صحيفة المثقف

عصمت نصار: مشروع الجابري والمتلاعبين بالعقول

عصمت نصارسألني أحد الأصدقاء وجماعة من القرّاء عن علاقة مشروع الجابري وأقرانه ومن نحى نحوه من المثقفين المعاصرين في مصر بظاهرة تقليد الغافلين؟! وأثر خطابات المتلاعبين بالعقول في ما تعانيه ثقافتنا من تخبط وتطرف. وتساءل فريق آخر عن طبيعة ذلك الاجتراء، وهل اقتصر أثره على المفكرين العلمانيين، بل أصحاب العمائم والجلابيب أيضاً، ومن نطلق عليهم مثقفي وأدعياء الفكر الإسلامي في الأقطار الإسلامية؟ الأمر الذي دفعنا للحديث عن مصطلح "السم في العسل" عند المجددين والمجترئين.

نقول إن الأدعياء من الكُتاب ومحترفي التلاعب بالعقول والبارعين في تلبيس الأكاذيب ثياب الحقائق هم الذين يسبكون الحق بالباطل. ومن ثمَّ يحفل موروثنا الثقافي بعشرات الأمثال من المواعظ والحكم التي تؤكد ذلك الدهاء دون ذكر لقائلها أو تحديد الحقبة الزمنية التي أنتجها فيها العقل الجمعي أو الواقعات والظروف التي جعلت مثل هذه الأقوال بمثابة حقائق لا يمكن الشك فيها.

فمن أشهر هذه الأقوال إن المخادعين هم الذين يضعون السم في العسل لأعدائهم الجائعين والبلهاء شأنهم شأن المنافقين والغشاشين، فجميعهم يقدمون الحقد والداء في صورة الدواء للجهلاء ويبيعون ترياق الأفاعي على أنه البلسم الشافي لمن يكرهون. الأمر الذي يبرر تكرار هذا القول في وصف كتابات غلاة المستشرقين ودعاة الإلحاد والفلسفات النقدية ومنكري الربوبية والأديان السماوية، وكذا المتعصبين للجماعات والطوائف والأيديولوجيات والمذاهب الراديكالية Radicalism والرؤى الشيفونية chauvinism .

وحديثاً قد ارتبط هذا المثال (وضع السم في العسل) بمصطلح (نظرية المؤامرة) الذي ذاع في كتابات السياسي الأمريكي مايكل باركون (1938م-) وكان أول ظهوره في الصحف عام 1920م، ثم تناقلته المنتديات الثقافية والمحافل السياسية والفلسفية عام 1960م في الثقافتين الغربية والشرقية، ولم يستقر في المعاجم أو الموسوعات إلا في عام 1997م.  أمّا عن الحقبة الزمنية التي حفلت بكتابات المفكرين المسلمين عن الحمالات العدائية الغربية تجاه الفكر الإسلامي (عقيدة وتراث حضاري) فمن الصعب الوقوف عليها على وجه اليقين فبعض المؤرخين يربطون بين ظهورها والإرهاصات الأولى للحمالات اليهودية الطاعنة في نبوة النبي - صلوات الله وسلامه عليه - وحجية القرآن، وطعون المتعصبين من المبشرين المسيحين في الفترة الممتدة من القرن العاشر الميلادي إلى القرن الثامن عشر الميلادي وبعضهم يردها إلى حقبة الحروب الصليبية (1096 - 1291م) والصراعات الدينية، في حين تنزع الكتابات الفلسفية المعاصرة إلى الربط بين الاستشراق العقدي والاستشراق السياسي حيث مطامع ساسة الغرب في ثروات الشرق الإسلامي؛ إذ كانت تقوده الدولة العثمانية في الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر الميلادي. حيث أصبحت حاجة الغرب إلى معارف دقيقة ومعلومات أكيدة عن الإسلام وأصوله وأثره على معتنقيه بغية هدمه من الداخل واستقطاب عصبة من المسلمين للترويج الأفكار والمزاعم التي عكفت على وضعها لجان متخصصة من المعنيين بدراسة الأديان والفلسفة والمنطق وكتابة الروايات والقصص وذلك كله ليسهل عليهم مهمة الاستيلاء والهيمنة على مقدرات الشعوب الإسلامية بعامة ثم الولايات العربية في الشرق الأوسط بخاصّة.

وقد شهد القرن الثامن عشر البدايات الأولى لأنشطة المزج أو التحالف بين الاستشراق السياسي والاستشراق العقدي، وذلك لظهور المدارس الأجنبية في الشام ومصر والعراق ثم الإرسالات التبشيرية ثم المحافل الماسونية والبعثات العلمية. حتى أضحى لدوائر الاستغراب - في شتى أنحاء العالم الإسلامي - مقرات وإنْ شئت قولت، توكيلات ومراكز بحثية لخدمة المؤسسات المعنية في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا وأمريكا، وبات الحديث عن (الاستغراب والعلمانية والعولمة والغزو الثقافي والصراع الحضاري ووحدة الأديان وثنائية التراث والتجديد والأصالة والمعاصرة، والإسلاموفوبيا والجماعات الأصولية والشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة) من أكثر المصطلحات رواجاً بين المثقفين العرب بمختلف طبقاتهم وتعد الفترة الممتدة من (1960م إلى 1980م) مرحلة إعداد الجيل الثاني من المثقفين العرب لحمل راية التغريب وذلك عقب تجريف مشخصات الهوية العربية الإسلامية على يد شبيبة التغريبين الأوائل في الفترة الممتدة من (1940م إلى 1960م).

وقد لخصنا في عجالة مسيرة ما نطلق عليه (نظرية المؤامرة) هذا المصطلح الذي طالما اتهم مردديه من قبل أنصار القصور الذاتي - ودعاة الحداثة - بالرجعية والتخلف.

وقد بدأت قصة "السم في العسل" باختلاق بعض الأحداث في كتب السيرة وتزييف عشرات الأحاديث والأقوال المأثورة والزج بها في الخطب والمواعظ الدينية ثم الجمع بين القرآن والنظريات العصرية (اشتراكية الإسلام, ديمقراطية الإسلام, الفلسفة النبويّة) وإدراج اسم النبي ضمن العباقرة والفلاسفة وإطلاق مسمى الرسالة المحمدية والوحي المحمدي والدستور المحمدي والإعجاز العلمي للقرآن على الثوابت الشرعية، ذلك فضلاً عن إطلاق العديد من المسميات على الجمعيات الدعوية والجماعات الجهادية لإذكاء روح الشيفونية والراديكالية في الثقافة الإسلامية الحديثة. وترديد الخطب المنبرية التي تهدد وتتوعد وتكفر وتقصي الأغيار بحجة امتلاكهم فصل الخطاب ودونهم يجب بتره أو إخضاعه من جهة أخرى, ناهيك عن تأليف الكتب عن مخازي خلفاء المسلمين وتشويه صور الأتقياء والصحابة وتفسير واقعات التاريخ الإسلامي تفسيراً ماديّاً شهوانيّاً استبداديّاً وتحريض شبيبة البعثات والراغبين في تعلم الآداب والفنون الغربية وحثهم على تطبيق النظريات النقدية - في شتى العلوم والمعارف الإنسانية - مثل التفكيكية والبنيوية والتأويلية والرمزية على النصوص المقدسة والتهكم على الشرائع والتعاليم الإسلامية، وأخيراً وضعوا لمقاصدهم برامج للتدريب والتعلم والدعاية والتشكيك في المعتقدات ودس الأكاذيب في الواقعات.

وقد تأثر الكثيرون من شبيبة العرب والمسلمين ببرامج الاستشراق العقدي بل أضحى مؤمناً بها ولا سيما عقب سلسلة النكسات المتلاحقة والإخفاقات المتتالية وفشل النهضات الحديثة التي أكدت عجز المسلمين المحدثين عن الحاق بالغرب المتقدّم وفشلهم في إحياء تراثهم وفهمه ودرسه ثم إعادة توظيف مناهجه - بعد تجديدها وتحديث بنائها وأساليبها وآلياتها - الأمر الذي يدعم بنية مشخصات الهوية وتأهيلها للحوار الحضاري الذي لا يعترف إلا بإيقاظ الأصحاء المنكرين.

ولاريب في أن أثر هذه الخطط لم تسهم في ظهور التيار التغريبي فحسب بل كان لها الأثر الأكبر في انتشار الجامعات المتطرفة المناهضة للمثقفين العرب المسلمين المرددين للمشروعات الغربية واتهموا أجهزة الأعلام المروجة لهذه الأفكار بأنها من صناعة الدولة والحكومات العلمانية الكافرة، ومن ثمة يجب محاربتها وإعداد العدة لتأديب المجتمعات التي انطبعت بطابعها، وأخيراً رفع لواء الجهاد لإذكاء نار الفتنة في الداخل والخارج.

تلك كانت إجابة سريعة عما تساءل القرّاء حول المشروعات التغريبية، وليس أدل على ما زعمناه من الواقع الشاهد، وذلك الانشقاق والصراع الذي تعاني منه معظم الأقطار الإسلامية التي روّجت لفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة وتقليد الثقافة الغربية وتطبيقها في كل أمور الحياة بداية من ألعاب الصغار الإلكترونية في العالم الافتراضي ونهاية بانحطاط العوائد وسفالة السلوك في مجتمعاتنا على وجه العموم من جهة، وانتشار ثقافة الإقصاء والعنف والتلاعب بالدين وتزييف الوعي والإتجار بالكلمة والكفر بالانتماء والولاء والانتصار إلى المنفعة المباشرة من جهة أخرى.

نعم! تلك هي الحكاية وما نراه في مصر من أدعياء العلم هم بالقطع من المتأثرين بطريق مباشر أو غير مباشر بمشروعات التغريب وخطابات المتلاعبين بالعقول.

(وللحديث بقيّة عن خاتمة متناقضات مشروع الجابري)

 

بقلم : د. عصمت نصَّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم