صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: عندما يكون الفكر حرا.. أمين الخولي شيخ الأمناء

يسري عبد الغنيالشيخ أمين الخولي (1 مايو 1895 - 9 مارس 1966) أديب من كبار حماة اللغة العربية، ومناضل شارك في ثورة 1919 ونُفي مع سعد زغلول إلى سيشل.

الشيخ أمين الخولي عُرف بزيه الأزهري المميز، ووقاره المهيب، وبريق عينيه وملامحه المتفردة. وبحكم رياسته للقسم ووكالته لكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول والقيام بأعمال العميد لفترات قصيرة.

أمين إبراهيم عبد الباقي عامر إسماعيل يوسف الخولي وُلد للمزارع "إبراهيم الخولي" والسيدة "فاطمة بنت الشيخ علي عامر الخولي" من عائلة "الخولي" أبا وأما من "قرية شوشاي – مركز أشمون – محافظة المنوفية" – كان "أمين" طالبا بمدرسة القضاء الشرعي وقريبا من قلب وعقل ناظرها "عاطف بركات" إبن شقيقة زعيم الأمة "سعد زغلول".

إعتقل مع "سعد باشا" في 8 مارس 1919م في سيشل وإشتعلت الثورة بداية من يوم 9 مارس 1919 حمل "أمين الخولي" علم مدرسة القضاء الشرعي، وقاد المظاهرة إلى (الأزهر)، حيث تقرر أن يتجمع طلاب مدارس القاهرة. وحاصرهم حكمدار القاهرة بجنوده وهددهم بإطلاق الرصاص إذا لم يتفرقوا. وتقدم إليه "الخولي" قابضا على العلم وكاشفا صدره قائلا (ها أنا ذا) وتماسك الطلاب وتراجع الحكمدار وإنسحب الجنود وسارت المظاهرة تهتف للإستقلال وبحياة سعد، وتطالب الإفراج عن زعيم الأمة، وعندما وصلت المظاهرة إلى ميدان باب الحديد (رمسيس حاليا) قاد "الخولي" المظاهرة إلى حي الفجالة، وهو يهتف بصوته القوي بحياة الأقباط.. الإخوة في الوطن.. وبحياة الهلال مع الصليب.

كان "أمين الخولي" وظل يرى: (أن الشخصية المصرية عقيدة يخفق بها قلب المصري، ويرى أن ما بين مسلمي مصر وأقباطها أقرب مما بينهم وبين المسلمين الأتراك). وقتل الإنجليز صبيا صغيرا لأب فقير يبيع القباقيب. حملت المظاهرة جثمان الصبي وإندفع "الخولي" يهتف (فلتسقط بريطانيا السفلى)، وعندما ولد "فاروق" عام 1920 ومنحت المدارس إجازة للإحتفال بهذها المناسبة حرض "الخولي" طلاب المدرسة ألا يشاركوا في الإجازة. وأن يحضروا إلى المدرسة مشاركة في الهمس العام الذي كان يحيط بظروف مولد "فاروق".

كان "أمين الخولي" إبن قرية (شوشاي) وإبن (مدرسة) القضاء الشرعي مصريا أصيلا معاديا للإحتلال الإنجليزي مطالبا بإستقلال الوطن ومؤمنا بوحدة الشعب العظيم، وإبنا بارا للثورة الشعبية الكبري 1919. ووقف في صف الديموقراطية فرأى بعض قادة ثورة 23 يوليو 1952أن يبعدوا "الخولي" عن الجامعة فأصدر قرار في 22 يونيو عام 1952م بأن ينقل "أمين الخولي" إلى دار الكتب مستشارا – لا يستشار- ثم مديرا عام لإدارة الثقافة التابعة لوزارة التربية والتعليم إلى أن أتم الخدمة الحكومية في أول مايو عام 1955م (ولد عام 1895م).

عاطف بركات إبن شقيقة زعيم الأمة "سعد زغلول" وناظر مدرسة (القضاء الشرعي)، والذي تخرج على يديه "أمين الخولي" وأحمد أمين وعبد الوهاب عزام وأحمد فرج السهنوري وعبد الحميد العبادي" كان هذا الناظر الوطني (نفي إلى سيشل عام 1921 مع سعد زغلول ومصطفى النحاس وسينوت حنا وفتح الله بركات ومكرم عبيد) يغرس في نفوس تلاميذه أن يبحثون عن أنفسهم في جذورهم العميقة بأرض مصر، ويثير فيهم روح الجدل والحوار ولا يهتم بأن يقولوا له نعم أو آمين، وكان ينمي فيهم الشخصية القويمة والرأي المستقل. ونشأ تلميذه "أمين الخولي" فيما بعد هذه الصفات حتى قيل عنه (الثائر الأول بين الأساتذة والتلاميذ على السواء).

لم يكن مجرد محاضر أو مدرس وإنما كان "أستاذا" بكل ما تحمله الكلمة من معان. لم يكن يهتم بتدوين المحاضرات وتلقين المعلومات قدر ما يهتم بتربية النفوس والضمائر وبناء القيم. كتب عنه تلميذه الشاعر "صلاح عبد الصبور": "كان أكثر ما يؤلمه أثناء الدرس أن يجد طلابه يسلمون برأيه، لا يجادله أحد فيهم، عندئذ تنقطع الدائرة وتخبو النار. أما إذا إرتقت العقول، وإصطرع الرأي بالحجة، عندئذ ينفجر وجه الخولي المقطب، ويشتد لمعان عينيه، وتفيض الفتوة العقلية والذهنية من مكامنها وتتألق الحكمة".

وقال عند "الدكتور لويس عوض": ( كل من جلس بين يديه يتلقى العلم عليه إرتبط به المسحور بالساحر.. من عرفه لا يمكن أن ينساه).

كان أمين الخولي يؤمن إيمانا عميقا بالشباب، ويؤمن أنهم أصحاب الغد، فدعاهم إلى إيجاد القادة الصادقين . وعاش يفكر في الغد لا في الأمس.. يدفع أبناءه ومريديه إلى العيش في المستقبل برأيهم لا برأي يملى عليهم أو يستوردونه من بلد آخر..

كان من أجهر الدعاة إلى الحرية الفكرية.. ويرى الحرية وسيلة الحياة الكريمة. لقد أخذ منهاجه في أستاذيته عن "عاطف بركات" من المحدثين وعن "الإمام الشافعي" من المجددين القدامى. وكان الأساس النظري عنده في الرأي والرأي الآخر: (أن الإختلاف في الآراء والتقاتل على المبادئ من نواميس الحياة على الأرض، وليس ظاهرة تحلل ولا إشار فساد)، وكان يؤمن بوحدة أصل البشرية. وبجودة المصير الإنساني، فلا يصح تداعي بعض الناس في مختلف الأسر بأفضلية تميز، وأجمل زميله وصديقه "أبو الفرج السنهوري" صـفاته التي تميز بها هذا الأستاذ" (جبار العقل، عميق الفكر، حلو المنطق، قوي الحجة، رصين الكلام، غزير العلم في أدب عظيم).

كان الأزهر موجودا عنده في ثقافته وزيه. وفي (بروكسل) إنعقد (مؤتمر تاريخ الأديان الدولي) من 16-20 سبتمبر عام 1925، فبعث الأزهر مندوبين يمثلانه هما الشيخ مصطفى عبد الرازق والشيح أمين الخولي. وعام 1934 أصدر محاضرته عن (الفلسفة وتاريخها) وأهداها إلى (روح الأستاذ الإمام الشخ محمد عبده)، وفي عام 1935م قدم لطلابه بكلية أصول الدين (تاريخ الملل والنحل) وتتوطدت صلته بالأزهر بهذه الدراسة، وأعلنت الحكومة في عام 1936م عن مسابقة بين المفكرين والكتاب في موضوعات منها (رسالة الأزهر في القرن العشرين) وإختير عضوا في لجنة التجكيم وقال هو مداعبا.. (لماذا في القرن العشرين الميلادي وليس الرابع عشر الهجري ولا العاشر القمري من حياة الأزهر!؟) وشدته أهمية الموضوع إلى أن يدلي بدلوه فيه. وأفسحت له (جريدة المصري) صفحاتها على مدى ثلاثة أشهر يشرح فيها رسالة الأزهر الإجتماعية، وبين العلاقة بين الدين والحياة وأوضح أن رسالة الأزهر من حيث هو مركز ديني هي.. حماية الدين ومحاوره الإجتماعية، وأن يمكن الإنسانية من أن تسعد بأثره في الحياة، ويكون ذلك بالتدبير المحكم في التعريف بالدين ونشر الإسلام على أيدي رجال لهم الصفة الدينية المتميزة. ورسالته من حيت هو بيئة إجتماعية. وهي أن يحمي الروح القومية لمصر والشرق الإسلامي حماية عاقلة متبصرة متدينة.

وعن رسالته العلمية تحدث عن إعداد الإسلام الواعظين به الناشرين له، وأن تكون دراسته المعلمية مرجعا للشرق كله والغرب كله. وحرص على ربط حاضر الأزهر بماضيه. ويشرح الدين الإسلامي المرجو بأنه تدين إنساني القلب نبيل العاطفة، يؤيد التعاون البشري، ولا يعوق الإخاء الإنساني.

في 7 نوفمبر 1923م عين إماما للسفارة المصرية في روما، وأبحر من الإسكندرية في 14 ديسمبر، وتعلم اللغة الإيطالية حتى أجادها. وفي يناير عام 1926م نقل من روما إلى مفوضية مصر في برلين وأتقن الألمانية. وعاد إلى مصر عام 1927 حيث تسلم وظيفته في القضاء الشرعي في 19 مارس 1927م.

وفي إيطاليا وألمانيا عطف على دراسته الفكر الديني الأوروربي، وتوصل إلى أن سر عالمية الإسلام تكمن في صلاحيته لكل زمان ومكان وأنه يحمل عناصر التجدد والتطور على أساس التطلع إلى المثالية السامية.

ودعا إلى جعل الإجتهاد أساسا للحياة الإسلامية، وإلى التسامح الديني الرحب، وإلى حرية الإعتقاد وحق الفهم الصحيح للدين. وفهم الدين على أنه إصلاح للحياة لا مجرد طقوس وإجراءات. وإيمانا منه بالحديث الشريف : " إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها.." – أو هذا ما معناه-، لجأ الخولي إلى فهم القدماء للتجديد وإهتم بما قدموه للحياة الدنية من حقائق كالتطور الديني والتسامح الديني وحرية الإعتقاد وإصلاح الحياة والشعور بالوحدة الإجتماعية وسعة الأفق وإجلال العلم.

وأصدر كتابه المهم ( المجددون في الإسلام) أصدر منه الجزء الأول ووعد بالجزء الثاني الذي يبدأ من (الإمام أبو حامد الغزالي)، ولكن الخولي ترك دنيانا عام 1966م ولم يقدر للجزء الثاني أن يصدر.

وقدم "الخولي" ترجمة لعدد من المجددين القدامى.. "عمر بن عبد العزيز" والإمام الشافعي وابن سيرج. وأبو سهيل الصعلوكي والباقلاني وأبو الحسن الأشعري وفي هذا العمل المهم أشاد بالإمام الشافعي ومنهاجه في حفز إخلاص الذين يشعرون بأبويته المعنوية.

وبعد أن عرض "الشيخ الخولي" لثبت المجددين الذين ترجم لهم بين دور مصر (المتجددة بجهاد شبابها) في ذلك وأسهمت فيه بالنصيب الأكبر على سعة البلاد الإسلامية، وعندما إشترك مع نخبة متميزة من الكتاب والمفكرين في تأليف (تاريخ الحضارة المصرية) الذي أصدرته في أجزاء متفرقة (المؤسسة المصرية العامة للتأليف) أعد "أمين الخولي" البحث الخاص (الحياة الدينية في مصر الإسلامية من ظهور الإسلام إلى مطلع العصر الحديث).. والمصريون كما قال هيرودوت – أشد البشر تدينا، ولا يعرف شعب بلغ التقوى درجتهم فيها وصورهم بجملتهم تمثل المصريين يصلون أمام الآلهة، وكتبهم على الجملة أسفار عبادة وتنسك.

عندما إشتعلت ثورة 1919م تولت (جميعة إخوان الصفا) التي تكونت في مدرسة القضاء الشرعي، تولت تنظيم الطلاب وتحريضهم للإشتراك في المظاهرات الوطنية، وتكونت الجمعية من "أمين الخولي" وعدد من زملائه وقد عرف "الخولي" أسلوب (الجمعيات) في التعبير عن مشاعره الوطنية، أو دعواه إلى الإصلاح الإجتماعي. وإشتغل أعضاء (جمعية إخوان الصفا) بالأدب والفن وتعلم اللغات الأجنبية – بالمدرسة الفرنسية بباب اللوق. وإعتاد أعضاؤها أن يلتقوا في بيت أحدهم مرة في الأسبوع وتمتد أحاديثهم من الظهيرة إلى المساء. وفي بداية الثلاثينيات أعلن "سلامة موسى" عن تأسيس (جمعية المصري للمصري) تدعو إلى تشجيع البضائع المصرية ومقاطعة البضائع الأجنبية وإنضم إليها "أمين الخولي"، ويقول "الأستاذ الخولي" أإنه تعرف إلى الشيخ حسن البنا ولكن لم يشترك في (جماعة الإخوان المسلمين) لأنه يريد الإستقلال الفكري وإن كان قد إشترك في (جمعية الشبان المسلمين)، وذلك لإحياء الرابطة بين الشعوب الإسلامية.

وعام 1944 تأسست (جماعة الأمناء) والتي دعمها التلاميذ الذين تخرجوا من قسم اللغة العربية في الخمسينيات. أصبحت تعنى بالفن والحياة عندما ثارت معركة (الفن للحياة) التي قال بها "الدكتور محمد مندور" أو (الفن للفن) التي قال بها أستاذنا "الدكتور رشاد رشدي"

المهم أن جماعة الأمناء ظلت نشيطة حتى رحل "الأمين الأول – أمين الخولي" في الساعة الثالثة بعد ظهرا الأربعاء التاسع من مارس عام 1966م، وعاد جسده إلى قريته (شوشاي)، وتولى الإشراف على (الجماعة) تلميذه النجيب "د. شكري محمد عياد".

وكان "أمين الخولي" يؤمن أن الريف هو مصر، فسعى إلى الدعوة لمعالجة مشكلات الريف فأسس عام 1945 (جماعة حياة القرية) في قريته (شوشاي).

إذا كانت خطوات "الشيخ الخولي" شابة تحمل معنى القوة والعزم والثبات، وإذا كان صوته جهوريا يصدم صداه جدار الغرفة، وإذا كان منهجه مع تلاميذه تميز بالصرامة فإن قلمه في الصحف التي كتب فيها تتميز بإستقامة المنطق وسلامة التفكير والتعبير.

كتب في مجلة (القضاء الشرعي) ورأس تحريرها وكتب في مجلة (السفور) التي أصدرها "عبد الحميد حمدي" عام 1915م إمتدادا ل(الجريدة) التي توقفت في ذلك العام، وظلت السفور تصدر حتى عام الثورة 1919م. وكتب في مجلة الرسالة التي أصدرها ورأس تحريرها "أحمد حسن الزيات"، وكتب "الخولي" على صفاحاتها مقاله الشهير في أول فبراير عام 1933م عن (التجديد في الدين).

وكتب في السياسة الأسبوعية والبلاغ. قبل ثورة 1919 بأسبوعين كتب في السفور يقول: إن الوجود الأجنبي أصاب بلادنا بتمزق نفسي واسع المدى، وأصيب الكثيرون بنزلات فكرية حادة.. وعلى أبناء هذه الأمة أن يتطلعوا إلى ماضيهم ليستروحوا ريح المجد ويستشرفوا شرف الكفاح، ويتخذوا من تاريخ بطولاتهم سبيلا إلى غد آخر وأكرم.

وسنة 1956 أصدرت (جماعة الأمناء) مجلة (الأدب) التي ظلت تصدر لعشرة أعوام على نفقة "الشيخ أمين الخولي".

في إبريل سنة 1956 أصدر "الأستاذ أمين الخولي" مجلة الأدب مدرسة للفن والحياة على نفقته الخاصة ولتعيش عشر سنوات إنتهت في مارس عام 1966 عام رحيل الأستاذ نفسه.

وبدأ "الشيخ أمين الخولي" مشوار حياته في أول مايو عام 1895 في قرية (شوشاس) مركز أشمون، محافظة المنوفية. في القاهرة دخل مدرسة لافيسوني ثم مدرسة المحروسة. حفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره. وتخرج من مدرسة القضاء الشرعي، وعين مدرسا بها في 10 مايو عام 1920. وعام 1923 عين إماما للسفارة المصرية في روما ونقل إلى مفوضية مصر في برلين عام 1926. وعاد عام 1927 إلى وظيفته في القضاء الشرعي. وإنتقل إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب 1928. وأصبح رئيسا لقسم اللغة العربية، ثم وكيلا لكلية الآداب في 1946م. وعام 1953 عين مستشارا لدار الكتب، ثم مديرا عاما للثقافة حتى خرج إلى المعاش أول مايو 1955.

كتب في عديد من الصحف والمجلات وأصدر العديد من الدراسات والأعمال الإبداعية وأسس جماعة الأمناء عام 1944 ومجلة الأدب عام 1956، عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة عام 1966. وفي الساعة الثالة بعد ظهر يوم الأربعاء التاسع من مارس عام 1966 رحلت روحه عن دنيانا وعاد جسده إلى قريته شوشاي.

وتقول الكاتبة الكبيرة تلميذته وزوجته الثالثة "د. بنت الشاطئ": "على عيني اقتحم ناس غرباء مخدعه لتجهيز جسده للرحلة الأخيرة".

 

بقلم: د.يسري عبد الغني

.......................

الأسانيد

أمين الخولي: المجددون في الإسلام.

د. بنت الشاطئ: على الجسر.

د. حسين نصار: أمين الخولي.

د. فاضل الأسود: الرجل والقمة.

د. كامل سعفان: أمين الخولي.

د. مهدي علام: المجمعيون في خمسين عاما.

لمعي المطيعي: موسوعة هذا الرجل من مصر، دار الشروق، 2006.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم