صحيفة المثقف

علي محمد اليوسف: الفلسفة: شذرات إشكالية

علي محمد اليوسف1- كانط والمعرفة:

احدى مقولات كانط الفلسفية ذات الحمولة الثرّية المدخّرة قوله "المعرفة تبدأ بالتجربة لكن لا تنشأ عنها" ليس من السهل الوقوف على فهم شاف لما يرغب كانط التعبير عنه بعبارته هذه، وسبق أن شرحها العلامة دكتور عدنان ابراهيم في إحدى خطبه على موقع يوتيوب شرحا فلسفيا يحسب له وليس لعبارة كانط. وكان شرحه لها ملتبسا عليّ فهمه في توازي شغفي الكبير معرفة معنى عبارة كانط المفعمة بالتعبير الفلسفي العميق.

ماجعلني أذهب في مقاربة لما تحمل عبارة كانط من حمولات تاويلية ثرّة. كانط حسب فهمي لعبارته أن التجربة السابقة على المعرفة ليست هي تجربة العقل وإنما هي تجربة الحواس البدئية الاولية في الادراك السابق على المعرفة في تفريقه معنى الادراك عن معنى المعرفة... لماذا؟

كون التجربة العقلية هي تجربة معرفة وليست تجربة ادراك فقط، تلازم موضوعها ولا تتركه من دون الخروج بمحصلة البرهان معه أو ضده.، بخلاف تجربة الحواس التي هي نقل انطباعات الاحساسات التي تنطبع بالذهن وتنتهي في عملية التجربة بالادراك الاولي للاشياء، وتجربة الاحساسات تجربة فاقدة لبرهانها اليقيني التجريبي فهي ليست خاضعة لبرهان العقل. إذ الانطباعات تكون سطحية وسريعة المروق من الذهن قبل إستكمال العقل البت بها كافكار عقلية وليس إنطباعات ذهنية متحولة بسرعة غير ثابتة. الانطباعات هو ما تدركه الحواس وتطبعه الاحساسات الناتجة عنها بالذهن، والانطباعات ليست أفكارا مصدرها العقل فما يصدره العقل بخلاف مدركات الحواس هو مقولات معرفية وليس انطباعات زائلة.

ما تنقله الحواس هو الانطباعات الادراكية المنقولة لمؤثرات التجربة الحسيّة الاولية العابرة للذهن التي لم تكن ناشئة عن تجربة إكتسبت برهانها العقلي. وهنا تصبح التجربة ليست تاكيدا لبرهان العقل كاملا بل الشك بها على أنها ناتج إدراك حسّي ناقص غير مكتمل عقليا.إدراك الشيء حسيّا إنطباعيا هو ليس معرفة ذلك الشيء معرفة عقلية حقيقية. المعرفة تسبق الادراك العقلي الى إصدارفكري يصدره العقل.

2- كانط والادراك:

اعود ربما للمرة الخامسة أو أكثر مناقشة مقولة كانط الفلسفية الاخرى إعتباره الزمان والمكان قالبين فطريين مركوزين بالعقل وهما وسيلة إدراك العقل لكنهما ليسا موضوعين يدركهما العقل مجردين عن تلازمهما لموضوعي إدراكهما.فالزمكان هو وسيلة معرفية للعقل وليست موضوعا يدركه العقل.

بمقدار وجاهة وصوابية هذا الاستنباط الفلسفي العقلي إلا أنه يفتقد خصائصه البرهانية القاطعة في إثباته، إذ ليس بالضرورة أن يكون قالبا الادراك الزماني - المكاني مركوزين فطريين من دونهما يتوقف الادراك العقلي للاشياء والموضوعات.

ما يدركه العقل قد يبدو حقيقيا لكنه لا يمثل معرفة يقينية ثابتة تامة له...إدراك الشيء لا يعني معرفته الحقيقية. ولا أعني بهذا التفسير محاكاة أفلاطون أن شبحية العالم الذي نعيشه من حولنا يحجب عنا عالم المثل الصحيح التام الكمال الذي لا ندركه في عالمنا الوهمي هذا.

قالبا الزمان والمكان هما وسيلة إدراك لكنهما لا يكونان موضوعين لادراك العقل مقولة صحيحة تماما. فادراك العقل لموضوعه لا يعني معرفته وهذا ينطبق ايضا على عدم إمكانية العقل معرفة ماهية الزمان مجردا عن مقدار حركة الاجسام داخله وليس مع تجريد الزمان عن مكان يلازمه. عدم إمكانية العقل إدراك الزمان تجريدا أصعب كثيرا من عجزه معرفة الزمان بدلالة المكان. وبمقدار ما يكون الزمان وسيلة إدراكية فهو لا يكون موضوعا لادراك العقل. الزمان مطلق أزلي لا يدرك الانسان ماهيته. فهو وسيلة إدراك العقل للاشياء لكنه لا يكون هو موضوعا لادراك العقل.

3- هيوم والعليّة:

نال ديفيد هيوم سخطا كبيرا حين أنكر ما لا يعقل إنكاره مثل مقولته المثالية لا وجود للعقل الذي أيّده بها بعد قرون طويلة فيلسوف العقل الانجليزي المعاصر جلبرت رايل في مقولة له "لا يوجد ما يسمى عقلا ابدا" يلاحظ رايل لم يقل (مطلقا) بدلا من قوله (أبدا)، فالأبد ربما يتحقق لاحقا ، بينما المطلق فهو أزل لا يمكن إحتمال تحققه الادراكي لاحقا. كما أنكر هيوم العالم المادي الخارجي خارج إدراك التجربة الحسّية. كما وأنكر مبدأ السببية ايضا، وقال لا يوجد سلسلة لانهائية من المتواليات الرياضية تحكم ظواهر حياتنا تتوزع بين علة ومعلول تحكم الظواهر والاشياء من حولنا، حيث نجد تفكيرنا يتوقف تماما عندما يصل الى علة بلا معلول في وجود الخالق الذي يتوجب علينا الإيمان بهذه العلة خارج أحكام السببية ونؤمن بوجود الله علّة كل الاشياء الذي لا تسبقه علة موجدة تخليقية له سابقة عليه..

ولم ترق لديفيد هيوم هذه النتيجة النهائية وهو ذلك الملحد العتيد الذي يمّجد التجربة الحسّية ولا يعترف بشيء اسمه ميتافيزيقا من أي نوع كانت. لذا إعتبر هيوم مبدأ العلية ليس وسيلة معرفية موثوقة لفهمنا العالم من حولنا.معتبرا السبب والنتيجة هما تكرار لحقائق تربطها علاقات تكرارية متلازمة مع ظروف ملازمة لها بعينها لا تتغير ليست سببية لكنها علاقات تصبح يقينينة بحكم التكرارللظاهرة السببية التي ينتج عنها (عادة) تلازم الحكم على تلك العلاقات على أنها سببية. مثال ذلك حسب هيوم حين تتكرر ظاهرة الاحتراق كنتيجة يولدها سبب النار فهي تصبح بمرور الوقت وتكرارها بلا ما لا يحصى من المرات (عادة) يعاملها العقل معاملة اليقين السببي أن الاحتراق نتيجة لسبب هو النار.

4- مصطلح جدل الجدل:

مصطلح جدل الجدل قرأته في احدى مقالات الباحث السوري محمد ديوب المنشورة على موقع الحوار المتمدن لاول مرة ولا استطيع الجزم نسبة المصطلح له لم يسبقه به أحد غيره، وتناولت المصطلح في مقالة لي بعنوان (جدل الجدل والمجانسة النوعية). ملخصها حسب إجتهادي الفلسفي أن جدل الجدل هو ديالكتيك خارج علاقة المادة بالفكرماركسيا حيث ينفصل في هذا النوع من الجدل الزائف غير الحقيقي الفكر عن المادة في علاقة وهمية شكلية ليست حقيقية الحدوث. بفعل إنعدام حاكمية المجانسة النوعية المختلفة بينهما المادة والفكر(اختلاف الماهية والصفات بينهما). جدل الجدل في المجانسة النوعية للمادة يكون ديالكتيكا داخليا لها خارجيا منفصلا عن تعالقها بالفكرجدليا. ويكون جدل الجدل بالفكر ايضا داخليا بالنسبة له خارجيا بالنسبة للمادة في علاقتها بالفكرتكامليا وليس جدليا...بمعنى لا يوجد في هذا الديالكتيك المزعوم وحدة تناقض الاضداد في مجانسة نوعية واحدة تجمع المادة والفكر في علاقة جدلية تقوم بينهما. بل تجمعهما علاقة تكاملية على مستوى ابستمولوجي صرف. فرق علاقة الديالكتيك الجدلي الذي يحكم متضادين أنه ينتج عنه ظاهرة مستحدثة جديدة تسمى المركب الثالث. بينما تكون علاقة التكامل المعرفي بين مادتين أو بين ظاهرتين لا يشترط تحكمهما علاقة التضاد الجدلي في استحداثهما الظاهرة الثالثة الجديدة فتكون علاقتهما تكامل معرفي لا يلغي أحدهما الاخر كما في تضاد الديالكتيك الجدلي.

جميع التعبيرات اللغوية الخاطئة التي تصف علاقة شيئين مختلفين بالمجانسة النوعية، أي مختلفين بالماهية والصفات على أنها علاقة جدلية وليست علاقة تكامل بينهما تفرضها ظروف موضوعية هو إسفاف متعمّد بالخطأ. الذي يحاول إنابة وضع علاقة جدل وهمي زائف محل علاقة تكامل تخارجي معرفي بين الاشياء وموجودات العالم الخارجي.

المقصود بالمجانسة النوعية للشيء هي الصفات والماهية لذلك الشيء المتفرد بها كخاصيّة لا يشاركه الفكر بها والتي لا تشابه ولا تلتقي بغيرها من المواد الاخرى في المجانسة النوعية، وهنا يكون معنا خاصية الفكر الاجناسية هي تجريد لغوي صوتي، في حين تكون المجانسة النوعية للمادة هي غيرها لا تحمل هذه الصفة الخاصية الملازمة للفكر لذا لا يمكن حصول جدل ديالكتيكي بينهما أي بين المادة والفكر في إختلاف المجانسة النوعية بينهما.

صفات المادة وماهيتها لا تلتقي يالمجانسة النوعية الموحدة مع صفات وماهية الفكر. الشيء الاخر الذي لا يقل أهمية أن المجانسة النوعية (خواص الماهية والصفات) في الفكر هي من نوع المتغيرات الطارئة على تغييرات الفكر باستمرار وهو ما لا تتوفر عليه المادة في ثبات صفاتها وماهيتها.

5- تنظيم الذاكرة:

يذهب باشلار في تاكيده أهمية الاستذكار النفسي الزمني معتبرا " الانسان لا يتذكر بمجرد التكرار وأنه لا مناص له من تركيب ماضيه، فالسمة هي حكاية النزوع في الأنا، ومع الإستذكار لا يكتمل عمل التذكر أبدا، فالاستذكار لا يتناهى عندما ينتهي الحدث لأن الذاكرة تكتمل بالصمت "1.

بالحقيقة ما إستوقفني مليّا هو تعبير باشلار نهاية العبارة "الذاكرة تكتمل بالصمت" لما تحمله من تاويل نافذ. اذا ما إعتبرنا التذكر هو عملية إستعادة تداعيات الصور الخيالية المخزنة بالذاكرة. عندها لا توقف الذاكرة قابليتها على الاستذكار الماضوي "خياليا" كون الخيال هو إستذكار دائم الحصول متواتر في تداعيات من الشعور المسيطر عليه عقليا. تداعيات متسلسلة قائمة أساسا في صمت الذاكرة إستيلادها الخيال وليس التوقف عن الكلام بمضمون تفكيرها الذي هو أساسا غير مطلوب الحضور لا في فعالية التذكر ولا في صمت الذاكرة عن الإسترسال بإستعادة تداعيات الخيالات غير الصوتية غير الناطقة. الاستذكار الخيالي خيال تصوري لغوي لتشييء وقائع تاريخية غير ناطقة يحكمها الشعور وليس تداعيات اللاشعور.

ميزة الخيال انه صورتشييئية في التعبير عن وقائع وشخوص لا صوتية لكنها لغوية من الاستذكارات الماضية والخيالات الاستيلادية الجديدة المتلازمتين. هما في كلتا الفعاليتين حقيقة فعالية واحدة تقوم على صمت الذاكرة وليس في إنعدام التفكير بالخيالات في الصمت المنسوب للذاكرة وليس الخيال. صمت الذاكرة الاستذكاري للماضي هو نفسه صمت التفكير في تعبيرها الحاضر عن الماضي. صمت الذاكرة صمت بيولوجي لا يمتلك غير وسيلة تعبير اللغة. لذا أجد أن تعبير الذاكرة تكتمل بالصمت لأنها دائمة الاسترسال في التذكر الذي لا يتوقف. صمت الذاكرة تفكير لا يحدّه الزمن.

ما يعني تعبير اللغة عن استذكار الخيالات هي لغة تشييئية صورية غير ناطقة خرساء بلا صوت فقط لكنها شغالة في كل أوقات اليقظة وحتى في أحلام المنام.. ميزة الذاكرة أنها تداعيات نفسية خيالية مكتسبة عن تجارب وخبرة الماضي، لكنها بنفس الوقت تستحدث خيالها الذاتي غير المكتسب عن استذكارات الماضي بتصورات جديدة.

- تنظيم الذاكرة كخبرة تراكمية مكتسبة مخزّنة في حقيقتها عمل إرادي إكتسب جوهره الوظيفي كجزء من عملية إدراك عقلي عضوي – تجريدي. وبدون هذه المرجعية في التنظيم للذاكرة يصبح إستذكار حوادث ووقائع الماضي غير متاحة إدراكيا عقليا منتظما.

- زمن الاستذكار لحدث وقع بالماضي، ليس هو زمن إستذكاره لاحقا بذاكرة الحاضر، إستذكار الماضي يحكمه الحاضرتاريخيا والماضي يحكم الحاضر زمانيا فقط بوقائعه الحياتية التي لم تكتسب ماضوية وقائع ثبات التاريخ. وليس بزمانيته الماضوية التجريدية التي لا يمكن إدراكها بغير دلالة تاريخية.،

فالماضي كزمن وتاريخ لا يعي ذاته ولا يمكنه الحضور خارج إستدعاء الإستذكارات الخيالية الصورية والمتعينّات الاثارية له. الماضي تحقيب تاريخي زمني يكون التاريخ فيه متقدما أهمية الزمن له. والحاضر تأطير زماني ثابت لوقائعه.

- لماذا تكون حاجتنا تنظيم الماضي في إستذكاره خياليا في وقت يكون هو إكتسب نظاميته القطعية بثبات وقائعه التاريخية التي أصبحت جزءا مدركا من ماض. الى جانب أنها وقائع تاريخية حدثت وإتخذت صفة ثباتها.

- تعبير باشلار السابق " الاستذكار لا تناهي عندما ينتهي الحدث لأن الذاكرة تكتمل بالصمت". بالعودة الى أن الإستذكار في حقيقته يجمع زمانين، زمن الحاضرغير الثابت المتغير باستمرار الذي يحصل فيه الاستذكار الخيالي للماضي كوقائع وحوادث تاريخية ثابتة.، وزمن الذاكرة بالاستذكار عملية مزدوجة لا تتم الا بالصمت الذي يجعل من الذاكرة تحقيبا ماضويا في تكامله مع حاضر إستذكاري خيالي يجمعهما كليهما معا في تمثيلهما خاصية الذاكرة التوليدية لهما وليس خاصية أحد الخيالين عن مصدر أخيلة الاخر..

- الارادة الانسانية لا تخلق زمانا تجريديا، بل تخلق زمانا تحقيبيا. والارادة لا يمكنها قيادة زمان بل هي تدخل في علاقة تخارج معرفي في مواضيع يدركها الانسان بدلالة زمانية. الارادة الانسانية بمستطاعها تغيير الواقع في جميع تمظهراته التي يدركها الحس العقلي، لكنها عاجزة عن خلق تلك الوقائع التي تسبق الارادة والادراك العقلي في وجودها الانطولوجي. .

6- أين نجدالمعنى؟

أين نجد المعنى اللغوي الادراكي الذي لا نقصد به معنى اللغة الاستقبالي الصادر عن خطاب بل معنى اللغة الذي نحتاجه في التعبير عن مدركاتنا للاشياء والموجودات والعالم من حولنا. المعنى المنشود باللغة هو في كل الاحوال تجريد صوري للفكر يتوزعه منحيين: الاول حين يكون المعنى اللغوي متموضعا في الشيء الذي نحاول إدراكه إنطباعيا مبدئيا ومن ثم نعرفه عقليا فكريا تجريديا. الثاني هو حين يكون تعبيرنا اللغوي عن الشيء يحركه وعي قصدي سلوكي يتوزعه تداخل عقلي - نفسي يريد فهم معنى الاشياء التي يروم الوعي القصدي النفسي معرفتها وليس إدراكها فقط. العقل لا يكتفي ادراك العالم من حولنا بل يبغي فهم ومعرفة ذلك العالم.

مالفرق بين المعنيين في المعرفة والادراك؟

من الناحية المبدئية لا فرق موجود أن تعبير اللغة عن كل الاشياء والعالم من حولنا هو تصور تجريدي يجمع تعبيرنا التصوري عن المدرك الذي هو الشيء الذي نريد معرفته وليس إدراكه فقط.. لكن المعنى اللغوي الذي يستثيره الدافع المعرفي سايكولوجيا هو محاولة فرض تصوراتنا الذهنية على الشيء المقصود كموضوع إدراكي نريد معرفته. وهنا يكون الادراك على الدوام يسبق المعرفة، الادراك يسبق المعرفة ويختلف عنها.

بمعنى ربما يكون غريبا هو أننا ندرك معنى الشيء الذي نرغبه وليس مهما معرفة معنىاه المتموضع لغويا فيه. تطابق الوعي القصدي لغويا مع ارادة معرفتنا الشيء بما هو فيه من موضعة لغوية تحتويه ولا تكون جزءا منه. تموضع اللغة بالشيء المدرك لنا لا يعني أن اللغة في تعبيرنا عنه أصبحت جزءا تكوينيا منه. بل تبقى اللغة المتموضعة إفصاحيا عن الشيء تجريدا هو خاصية اللغة وليس إندماجا تكوينيا في الشيء الذي ندركه ونعلمه بلغة تجريد عنه.

معنى اللغة السايكولوجي الذي يقوده الوعي القصدي يحمل معنى تحققه بالضرورة القصدية القبلية في المعرفة وليس المعرفة البعدية في الشيء. نادرا ما يكون معنى اللغة الذي نحمله في محاولتنا مطابقته مع حقيقة الشيءفي وجوده لا يكون متناقضا مع المعنى اللغوي المتموضع بالاشياء الذي يقاطع المعنى القبلي الذي مصدره سايكولوجيا الوعي القصدي.، والسبب أننا لا نعرف الشيء من دون أمتلاكنا معلومات قبلية مخزّنة لدينا عنه. على سبيل المثال اذا وضعنا أمام شخص جهاز حاسوب ولم يسبق له أن رآه سابقا بحياته ولا يعلم أبسط الاشياء عنه فإنه سوف لن يكون بإستطاعته التعبير اللغوي الصحيح لما تدركه الحواس وتفكير العقل عن الحاسوب. هنا تكون المعرفة القبلية المكتسبة عن الاشياء مهمة جدا لامكانية التعبير عنها.

ربما يقودنا هذا الى تفسير خاطيء أن ما نمتلكه من معارف لغوية قبلية عن الاشياء هي معارف يقينية فطرية صادقة، في حين أن كل معارف الانسان مكتسبة حتى مواضيع المخيلة ألمخزنة منها والمستحدثة خياليا. فطرية المعرفة هي فطرية الاستعداد للادراك وليس فطرية المعرفة المزعوم تخزينها بالدماغ. حين نقول معرفة الشيء تتطلب خزين معرفي مسبق يمتلكه العقل عنه فلا نعني بهذا أن إدراك ومعرفة الشيء لا تتم إلا بمعرفة فطرية عنه، وليست مكتسبة عنه. وهو خطأ صحيحه معرفة الشيء ليست فتحا بكرا له بعد أن كنا لا نمتلك شيئا إدراكيا ولا معرفيا عنه. هذا مطابق فهم باشلار أن المعرفة لا تبدأ من الصفر.

معرفة أي شيء لا ينبع من فراغ سابق عليه بل من معارف مخزّنة نعرفها عنه وبذلك تكون المعرفة تراكم خبرة مكتسبة مضافة وليس معرفة شيء لم يسبق لنا أن أدركناه أو على الاقل سمعنا أو شاهدنا بعض المعلومات عنه أو قرأنا بعضا عنه.

7- الذاكرة والنفس:

الذاكرة بحسب فهمنا باشلار حول مصطلحه الفلسفي تنظيم الذاكرة يرى (انها لا تحتاج التكرار الاستذكاري للماضي) بل تحتاج التنوع الاستذكاري القائم على الاختيار والارادة النفسية. هذا المنطوق الفلسفي يجعل من الذاكرة في حالة التنظيم لنفسها هي حالة إستذكار نفسي لا علاقة ترابطية لها بوقائع الماضي التي نتصورها لها تاثيرا مباشرا على تنظيم الذاكرة ليست المنعزلة بقواها الذاتية كما يرغبها باشلار. الذاكرة لا تخلق عوالم الخيال فقط بل بحاجة تنظيم مكتسباتها المعرفية السابقة بضوء ما تستحدثه من افكار جديدة.

بضوء هذا الفهم يكون الإستذكار المنّظم هو تخليق ذاتي لما ترغبه النفس وليس تكرار ما يفرضه الخيال الاستذكاري لحوادث الماضي وبدلالتها تكون الذاكرة مرتكز النفس وليس الذكريات الماضية هي المرتكز الذي تدور حوله الذاكرة.

من أهم المعضلات التي تصادفنا هنا هي هل الذاكرة إجترار تكراري استذكاري لوقائع الماضي بما ترغبه النفس؟ أم هي توليد إبتكاري إستذكاري خيالي جديد لا علاقة دلالية تربطها بالماضي من الناحية الواقعية حيث عندما تكون خيالات الذاكرة تخليقا متجددا تبتدعه المخيلة المترابطة مع استذكار وقائع الماضي يكون هو السائد المعول عليه فلا يبقى حينها معنى أن يمتلك الماضي ما هو مادة تشكيلية لما ترغبه النفس. كون اصبحت خيالات الذاكرة تصنيع ذاتي منظم .

نخلص تثبيت الاتي:

- تنظيم الاستذكار بما يريح النفس وترغبه يقوم على المنفعة التي تتحكم بها الذاكرة وليس الماضي بحوادثه التي تستثير خيال الذاكرة. حين تكون الذاكرة متحكمة بمواضيع الخيال تصبح معها عملية الاستذكار لا يحركها الماضي بل يتحكم بها حضور الذاكرة الاستذكاري.

- تنظيم الذاكرة يتم بما ترغبه النفس لا بما تفرضه خيالات الاستذكار المتعالقة نفسيا بالماضي تجريدا عن مؤثرات حوادث التاريخ في ثباتها الزماني. نحن نستذكر من التاريخ الماضي القطوعات الوقائعية التي حدثت بما نحن نريد نفسيا إستذكاره غير المحزن منه.

- تنظيم الذاكرة لحوادث ما ترغبه النفس من الماضي، هو تنظيم لا يمكن التلاعب بثباته في إكتسابه واقعة الزمن الماضي كحدث. بل كل تنظيم ذاكراتي يلزم عنه إرادة نفسية ترغبه هي تعيش الحاضر ولا علاقة معيقة لها في ثبات وقائع الماضي بحوادثه المتنوعة فيها البهيج السعيد وفيها المحزن الكئيب.

- لماذا نرغب تنظيم الذاكرة برغبة الانجرار الى استذكار الماضي وليس الانجرار تجاه المستقبل؟ هل كاف السبب أن الماضي يحتوي ثبات وقائعه التي تتسم بمعيارية صالحة للقياس بها؟ في حين يكون المستقبل هلاميا غير واضح لا يمكن للذاكرة الركون المعياري له بما تركن وترغب الذاكرة تكييف دوافعها النفسية بدلالته. ربما تبدو مفارقة غريبة أن طموحات ورغبات النفس يكون مرجعية إستنادها الماضي التي تجد نفسها فيه ولا تجدها في المستقبل.

8- برجسون والعدم:

يعتبر برجسون فكرة العدم وظيفيا أغنى من فكرة الوجود للسبب الذي يسنده " فكرة العدم قد لا تتدخل ولا تتبلور إلا بزيادة وظيفة إضافية للاعدام على شتى الوظائف التي نطرح الوجود بواسطته ونصفه".

العدم بإجماع فلسفي علمي ايضا هو ليس جوهرا لا فارغا ولا ممتلئا، العدم هو المطلق الذي لا يحدّه الادراك زمكانيا. فكيف نتمكن تحميل العدم حمولة موجودية وظائفيا أكثر من حمولة أي موجود مادي في الوجود؟

وإذا كان العدم حسب برجسون جوهرا ممتلئا بأكثر مما يحتويه الوجود، تكون عبارته صحيحة حينما تكون علاقة الوجود بالعدم علاقة عكسية وليست علاقة طردية، فكل ما يخسره الوجود من موجودات يفنيها العدم كلما زادت كفة العدم في الإمتلاء المزعوم حسب برجسون.

واذا ما كان العدم حسب برجسون جوهرا ممتلئا باكثر مما يحتويه الوجود، فبإي منطق فلسفي يمكن تصويب مثل هذا الجزم الفلسفي؟

واذا كان هيدجر إعتبر العدم جوهرا ممتلئا في تعبيره الهروبي الفلسفي من مواجهة الاشكال العدمي متسائلا لماذا كان الوجود ولم يكن العدم؟ وهو تعبير يضع العربة أمام الحصان، لذا نجد ليس غريبا تمجيد برجسون للعدم أنه إمتلاء بما لا يستطيع الوجود الإمتلاء به.

كما يعتبر الجوهر الذي من الممكن إنسحابه شمول العدم هو جملة إمكانات غير قابلة للنفاذ على حد تعبيره. العدم لا يكون جوهرا فاعلا حيويا ممتلئا بالامكانات خارج خاصيته الافنائية العدمية لموجودات الوجود، وكما أن العدم غير مدرك انطولوجيا ولا حدسيا بالدلالة الشيئية فكذلك يكون  الجوهر هو كل عصي على التصور الادراكي ماديا أو خياليا.

ومتى كان العدم معياريا تقاس به جواهر موجودات الطبيعة التي هي قيد الشك المتسائل. ؟ ومتى كان الجوهر يسبق الوجود المادي ويملأ الفراغات؟ جوهر المادة لا يسبق وجودها الانطولوجي، لذا يعرف الجوهر بدلالة الوجود، وهذه المقولة عكسها اسبينوزا قائلا الوجود بموجوداته يقاس بدلالة الجوهر الشامل الخالق غير المخلوق لجواهر الاشياء الذي هو الله.. الجوهر يسبق الوجود المادي في مذهب وحدة الوجود لدى اسبينوزا ومع هذا بقي الانسان جوهرا لا يدرك بدلالة الجوهر الالهي ميتافيزيقيا، من حيث أن جوهر الانسان يمكننا إدراكه مقارنة بالجوهر الالهي الذي لا يمكننا إدراكه. وكينونة الانسان الوجودية تسبق جوهره. وحسب فلسفة سارتر فالانسان يوجد وبعدها يقوم بصنع ماهيته الجوهرية الخاصة به وحده منفردا داخل نوع متجانس واحد هو الانسان.

 

علي محمد اليوسف / الموصل

..........................

هامش

1- جاستون باشلار /جدلية الزمن / ت:خليل احمد خليل/ص67

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم