صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: المقري .. صاحب "نفح الطيب"

يسري عبد الغنيفي القاهرة توفي وفي المجاورين دفن. الرجل الذي تحدث عن الخروج الاندلسي. خلَّف ثروة هائلة من المؤلفات كتبها في مدن مختلفة: تلمسان، وفاس، ومصر، والحجاز، والشام.

نشأ الإمام أبو عبد الله الشريف التلمساني في مدينة تلمسان - المغرب بلد لسان الدين الخطيب

المؤرخ والأديب الحافظ أحمد بن محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي العيش بن محمد المقري التلمساني ، يكنى بأبي العباس ولقبه ” شهاب الدين ” ، وهو صاحب الكتاب الشهير ” نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ” .

تعود أصول عائلة شهاب الدين المقري إلى قبيلة قريش، وقد أخذت اسمها من قرية مقرّة الواقعة في إقليم الزاب بين بسكرة ومسيلة (تتبع حاليا ولاية قسنطينة)، وكانت موطن أجداده قبل أن ينتقل جده الخامس «عبد الرحمن المقري» إلى تلمسان في القرن 6هـ/ 12م في صحبة شيخه «أبو مدين شعيب الغوث».

استقر المقري في مدينة تلمسان عاصمة الدولة الزيانية، وبمرور الوقت كبرت أسرته وكثر أولاده فأصبحت من كبار الأسر العلمية في تلمسان، وقد عمل أبناء المقري في التجارة واختصوا بتجارة الصحراء التي أدرت عليهم الأموال الطائلة وأكسبتهم سلطة ونفوذاً، خاصة لما اتصل بعض أفرادها بالأمراء والسلاطين في أفريقيا.

وقد أنجبت عائلة المقري الكثير من الشيوخ والعلماء، لعل أشهرهم على الإطلاق «أبو عبد الله محمد المقري» وهو جدّ شهاب الدين الذي كان من كبار شيوخ الوزير الأندلسي «لسان الدين بن الخطيب»، وعمه «سعيد المقري» مفتي مدينة فاس.

ولد شهاب الدين المقري بمدينة تلمسان لكن المصادر القديمة التي ترجمت له لم تحدد تاريخ ولادته، في حين رجح بعض المؤرخين المعاصرين أن مولده كان سنة 986هـ / 1578م تقريبا.

وللأسف وعلى أيام شهاب الدين المقري لم تعد عائلته تتمتع بالنفوذ والثراء الذي كان لها من قبل حيث فقدت صولتها مع فقدان مدينة تلمسان لمكانتها كعاصمة وحاضرة من حواضر العالم الإسلامي؛ إذ أصبحت منذ القرن 10هـ/ 16م تخضع للحكم العثماني بالجزائر، واستطاعت عائلة المقري أن تحافظ في ظل هذه الظروف على مكانتها العلمية، فتوارث أبناءها مكتبتها العظيمة التي استفاد منها شهاب الدين المقري كما استفاد منها أبوه من قبله.

 أما عن نشأته؛ فقد كانت بتلمسان حيث تعلّم وأخذ عن شيوخها في طليعتهم عمّه سعيد المقري، الذي شجعه للارتحال إلى فاس لاستكمال مشواره التعليمي، لما رآه فيه من نباهة وفهم وحب للتعلم وصبر عليه.

 ارتحل شهاب الدين المقري إلى مدينة فاس مقصد طلاب العلم سنة 1009هـ / 1600م وهناك التقى مع الكثير من العلماء فأخذ عنهم، مثل: «علي بن عمران السلاسي» (ت. 1065هـ) الذي ناقشه في بعض مسائل الفقه، واعترف له هذا الأخير بالتفوق عليه وأقر له بقوة الحجة والنباهة، كما لقي أيضا المؤرخ والفقيه «أحمد بابا التنبكتي» (ت. 1036هـ) الذي كان حينها يتردد على مدينتي مراكش وفاس فلازمه وأخذ عنه.

ومن فاس انتقل شهاب الدين المقري إلى مدينة مراكش عاصمة السعديين، وهناك اتصل بالسلطان «أحمد المنصور الذهبي» (986- 1012هـ/ 1578- 1603م) أشهر سلاطين السعديين الذي عرفت المغرب في عهده نهضة حضارية عظيمة، وقد استقبل السلطان المقري وقرّبه إليه وأكرمه بضيافته، كما تعرف فيها على العديد من العلماء والأدباء والفقهاء وجرت بينهما المنقاشات والمناظرات الطويلة.

لم يطل المقام بشهاب الدين المقري في مراكش فقد غاردها بعد أشهر قليلة نحو فاس، ومنها عاد إلى تلمسان سنة 1010هـ/ 1601م مقتفيا بذلك سنة جدّه في السفر.

وفي أوائل سنة 1013هـ/ 1604م؛ عاد شهاب الدين المقري مرة أخرى إلى مدينة فاس، لكن هذه المرة بغرض الاستقرار فيها، وقد اختار هذه المدينة لما كانت تشهده من حركة ثقافية وتوافد العلماء عليها، فقضى هناك فترة مهمة من حياته، صادف أثناء إقامته أحداثا سياسية بارزة في تاريخ المغرب، فقبل مقدمه بسنة توفي السلطان المنصور الذهبي وانقسم أبناءه الثلاث (أبو عبد الله المأمون، أبو فارس عبد الله الواثق، زيدان الناصر) وتصارعوا على الحكم، فدارت بينهم نزاعات كبيرة أضرت باستقرار البلاد.

وكان شهاب الدين المقري مقربا من السلطان زيدان الناصر حيث كان هذا السلطان بدوره فقيها وله اسهامات في العلوم الدينية وتفسير القرآن، وبسبب قربه منه استفاد المقري من مكتبته الخاصة التي تزخر بالعديد الكتب القيمة، وخلال إقامته بمدينة فاس اُسندت إليه الخطابة والإمامة في جامع القرويين، فضلاً عن توليه الإفتاء بها.

أثّرت حالة عدم الاستقرار في المغرب نتيجة صراع أبناء المنصور الذهبي حول الحكم على شهاب الدين المقري الذي لم يطق تلك الأحداث فقرر مغادرة البلاد تاركاً خلفه زوجته وأولاده وأصدقاءه واتجه بغير رجعة إلى المشرق.

شقّ المقري طريقه نحو مصر التي بلغها سنة 1028هـ/ 1619م وانتظر فيها موسم الحج لينتقل إلى الحجاز وبعد فراغه من أداء فريضة الحج عاد إلى القاهرة واستقر بها، وبعد مدة تزوج فيها من سيدة من أسرة الوفائيين إحدى الأسر الشريفة هناك، وأنجب منها بنتا إلا أن هذا الزواج قدّر له أن ينتهي بالانفصال.

ومن القاهرة؛ صار شهاب الدين المقري يتردد بين الحين والآخر على مختلف المدن والحواضر في: الحجاز، والقدس، والشام، وخلال هذه الرحلات كان المقري يشتغل بالتدريس في كبريات المساجد الجامعة فيها؛ فدرّس في المسجد الحرام بمكة، وأملى الحديث النبوي بالمدينة، ولازم خدمة العلم بالأزهر الشريف، وألقى عدة دروس بالمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، وأملى صحيح البخاري بالمسجد الأموي بدمشق، فتتلمذ على يده كثيرون منهم: «المولى أحمد شاهين»، والأديب «يحيى المحاسني الدمشقي».

خلّف شهاب الدين المقري ثروة هائلة من المؤلفات كتبها في مدن مختلفة: تلمسان، وفاس، ومصر، والحجاز، والشام وهي على قدر اختلاف المدن التي كتبت فيها اختلفت وتنوعت مواضيعها، فكتب في الأدب، والتاريخ، والفقه، والعقائد ما يدلّ على سعة اطلاعه وتبحره.

لعل أشهر مؤلفاته التي ارتبطت باسمه كتابه الضخم «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب» وهو موسوعة تاريخية وأدبية، وكان سبب تأليفه بغرض الترجمة للسان الدين بن الخطيب خاصة بعد حديثه الطويل عنه أمام تلاميذه في دمشق، ولما أراد أن يمهد له بمقدمة عن تاريخ الأندلس طال به الحديث فقرّر أن يجعله كتابا شاملا؛ خصص القسم الأول للحديث عن تاريخ الأندلس، وأفرد القسم الثاني للحديث عن وزيرها لسان الدين بن الخطيب.

 ويعتبر “نفح الطيب” مرجعاً أساسياً في تاريخ الأندلس إذ وصفه أحدهم بأنه: «أعظم مراجع تاريخ الأندلس»؛ بحيث احتوى الكتاب على معلومات ثرية عن حياة الأندلسيين وعن خروجهم الأخير من أرض الأندلس، ورجع فيه المؤلف إلى كتب تعتبر مفقودة الآن، وتُرجم الكتاب إلى الانجليزية من طرف المستشرق الاسباني كاينكوستحت بعنوان: «تاريخ الدول العربية في الأندلس» سنة 1843، وحققه الدكتور إحسان عباس وطبع في 8 مجلدات سنة 1968.

ويليه كتاب «أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض» وهو كتاب ضخم لم يقتصر على ترجمة القاضي عياض فحسب بل جعله دائرة معارف مغربية، تحدث فيها عن الحركة العلمية والأدبية بالمغرب وترجم للعديد من علماءها وفقهاءها.

أما كتابه «روضة الآس العاطرة الأنفاس، في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين: مراكش وفاس» فهو أول أعماله، ألفه بعد عودته من رحلته الأولى إلى مراكش وفاس، خصصه للترجمة للعلماء الذين لقيهم هناك  على أن يقدمه هدية للسلطان المنصور الذهبي، ولكن عند عودته إلى فاس كان المنصور قد توفي.

وكتابه «فتح المتعال في وصف النّعال» وجاء تأليف هذا الكتاب بعد مجلس جمعه ببعض علماء القاهرة في حديث حول النّعال النبوية، ولما كانت معلوماته فيه غزيرة فكّر في أن يجمعها في كتاب مفصل منظّم.

ومن مؤلفاته أيضا: «إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة»، و«رحلة المقري إلى المغرب والمشرق»، و«النفحات العنبرية في وصف نعال خير البرية»، و«أزهار الكمامة في أخبار العمامة ونبذة من ملابس المخصوص بالإسراء والإمامة»،و«اتحاف المغرم المغرى بتكميل شرح الصغرى»، وغيرها من الكتب التي ما زالت مخطوطة أو مفقودة.

ظل أحمد المقري التلمساني شهاب الدين يتردد على الشام والحجاز لمدة 14 سنة إلى غاية وفاته بالقاهرة في جمادى الآخرة سنة 1041ه/ 1631م، وكان قبلها ينوي الانتقال إلى بيت المقدس للعيش بها تحت إلحاح طلبته هناك، خاصة بعد وفاة ابنته وطلاقه من زوجته فلم يعد يربطه شيء بالقاهرة، إلا أن المنية سبقته بها ودفن هناك بمقبرة المجاورين.

توفي صاحب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب في مدينة القاهرة.

الاسانيد :-

* الحبيب الجنحاني، المقري صاحب نفح الطيب دراسة تحليلية، دار الكتب الشرقية.

* عبد الغني حسن، المقري صاحب نفح الطيب، الدار القومية للطباعة والنشر.

* عادل نويهض، معجم أعلام الجزائر من صدر الإسلام حتى العصر الحاضر، مؤسسة نويهض الثقافية.

* مقدمة محمد بن معمر لتحقيق كتاب رحلة المقري إلى المغرب والمشرق، مكتبة الرشاد للطباعة والنشر.

* اسماعيل باشا البغدادي، هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، مؤسسة التاريخ العربي.

* تصدير كتاب روضة الآس العطرة الأنفاس فيمن لقيته من أعلام الحضرتين: مراكش وفاس، أحمد بن محمد المقري، المطبعة الملكية.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم