الذين نادرا ما تألقوا في ثقافة اللغة التي كتبوا بها وفي نفس الوقت تجاهلهم تاريخ الأدب العربية”.

وتقر باسكال غزالة بهذا الموقف المحير من سويف وتدافع عن قيمة أعمالها وتؤكد علينا “هنا، أن نعتز بها، ولو قليلا - أن نعتز بواحدة منا تتكلم مثلهم عنا وبمعايير يفهمونها”. إن روايات سويف “تزيل الغموض وتلغي الفكرة النمطية المخيمة على بلدنا وتشجع ما تراه صورة أقرب للحقيقة عن مصر”.

وبرأي هالة حليم أنها غنمت أكبر قدر من المديح بسبب موضوعها السياسي وتأثير روايتها على القارئ الغربي.

وكما قال عاصم حمدان في “الرأي العربي”: “إن الكاتبة العربية أهداف سويف هي الأكثر استحقاقا من بين المرشحين في القائمة القصيرة <لجائزة البوكر>، وانتهى إلى أن السبب الأساسي لعدم حصولها على الجائزة هو موقفها المؤيد للفلسطينيين.

بالنسبة لهؤلاء النقاد، وبتعبير هوغان Huggan، كانت استراتيجية سويف الشرقية تخدم هدفا مثمرا، فهي تمكنها من “أن تتكلم مثلهم” عن موضوعات ذات أهمية مركزية للمصريين والعرب بشكل أوسع. وقد ركزت هذه الآراء على هوية سويف الهجينة، وعلاقتها بتقاليد أدبية مركبة، واستراتيجيتها في تقديم الهم العربي السياسي للجمهور الغربي، وردة الفعل الشعبية في بريطانيا والولايات المتحدة التي توقفت عند الحوار المألوف بين العاطفة والمتعة، أو غرابة شكل الرواية في التاريخ الشرق أوسطي والشمال إفريقي.

ويتضح هذا على نحو مماثل في ردود الأفعال المنشورة في الصحف الشعبية والمجلات وفي المراجعات غير الرسمية المنشورة في مواقع الإنترنت الخاصة بمجموعات حوار مختلفة ومنتديات فنية. وفي معظم هذه المراجعات، بعكس الصحف المصرية، كانت سويف بلا شك مصرية أصيلة.

وكما تقول جوليا سيندين Julia Sneden في مقالتها في “موقع السيدات ”Senior Women Web: “رواية سويف فاتنة بعدة مستويات، فهي توضح سياسة الشرق الأوسط كما تراه العين المصرية”. وبالمثل تلاحظ لوان غينز Luan Gaines أن سويف قد “وضعت قدمها بقوة في مصر المعاصرة”. وفي مراجعة لإذاعة مينيسوتا الشعبية ورد أنه “بين عدة أصوات حالية عابرة للقوميات والحدود يعتبر صوت سويف صوتا مصريا أصيلا يخاطب مباشرة القارئ الغربي”. وبغض النظر عن الموضوع المعقد لهوية سويف الهجينة والتي تنتمي للشتات نظر قارئ متحمس لـ “خارطة الحب” مطولا ولا سيما لقصة الغرام وتوقف عند دور الثقافة في معالجة تاريخ الشرق الأوسط المعاصر (على فرض أنه يعبر عن شتات شمال إفريقيا بنظر القراءات الغربية).

ليس من المستغرب أن القراء الغربيين يؤمنون أنه بمقدورهم التعلم من تاريخ الآخرين بقراءة الروايات والقصص، لأن الكتابات بعد الكولونيالية وفي الدياسبورا يتم تسويقها غالبا وكأنها فرصة لكسب معبر متميز لمعرفة ثقافية أصيلة، وعمليا سوق الآخر يميل للمطالبة بشهادة تدل على الأصالة. والناشر الغربي يعي تماما أن مثل هذه النصوص لا تلفت انتباه القارئ العام، ولكن تقدم فوائد عميقة في الأسواق الأكاديمية. وحسب ملاحظة لأميرة وماجاج Amireh and Majaj *” إن الروايات التي تجعلها <الواقعية> صالحة للاستخدام ليس في دروس الأدب فقط، ولكن أيضا في السوسيولوجيا، والعلوم السياسية، وحصص التاريخ، هي التي يقع الاختيار عليها للترجمة على حساب الشعر أو الروايات الطليعية، فهي تفرض أسواقا أدبية محدودة وضيقة”. لكن تؤكد سيمون جيكاندي Simon Gikandi أن القراء الغربيين يرتكبون خطأ فادحا إذا تصوروا أن الأدب “إنتاج مجرد للواقع، واللغة أداة تعبر عن التواصل المباشر بين الكلمات والأشياء”. بالتأكيد إن الإفراط في عناصر الميلودراما العاطفية في كتابات سويف تعقد وضع الرواية باعتبار أنها وثيقة تاريخية. وحسب ملاحظة روب توماس Rob Thomas في قراءته المنشورة في “ماديسون. كوم”: “ليس كل رواية يمكن أن تقاطع قصة حب مشتعل لتفسر السجال المستمرحول سياسة الشرق الأوسط”.

بالنسبة لبعض القراء يقدم الحب الرومنسي استراحة مرحبا بها من ضغط الترجمات النخبوية التي يتطلبها التاريخ “الغربي - الأجنبي”. على سبيل المثال تكتب جوليا سيندين تقول:”هناك قائمة بالمصطلحات العربية في الرواية وكذلك مخطط جينيالوجي مفيد في المقدمة. وكلا الصفحتين كانتا مثل أذني كلب بالنسبة لي، فقد حاولت أن أحتفظ بالعلاقات مباشرة وأن أحل الكلمات غير المفهومة. ولكن لغة الحب لا تحتاج لقوائم”.

هذه الثنائية تركزعلى الخلاص السعيد الذي يقدمه الرومانس وعلى العمل المطلوب من المادة التاريخية التي تحدد نوعية ردود الأفعال المتعددة. وتحدد لوان غاينز Luan Gaines العلاقة بالتالي: المدهشة آنا تتابع إملاء خواطر قلبها، فيأتيك كلام من بين صفحات مذكرات قديمة، وهذه الخواطرعلى خلاف مع إملاءات كلامها عن الزواج من حبيب حياتها... وقبالة هذه الخلفيات الدرامية تقدم سويف درسا يحتاج له التاريخ. وعوضا عن توسيع الخلاف تقترب الكاتبة من قرائها بواسطة وعي ثقافي واهتمام مضاعف. وبالنسبة لوجهتي النظر إن “الخلفية الدرامية” المألوفة لقصة الحب تساعد بإخفاء المصاعب الناجمة عن فهم تاريخ ولغة الآخر وخلق نوع من تضييق الفجوة الثقافية بين الكاتب والقارئ.

لكن مال النقاد الأقل حماسا للرواية لتعريف الرومانس على أنه مصدر للتعاسة مع الإقرار بأهمية التاريخ، وصنفوا أنفسهم بين القراء المتذوقين والحاذقين وليس مع العامة الذين يفضلون صيغة سردية من نوع الروايات العاطفية.

وفي مراجعة نقدية لجوان ماك إيوان Joanne McEwan نشرت في “إسلام أون لاين” يقول:”العنوان ليس حكائيا تماما، وعذرا لهذا القول، تذكرني العائلة على نحو ضعيف بواحدة من أفضل كتب دانييل ستيل مبيعا”.

إن رواية سويف لحسن الحظ - والتي اعتبرت بالصدفة “الأفضل للقراءة” في تقرير لجنة جائزة البوكر لعام 1999 - تقدم أكثر مما نفهم من عنوانها غير الواضح”. وتتابع ماك إيوان :”لكن سويف تضيف أكثر من قصة حب لجو القاهرة الغامض”.

وربما تقدم أندريا بيركينزAndrea Perkins لسويف أفضل تحية حينما تعقب في ميترو أكتيف قائلة:”القارئ ينتقل من أمل لقصة آنا وهي حكاية فوق رومنسية، وهو ما قد يتحول بقلم كاتبة أقل تمكنا لحكاية لا تتوفر إلا في أوبرا مصرية خفيفة وسائلة”. وتحدد بيركنز، مع قليل من الشك بالقيمة الثقافية لهذه العواطف الجديدة، مخاطر “السيولة” الممكنة في مصر سويف بالمقارنة مع بلدها وهو الولايات المتحدة. وعليه هي تبعد نفسها من جماهير أوبرا أمريكية خفيفة يمكن أن يهتموا بذلك “النوع” من الحكايات.

أما النقاد المحترفون، مثل المراجعات الشعبية التي انتشرت في شمال أمريكا وأوروبا، فيكيلون المديح لأصالة سويف التاريخية، ولكن عموما هم أكثر شكا بقيمة السرد العاطفي كأداة لتجسيد موضوع الرواية السياسي. ويؤدي هؤلاء القراء رقصة حساسة، ويبدو أنهم متحمسون لتجسيد تضامنهم الكوزموبوليتاني مع كاتبة شرق أوسطية رغم الإعراب عن قلقهم المتكرر من أسلوبها.

على سبيل المثال مقالة غابرييل آنان Gabriele Annan في مراجعات لندن للإصدارات الحديثة London Review of Books تؤكد لنا أن كلا من رواية سويف السابقة “في عين الشمس”، و“خارطة الحب” هما أكثر من قصص حب عاطفية: هما تفسير للتاريخ المصري، مثلما كان تولستوي بنظر الروس... وروايتها هي نصف قصة حب ونصف دفاع وطني رقيق عن مصر. من الصعب أن لا تتأثر بالالتزام القوي لهذه الرواية الراقية... ولكن توازي الجدية مع العاطفة لا يصلح تماما لكل مستويات السرد النقي والمتعالي.

وتتردد أنان بإدانة الرواية، وتتمزق بين رغبة شخصية للاعتراف أنها تأثرت بها والضرورة الحرفية للتوقف بشكل أطول عند جانبها السياسي وليس عند قصصها الغرامية. ومثل المراجعات الشعبية التي تصنف نفسها بين جمهور الذوق الأدبي الرفيع، تنظر أنان للغرام على أنه بعيد عن الأهداف الأساسية العالية للسرد.

ومقالة آنيت كوباك Annette Kobak في النيويورك تايمز تبدو أكثر ابتهاجا، مع أنها تقلل بإسهاب من دورالمضمون الشعبي للرومانس وتدعي أنه جزء وظيفي من خطاب فلسفي أوسع عن الحب قائلة: توظيف الرواية لهذه الخيوط التاريخية غير محدد، وعنوانه يخدم هدفا أكثر حدية.. أن تبين كيف أن الحب يمكنه أن ينمو عبر المسافات الفاصلة بين البلدان، وحتى عبر العصور المختلفة. والحب هنا يتضمن خارطة أوسع من فكرة الغرام فقط: ويشمل حب الوطن، الطبيعة، اللغة، البهجة العاطفية. والحب بين الأقارب، بين أفراد العائلة، الأصدقاء، الأجيال. والحب يمكن أن يكون بين الأحياء والموتى. وحكمة كوباك تنظر لمقارنة ماك إيوان السلبية مع دانيال ستيل. ولكنها تبدو مضطرة لتوضيح كيف أن رواية سويف تذهب لما هو أبعد من كونها “رواية غرامية”، وتقلل من الدونية التي نتعامل بها مع القيمة الثقافية لهذا النوع.

ونقاد آخرون كانوا مباشرين في التعبير عن التفاتهم للصيغة الروائية.

الصحافية الكندية إيما ريشليرEmma Richler تعرف رواية سويف أنها مثال عن نوع “مذكرات على الجذع”. وتعد صفاتها التقليدية كما يلي: روايات مذكرات على الجذع طويلة، ولها خلفية شرقية مع اضطراب سياسي. وتتضمن حكاية موازية قوامها قصة حب عاصف وعائلة واحدة رغم أنها تغطي عدة أجيال. وتتابع موتا فجائيا مفاجئا على الأقل يخطف عاشقا واحدا في الصفحات الختامية لتترك القارئ مصدوما لكن داخل جو من المشاعر الطيبة يحييي قصة الحب العميق. وتتابع ريشلير قائلة بإصرار:”هذه رواية تتضمن مضاعفات وتعقيدات سردية لا ضرورة لها مع تفريعات ومشاهد موسعة حول غرام صلب مع نغمة تاريخية واضحة، وبعناوين فرعية غير استفزازية مختصرة وتحمل اقتباسات عن الحب”. إن الرواية كثيرة “الانتباجات” وصياغتها تسعى وراء جائزة البوكر.

وناقد مجهول الاسم يعمل بالتجارة في إفريقيا يقول:”الشخصيات الفكتورية في الرواية كما يبدو مستعارة من تقاليد الرواية الرومنسية الشعبية. بطلة جميلة وخلوقة، تقع بحب عاصف مع بطل من النبلاء وله قضية نبيلة وملحمية. وهي تذكرنا بفيلم رودولف فالينتينو. والشخصيات المعاصرة من بعدين اثنين دون أي تشعبات. وآسرة مثل أي أوبرا تلفزيونية. وقد وجدت أنه من المؤسف أن بنية الرواية الهامة والملحة، ذات العقدة السياسية والقضايا الدينية التي تثيرها، قد لاقت عثرات في صياغتها وفي خلق شخصياتها.

هذه الانتقادات تردد صدى العديد من المراجعات الاحترافية، والتي أكدت أن عناصر الصيغة الرومنسية مثل الصفات المحدودة للشخصيات والعشاق غير المحظوظين منعت المضمون السياسي المفضل للرواية من التألق.

ماذا نفهم من عدم تصنيف سويف ككاتبة رواية بقالب رومنسي؟. هذا الادعاء عن سويف الذي تلتقي فيه خطابات عموم القراء بطريقة لافتة للانتباه.

كما لاحظنا لم يكن متفقا على قيمة النص بين القراء من داخل وخارج مصر. في حين أن الصحافة المصرية تتقبل الجانب السياسي، كانت قلقة على استعمال اللغة الإنكليزية، وبالاستطراد علاقتها بالتقاليد الأدبية العربية. كان السؤال عن إنجاز سويف الأدبي الحقيقي - من أين تستلهم قناعاتها وبالتالي أسلوب كتابتها؟. بعض القراءات نظر لسويف أن خياراتها دليل على شرقيتها وهو مصدر الاهتمام بموضوعاتها السياسية، ولو لا ذلك ربما لم تدخل العقل ولا السوق الغربي.

بالمثل المؤسسة النقدية الأدبية الغربية، التي تبحث عن صوت مصري أصيل وكذلك مستوى فني رفيع، تأثرت مرتين بكاتبة من الدياسبورا تستعمل أنواعا شعبية لعرض السياسة المصرية في القرن العشرين.

وهذا ساعد في تفسير مشروعية الموضوع السياسي للرواية مع الهجوم على بنيتها.

وغايتي ليس النظر للصيغة الرومنسية على أنها اتجاه أدبي ولا الاعتراض على النقاد الذين رأوا في رواية سويف عناصر الرواية التاريخية المنتشرة في القرن التاسع عشر والعشرين كما كتبها تولستوي وإليوت أو حتى مارغريت ميتشيل. وليس لدي أي رغبة باعتبار النص عملا متميزا وكلاسيكيا. ما يحرك اهتمامي في هذه القراءات هو اعتقاد كتابها أن سويف تلعب كثيرا بمعايير السوق الغربي الشعبي. وهؤلاء النقاد، وهذا مدعاة للاستغراب، لم يقروا بدورهم في تشكيل المعايير الغربية للرواية الانتقالية الجادة من خلال التأثير بحركة البيع والشراء في السوق وصناعة النشر.

والقراءات التي ظهرت في مطبوعات هامة، والتي قدمت رأسمالا ثقافيا ضخما (بتعبير بوردو) فرضت تمييزا بين الأدب الجاد والرواية الشعبية وهو ما أثر بحركة الشراء في دائرة الأثرياء والمثقفين الكوزموبوليتانيين. هؤلاء القراء يبدون ميلا قويا لبعض الأشكال الروائية غير الواقعية القادمة من خارج الغرب، ومنها “الواقعية السحرية” التي انتشرت على نحو واسع والتي يكتبها أدباء أولهم غابرييل غارسيا ماركيز وليس آخرهم سلمان رشدي.

وساعد فوز رواية “أطفال منتصف الليل” لسلمان رشدي بجائزة “بوكر البوكر” على التأكيد أن ذلك النوع الفني ينتمي للأدب الحقيقي. ومع أن هناك جدلا عن الطبيعة الميلودرامية لقصة الحب التي تتجاوز الأعراق في رواية “إله الأشياء الصغيرة” لأرونداتي روي، وهي بين آمو وفيلوثا، تجاوزت الرواية معظم الانتقادات التي لاحقت “خريطة الحب”، وفازت بجائزة البوكر عام 1997 وأثلجت صدر محبيها.

وأصبح الجو الشرقي الغرائبي مادة تدعو للحذر: من جهة يخاطر أدباء الشتات بعد الكولونياليين بفقدان السوق الغربي إن خلف عملهم الانطباع بأنه أجنبي. ومن جهة أخرى خاطروا بسمعتهم النقدية لو أصبحوا مألوفين للاتجاه المعاكس. كيف إذا يجب تفسير شعبية الروايات لدى القراء في الغرب واستبعادها من دائرة النقد الغربي؟.

وطبعا ليس من غير المعتاد أن تحرز رواية أو فيلم نجاحا شعبيا ويرافقه فشل نقدي. وشعبية الرواية صعبت رفض جاذبية هذه الصيغة للقراء الذين كرهوا التجريب الطليعي لحركة “الأفانت غرايد”، وهو ما يبرهن أن أهداف سويف قد باعت روايتها لتشبع نهم وتوقعات القراء عن مصر الشرقية. وعوضا عن حل هذه التعارضات بما يتعلق بالقيمة الفنية، أود أن أرى أن النص يمكنه العمل بعدة طرق في وقت واحد.

إن جمهورقراء رواية سويف في الغرب يتكون أساسا من النساء، وكان يبدو أنه راغب أن يتابع مع خلطتها العاطفية والسياسية، وربما يعود السبب لأن أسلوبها مألوف للقراء وهو شبيه بفن الرواية الغرامية التاريخية.

جانيس رادواي Janice Radway في دراستها حول قراء الرومنسيات تلاحظ أن “كل قارئ تقريبا أخبرني أن الروايات تعلمه عن أماكن نائية وأزمنة بعيدة وتقدم له صورة عن عادات الثقافات الأخرى”.

أما دوت، وهي خبيرة محلية من سميثتون ومتخصصة بشؤون ذوق قراء الرومنسيات تقول:” هؤلاء النساء “الكاتبات” تبحثن عن كل شيء. تتابعن التفاصيل. ولا تشعر أنك ربحت درسا من التاريخ، ولكن تتلقاه بطريقة ما”. (ص107).

 هل جمهور القراء، في تصنيف سويف كامرأة مصرية أصيلة، يجعلون منها مخبرة محلية، ويغيب عنهم جانب هام من الموضوع السياسي للرواية؟. لو وضعت بذهنك أن سويف تدعي أنها “أرادت أن تكتب قصة عاطفية هامة” يقودها بطل رومنسي له ملامح تاريخية مثل أي رجل عربي وليس قادما من فانتازيا شرقية، يعني أنها ترغب بالاقتراب من هذا الجمهور. وقد أكدت أنها أرادت “أن تخبرنا بقصة وترويها بطريقة تدفع شخصا ما أن يتابع القراءة ويقلب الصفحات. وبالنسبة لي لو قال شخص إنه بكى لموت شخصية في روايتي، لهو شيء أهم بما لا يقاس عندي مما لو قال إنني أؤثر أو سأؤثر بالطريقة التي ستكتب بها الروايات”.

السياسة قضية مقلقة، وأكبر تحد للمثقفين المعاصرين والنشطاء السياسيين هو استخدام القنوات الجمالية المتاحة - والسوق العالمي الذي يتحكم بالتوزيع - حتى تصل لأكبر جمهور ممكن.

النقاد الذين اطلعوا على مدرسة فرانكفورت وما بعدها يعرفون معنى استخدام الشكل المتاح لنشر موضوع سياسي، والشكل الراديكالي المناسب للسياسة الراديكالية. جان لوك غودار Jean-Luc Godard أصبح مشهورا في الأفلام بسبب إصراره على “صناعة أفلام سياسية”، شكل تجريبي راديكالي رفضه السينمائيون الواقعيون أمثال جيلو بونتيكورفو.

وسيتواصل هذا الجدل حتى يستثمره المهتمون بالدراسات الثقافية ولعدة سنوات قادمة. ولو لا أن سويف حصلت على ردود أفعال مختلفة من جمهور النساء الأمريكيات، والنخبة المثقفة المصرية، ونقاد الأدب في الغرب، لا يمكن لروايتها أن تكون مقروءة ضمن أي إطار جمالي أو سياسي دون المخاطرة بتبسيط البنية المعقدة للنص وقرائه.

لقد بينت أن استعمال سويف للصيغ التكوينية قد يكون تجريبيا أكثر مما اعترف به النقاد، جزئيا لأنه أعاد تركيب مفاهيم تقليدية للسياسة. فقد حلل تدرج الارتباط والولاء داخل دوائر القراءة النسائية.

ولكن أود أيضا أن أؤكد أن المنح الأدبية لكتاب الدياسبورا وما بعد الكولونيالية بحاجة لأن تبقى مستعدة لتقدير قيمة النص حسب مفاهيم الذوق الغربي وملفات التوقعات الكولونيالية عن ثقافة الآخر، وأيضا لتحديد كيف تتحور النصوص وهي تمر بأجزاء مختلفة من العالم وبمختلف أنواع القراء.

ومثلما تبين لنا من العولمة يمكن للنصوص والصور أن تقدم معان مختلفة راديكاليا بعد تبديل أمكنتها. وبالنظر لهذه الدورات نحن نندمج بالقوة مع أعضاء المؤسسة النقدية لنفهم دورنا بصفة مقاولين ثقافيين، وفي نفس الوقت نحضر أنفسنا للتفكير باحتمالات جديدة لتمثيل الموضوع السياسي. وبعد متابعة الاستجابة الواسعة المختلفة التي تلقتها كل من “خارطة الحب” لسويف و“أغنياء مثلنا” لساغال، من المستحيل في النهاية تحديد نوع ارتباط الروايتين مع المصطلحات الوطنية والدولية والسياسية الجنسية بمعناها المطلق. غير أن النصين يقترحان إجابة لسؤال هام: ما هي الاحتمالات السياسية التي تدعو النوع الفني للغرام الكولونيالي للانفتاح، وما هي الاحتمالات التي تغلقه؟.

ومع أن سويف تفكر على نحو له معنى بالعلاقة بين الجنسانية والتجنيس (الجندر) والنشاط السياسي خلال تفكيك النوع، فهي تكافح للهرب من الأصل الطبقي البورجوازي لقصص الحب في سرديات البطل والبطلة الأرستقراطيين. وبإضافة المرأة البيضاء ذات المنشأ العمالي للسرد العاطفي، تخلق ساغال فرصة للتورط بالانقسام الطبقي. ولكن ولاءها لرؤية نهرو السياسية يجعل من الصعب عليها أن تمثل الأساليب التي تخدم بها البلاغة الوطنية وعلى نحو ضعيف مسألة التجنيس.

وعلى نحو ما كلا الروايتين، بشكل يدعو للتفاؤل، تستعمل الرومانس ثنائي الجنس والعابر للأعراق، وتضعه في وسط كل سردية منهما ليكون عذرا لها لتطوير ارتباطات مؤثرة تقوي العلاقة بين جماعات مختلفة من النسوة. هذا الانزياح في العاطفة التي تسيطر عليها الثنائية الجنسية تمثل انحرافا هاما من بنية الرومانس، لأن النطاق الموسع للعلاقات يبدو واضحا بين آنا وأمل، وأمل وإيزابيل، وسونالي وروز، وروز والمتسول، ويسمح بجدل طبقي أعمق يتناول بالتحليل والتفسير الالتقاء والابتعاد بين السياسة الدولية والجنسية. مثل هذا النقاش لم يكن ممكنا ببساطة في الرومانس الثوري في جنوب إفريقيا، فقد أبعد المرأة السوداء وركز بشكل نهائي على المرأة البيضاء والرجل الأسود.

هنا المواطن المذكر الكولونيالي يكف تقريبا عن أن يكون إشارة للهوية الوطنية، ويختفي منها، وتبتعد سويف وساغال باهتمامها عن السياسة الوطنية التي تجري في العروق الذكورية وتقترب من العلاقة بين خطاب السياسة الخاصة والعامة للأمة الواقعة تحت نظام الاحتلال والأمة التي تقف تحت مظلة نظام ما بعد الاستعمار. هذه الإزاحة للصور المذكرة التي ترمز للمقاومة ضد الاتجاه القومي للاستعمار الجديد تساعد على تفسير الاستقبال المتردد لحد ما لسياسة الروايتين، ولا سيما رواية سويف.

ولو أن العلاقات الحميمة المختلفة في الروايتين تقدم احتمالات من أجل رؤيا جديدة عن التحالف السياسي، ماذا عن مبدأ القوة السياسية للفن؟. حقيقة إن نهاية الروايتين تنعطف نحو التمثيل وهو بحد ذاته تعقيب على فشل القومي بالنسبة لأولئك الذين لا يمكن تعريفهم بصورة مواطنين مثاليين. في النهاية ما الفائدة من تخصيص طاقة المرء في سبيل سياسة انتخابية حينما يكون إطار الروح القومية يستبعد المرأة من المشهد السياسي؟. إن البطلات المؤنثات في الروايتين قد وجدن فضاء مختلفا حيث يمكن اقتحام مجال السياسة من خلال تمثيلات ترتكز بشكل خاص على تحالفات سياسية.

وهذا يقدم معنى لرغبة أمل وروز ببناء موديل يوتوبي من أجل استمرار الكفاح السياسي، لأن التمثيلات تلهمنا، حتى لو كنا نعلم أنه لا يمكن بلوغها.

وختاما تشترك سويف وساغال بالاهتمام باحتمالات التمثيل، كما يبينها تحويل نوع فني يشتبه أنه سياسي مثل الرومانس. إن نزعة التجريب مع الرومانس يقلل من عدم توازن واستقرار تشكيل الجنوسة والطبقة والعرق حين ترتبط مع سرديات خاصة للفن والسياسة دون تقديم أي صيغة بسيطة للتمثيل بصفة سياسية. وهذا يرفع من إمكانية يوتوبية ونوستالجية النوع، المرتبط بقوة مع السياسة الثورية، ليكون أقرب من النهايات القلقة والتدميرية.

في مطلع هذا البحث قدمت قراءة لنصوص آمنت بإمكانات السرد السياسي للقص الغرامية باعتبار أنها نمط يوتوبي لتصوير التحالفات المثالية. والنص الجنوب إفريقي (الذي تكلمت عنه سابقا) يمثل احتمالات بدولة ما بعد التمييز العنصري ومتعددة الأعراق ومثالية، وذلك من خلال دراما عن كيفية قطع الروابط العاطفية بين رجل أسود وامرأة بيضاء باتباع نظام عنصري.

بالابتعاد عن إطار حبكة الرومنس الوطني، تمدد سويف وساغال استراتيجية تكوين الرومانس الكولونيالي لما بعد الحدود التاريخية والسياسية المفروضة لمعالجة قضية تكاتف الاستعمار الجديد والأنوثة وهو ما لم تتمكن من ملاحظته سرديات التصور الوطني**.

ولاحقا سوف أنتقل لمتابعة مجموعة من السرديات عن الدايستوبيا وهي أكثر شكا بالاحتمالات السياسية لقصص الحب، وتستعمل عناصر من القرين الأسود والقوطيات كي تكشف الطبيعة القمعية للرومانس وهو ما مررته الكولونيالية لنظام عالم الكولونيالية الجديدة المعاصر الذي يهيمن عليه اقتصاد العولمة. 

 

...........................

* إميلي س. دافيزEmily S. Davis أكاديمية أمريكية متخصصة بالدراسات بعد الكولونيالية. تعمل في جامعة ديلوير.

هوامش المترجم

*المقصود أمل أميرة (كاتبة فلسطينية وأستاذة الأدب بعد الكولونيالي في جامعة جورج مايسون) وليزا. سهير ماجاج (كاتبة أمريكية من اصل فلسطيني).

** عالجت الكاتبة هذه الأعمال في جزء سابق من دراستها المطولة. وهي مخصصة لرواية جنوب إفريقيا. منها رواية نادين غورديمير “روح الطبيعة” ورواية كويتزي “في انتظار البرابرة”. ورواية أندري برينك “سلسلة من الأصوات” وغيرها....

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم