صحيفة المثقف

خالد جودة أحمد: صيحة منذرة قبل السقوط

خالد جودة احمداستمعت إلي إلقاء المثقفة أستاذة/ سعادات حجازي، في ملتقي ثقافي مشهود، لنص شعري معنون "أصوات كادت تسقطُ في الخريف" للشاعر/ السيد جلال، وعقبت حول تفسيرها للنص في خاتمة القراءة، بأنه نص يحتاج إلى وجوه من التفسيرات، وبالفعل نجد بعض النصوص كذلك، كما قيل "تمنع النص متعة المتلقي"، لكن الحقيقة أن تمنع النص متعة القارئ في الأساس، فحينها لا يكون متلقيا بل قارئا يساهم في انتاج الدلالة للنص الأدبي.

وأشير لمقولة مهمة يشتملها الشعار: "التأويل لا التقويل"، حيث التأويل ليس شرطا أن يتفق مع قصدية الشاعر، لكن شرطا أن يكون له ممكناته وشواهده في المتن النصي ذاته، كما أن هذا المعني ينفي الفكرة المشهورة حول "موت المؤلف"، حيث لا تنقطع بنوة النص لمؤلفه، فله قصدية من الكتابة لها الاعتبار، كما أن للتأويلات -لا التقولات- التي تفارق القصدية الأصلية، لها اعتبارها ودليلا على غناء النص، وهذا يهدم مذهب يقول "أن كل قراءة هي إساءة قراءة"، حيث لا يجب أن نَقُول المبدع وهو سلطان نصه ما لم يقله –غضب همنجواي أشد الغضب عندما واجهوة بتقولات كثر حول رمزية السمكة والبحر في روايته الشهيرة "العجوز والبحر"، وقال السمكة هي السمكة والبحر هو البحر- لكن من ناحية أخرى يجب أن يلقي المبدع في خبايا سطرة علامات هادية، ومفاتيح ترشد القارئ لقصدية يراها، ولا بأس من رموز يلتقها القارئ طبقًا لثقافته، يفسر بها تفسيرًا جديدًا للنص، ويضيف إليه، طالما كانت له شواهده النصية، ومنطقه الحكيم، واستدلاله الموفق في تذوق النص.

وفي النص معنا ومع علامته الأولي"أصوات كادت تسقطُ في الخريف" نهتدي أنه ليس نصا وحيد المعني، حيث نجد إبدال مفردة "أصوات" بأصلها "أوراق خريفية"، والأخيرة من طبيعتها أنها تسقط في الخريف، لكن المفردة الأخرى "الأصوات" التي حلت محلها كادت تسقط، أي فارقت تلك الطبيعة (طبيعة الانهيار)، بالتالي ليس هذا إبدالا، حيث للأصوات قدرة علي المقاومة والبقاء، وهنا نجد تحفيز القارئ عبر السؤال لماذا؟، وما الذي جعل الأصوات قادرة على كبح الانهيار والسقوط؟، وهذا لا يمكن الاهتداء إليه إلا بمطالعة النص للوقوف علي حيثيات وتفسيرات هذا جميعة، بالتالي العنوان كان موفقًا في جذبه القارئ للاهتداء لمعالم التجرية الشعرية في القصيدة

تستهل القصيدة ذاتها بضمير الخطاب الموجه لشخصية مؤنسنة من عالم الأشجار"جذوع البساتين"، بما يتفق مع معطي العنوان، حيث الخريف يَجْرِي أثره على البساتين والأشجار، يقول القصيد: "يا جذوعَ البساتينِ / وتيناً وزيتونْ / ليتكُمْ تنظرون إلى العالم ِ/ ليتكم تنظرونْ......! / فنحنُ زهورُ حياتِكم / هكذا نحنُ، / وردٌ رقيقٌ يميلُ إلى / ضحكاتِ الشموسِ الجميلةْ / وفراشٌ يحِنٌ إلى نسماتِ / الهواءِ الطريّ"

كما أن هناك شخص آخر يوجه الحديث من عالم النبات "الزهر / الورد الرقيق" الذي حضر بأوصاف كثر في القصيدة، يحاور الطرف الآخر من أجل هما يسكن ذات هذا الورد الرقيق، يفضي به طالبا "ليتكُمْ تنظرون إلى العالم"، وتبدو خاتمة القصيدة منذرة في إطار هذه المناجاة "أنتُمُ الوائدونْ / ليتكم تفهمونْ...!!". كما أن الخطاب يأتي من الحديث موجها للتراث، أو من الجديد والفروع التي تهمس للجذور.

لكن تحضر "وتيناً وزيتونْ" لتكون مفتاحا من أهم رموز فك تشفير القصيد، وجميل أن دفع به الشاعر في مستهل قصيدته، ليؤطر التلقي ويهدي القراءة. وفي تفسير الطبري للآية الكريمة "والتين والزيتون": "عن سيدنا كعب أنه قال في قول الله تعالى"وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" قال: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس"، بالتالي هذا منحي يمكن رسمه والسير في ظلاله لكشف مرامي النص، أنه يهمس بشأن عروبي، وأسي الجيل المعاصر وهو يرجو من آبائه البصيرة بعصرهم، وما ألم به من عواصف ومتغيرات، بحيث يعي الشيوخ، ورواد الفكر، وقطاع النخبة أن الشباب "وردٌ رقيقٌ يميلُ إلى / ضحكاتِ الشموسِ الجميلةْ" ويسرد أن مقولة الصراع بين الشباب والشيوخ أكذوبة، فهما من أصل واحد وشجيرة واحدة، ينتمون لبعضهم البعض، "فنحنُ زهورُ حياتِكم / أنتُمُ الزارعونَ شُجيراتِنا .. في حقول الحياة.... كما أنتُمُ الحاصدونْ"

ويبدو البوح النداء الأخير، والصيحة المنذرة للمآل الكسيف (أنتُمُ الوائدونْ)، وهذا يفسر أنها كادت تسقط في خريف العروبة الداهم، يقول القصيد: " ليتَكُمْ تشعرونْ  !! / ليتكم تعرفون مدى حُلمِنا / أنتُمُ الزارعونَ شُجيراتِنا / في حقول الحياة.... / كما أنتُمُ الحاصدونْ / أنتُمُ الوائدونْ / ليتكم تفهمونْ...!!"

كما يمكن التأويل عبر تبئير أكثر تحديدا حول الصلات بين الأبناء والآباء، وإن كانت تلك الصلات هي جسرًا للشأن العام وصلات الأجيال في النسيج الاجتماعي الشامل.. 

وأيا كانت التأويلات، فالشاعر لا يقدم مذكرة تفسيرية لنصه، بل يدعه –عبر وظيفة اللغة الشاعرة- منبها أن هناك خطر يشملنا ولا مفر منه، فالعالم  يمور بتحديثاته ومذاهبه وأفكاره يقتحم بها علينا سقوف بيتنا وحوائط فكرنا، فماذا نحن فاعلون؟

 

خالد جودة أحمد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم