صحيفة المثقف

سارا برودي: قل إنه إحساس

2609 سارا بروديترجمة صالح الرزوق

متى ولماذا بدأت التفكير بإنغريد شولتز؟. يا لها من عاهرة. هذا ما كنا نقوله عنها في صبانا في مخيم جيرونيمو. والآن أنا بالتاسعة عشر، وقوميسار ويمكنني أن أتجول حول البحيرة بقارب، والمخيمون معي على متنه بإرادتهم، وهم يضعون أيديهم في الماء، و يحملون منه كومة رقيقة من الزنابق.

كان الوقت في أواخر حزيران، وقد وقفت إنغريد مثل لقلق في برج الحراسة، وهي تنفخ بصفارتها. كانت تعشق الصفارة. ولا أعتقد أنه من الحكمة أن يقدم لها أحد منا صفارة. كانت تحت الضوء الساطع تدهشنا بجمالها، فملامحها واضحة، وشعرها طويل ونحاسي، ومن القارب كنت أنظر لها وهي تدعك سمانتها بقدمها العارية، وتتكلم بلغة العصافير.

قالت وهي تشهق بالصفارة: “أنت ترتكب الأخطاء الجميع هنا يقترفون الأخطاء”.

جدفت حتى الميناء، متجاهلا احتجاج تود دوناهيو ذو الوجه المتغضن وهوارد ميركل بوجهه المغزلي. توسل تيد يقول:”مرة أخرى من فضلك”. ولكن عوضا عن الإصغاء له قفزت لليابسة وأسرعت بخطواتي على عشب القصب الذي يغطي أطراف البحيرة، ميمما شطر إنغريد لمواجهتها. كل دفعة من الصافرة كانت تهز كياني. هذا استعمال أخرق للسلطات، جنون. شاهدت كتابا سميكا تحت كرسيها الخشبي. وتساءلت ماذا عساه يكون. اشتريت للمخيم في الصيف الماضي “هوبيت” وكم أحببته. كانوا يتناولن الطعام ست مرات باليوم. ومع أنهم خجولون فهم شجعان أيضا. هل يمكن أن أكون مقداما؟. سيحل موعد الغداء بغضون خمس عشرة دقيقة، وكنت أزمع أن أطلب منها أن تخرس قبل أن أفقد أعصابي. وكنت أريد أن أعرف لماذا تتصرف هكذا، وماذا تتوقع أن تجني، ومن تستهدف، وماذا تقرأ. ولكن أجبرني للعودة إلى الشاطئ وجود تود وهوارد في القارب.

قال تود:”اسمع يا سيمون”.

قلت له:”ماذا؟”.

“هل يمكننا قلب هذا والغطس تحته”.

“لماذا تتوقع أن أوافق؟”.

“لأنك إنسان رائع”.

انتفخت بالاعتزاز بالنفس. كنت أحب هذين الولدين. لهما أكواع وركب عظمية مستديرة، ولم يخطر بذهني أنه يمكن أن يلحقا الضرر بنفسيهما ويبتعدا بالقارب، فالبحيرة مقرفة، وربما ممرضة. ولعل هذا هو سبب الصفير المتكرر.

قلت:”نعم. اقلبه. ولكن لا تبتعد كثيرا. كي لا تجرح رأسك بالشاطئ”.

لقد أحرجاني. كانا يجدفان بشكل رديء. وما أن أصبحا على مسافة قصيرة من الشاطئ، بدآ بالاهتزاز، ثم انقلب القارب بغضون ثوان. وارتفعت صيحات البهجة ومعها صفرات إنغريد الثاقبة التي طارت من برج الحراسة، ووصلت البحيرة وهما يظهران برأسيهما فوق سطح الماء. وأسرعت بمواجهتي، وهي تلتقط نفسا عميقا ثم تنفخ بالصافرة مرة إضافية.

قالت:”ماذا تفعل بحق الجحيم؟هل أنت تتابعهما أم لا؟”.

قلت:”إنه حادث. هل يمكنك أن تتوقفي عن الصفير؟”.

قالت إنغريد للولدين:”اخرجا من الماء. كلاكما تورط في مشكلة كبيرة”.

صعد الولدان للشاطئ، وهما يضحكان، وأصبح قميصاهما داكنين بسبب ماء البحيرة، وقد تدليا حتى الركبتين.

قالت لهما إنغريد:”عودا لكوخيكما. سأخبر المدير بما حصل”.

قال تود بلهجة من يسأل:”لكنه حادث. أقسم أنه حادث”.

“سنرى ماذا سيقول جاك”.

لم يكن يردع هذين الولدين شيء. إيمانهما بي لا يتزعزع. تمخترا بأقدام حافية باتجاه الأكواخ. ورمقتني إنغريد وقالت:”أنت تعلم أنه من غير المفروض أن أكون هنا وحدي. نحن اثنان. ويفترض أن نكون كلانا حريصين” .

سألتها:”ماذا تقرأين؟”. وفكرت بالسؤال و بخرق القوانين، الأمر الذي جعلني فجأة عصبيا. وبدلت وضعية الوقوف، وهرشت مؤخرة رقبتي.

قالت:”الحرب والسلام”.

“غير معقول”.

“إنها فاتنة”.

“ما موضوعها؟”.

“عن الحرب والسلم. وفصول السلم هي الأفضل”.

“أخبريني بالمزيد”.

قطبت عينيها بكثير من الشك و قالت:”لماذا؟”.

“قلت إنها مذهلة. من لا يريد أن يستمتع؟”.

قالت:”أنت ثقيل. دائما غليظ. حسنا. هي عن شاب اسمه بيير، وهو البطل، تقريبا، وكل الشخصيات ستة أسماء”.

ونظرت لساعتها، والتفتت للبحيرة، وزعقت بالصافرة وصاحت:”على الجميع مغادرة البحيرة. هذا وقت الغداء. اذهبوا لصالة الطعام”.

واستدارت نحوي وقالت:”هيا تعال. سأخبرك بتفاصيل إضافية ونحن نتمشى”.

**

في مدينة سانت بطرسبورغ، عام 1805، ومع احتلال نابليون لغرب أوروبا بدأ الخوف يتحرك في روسيا، وهناك نقابل بير بيزوخوف، بطل الحكاية، وهو إنسان غريب اجتماعيا ولكنه ابن غير شرعي ومحبوب لكونت غني.

قلت:”حسنا. أشكرك. وصلت الفكرة”.

“ماذا تفضل أن تقرأ؟”.

“هوبيت. وهي عن أقزام خرافيين صغار القامة ومغامرون. وأراهن أنك تعتقدين أنها قصة شعبية”.

“هذا بالضبط ما أفكر به”.

“كيف تحصلين على هذا التأثير من الشمس”.

طرفت إنغريد بعينيها وقالت:”ماذا؟”.

كانت التلال وراء مخيم جيرونيمو مكسوة بغابات كثيفة، وتنتشر منها رائحة الصنوبر وهي جافة ومظللة.

كان الطقس، في يوسيمات في ذلك الصيف، حارا ودون رياح - والسماء معلقة فقط. أحببت بطء الأيام، ورائحة دخان نار المخيم، والإحساس بالغبار وهو يلوث القدمين، والهواء الرقيق والنظيف. كانت إنغريد منحوتة من عظام وزوايا حادة، ويبلغ طولها أكثر من خمسة أقدام بقليل، ووزنها أقل من مائة رطل، وأردت أن تقف على كتفي كما يفعل الببغاء.

قالت:”من باب ذكر الحقيقة فقط أعتقد أن الحرب والسلم مبالغ بسمعتها”.

“لماذا إذا تقرأينها؟”.

“لكن بوسعي أن أذكر إنهم يبالغون بتقديرها”.

بلغنا ملعب الرماية بالقوس، وهناك كانت ثلاثة أكوام من القش مرتبة بشكل أهداف على مسافات مختلفة من المنصة الخشبية. وأعلم أن إنغريد كانت جيدة برمي القوس. وهي جيدة بكرة البينغ بونغ كذلك. وفي إحدى المرات كانت بطلة مسابقات مخيم جيرونيمو حتى سلب التاج منها بيل تروب. كان صبيا مثل النمس مع قصور وراثي منحه زوجا إضافيا من جفني عينين ضفدعيتين براقتين. وأثار زوبعة حنقها استيلاء شخص ما على ما تدربت عليه بالبداهة، وطالبت برفع اللقب عنه، ودون تردد. ومع أن بيل يمكنه أن ينظر لفترات طويلة نظرة مركزة، وجدت أن نظرات إنغريد أشد فتكا، وصلابة، وإيلاما. بينما يبقى بيل مثل أحول وبليد. هل كان غريبا أن أتذكر كل هذا؟. ورغم ذلك لا أرى أنني كنت أعرفها.

قلت:”اسمك الأوسط هو سيدويك. ما هذا الاسم سيدويك؟”.

“هو اسم بكارة أمي. وما معنى اسمك المتوسط تيموثي؟”.

تثاءبت وتمططت وقلت:”اسم عادي. ولكن تعبت. هل تسمحين لهم بالنوم ليلا؟”.

“من؟”.

“المخيمون. هل يذهبون للسرير؟”.

نظرت لي وقالت:”طبعا أرسلهم لأسرتهم. وأنت؟”.

“هل ستخبرينني بالتفاصيل؟”.

زمت شفتيها وقالت:”ربما. ربما لا. كم تسمح لهم بالبقاء سهارى؟”.

“قدر ما يشاؤون. أجلس على الشرفة وأدخن وأسترق السمع”.

“تصغي لأبناء تسع سنوات؟”.

“أحب كلامهم”.

“فيه الكثير من العجائب. رعاة بقر. فضائيون. عساكر”.

قطبت إنغريد حاجبيها وسألت:”هل تعلم أنهم يأخذون تذكارات؟. العساكر. في فيتنام. يقتلون ولدا ويأخذون أصبعه أو شيئا آخر. مجرد ذكرى. سمعت ذلك”.

“ومن يهتم؟”.

“ما معنى من يهتم؟. هذه بربرية. هل لديك شك؟”.

“ماذا؟”.

كان هذا ما يسمى صيف العشاق، وقد انطلقت الفوضى العنصرية في عرض البلاد. وكان ريشارد سبيك، قاتل الممرضة، قد حكم عليه بالكرسي الكهربائي، وكانت الصين تجرب قنبلتها الذرية. ماذا يمكن أن يذهب بالاتجاه الصحيح؟. قرع جرس عبر المخيم معلنا نهاية وقت الغداء.

سألت:”حول ماذا تتكلم الفتيات في الليل؟”.

“لا شيء، لأنني أرسلهن للنوم”.

“وماذا عن الأيام التي كنت تخيمين فيها؟”.

“كنت أطلب منهن الصمت والذهاب للنوم”.

**

كانت متوترة وخشنة. جعلها الصغار إنسانة سادية. كان الأولاد في مقصورتي، يتابعون كل حركة أقوم بها، ومتنبهين بقدر ما يمكن للأولاد، وألمحوا أنني كنت مضطربا. وأصدروا صوت قبلات في الهواء، وسألوني متى موعد الزفاف. قلت لهم في إحدى الليالي:”لا ترفعوا من معنوياتكم كثيرا. إنها إنسانة تافهة”.

سأل رالف ولسون:”هل بمقدورنا أن نلعب لعبة المافيا؟”.

قلت:”بعد إطفاء النور”.

“منذ متى تهتم؟”.

كيف يمكنني أن أرفض؟. كان عددهم الإجمالي أحد عشر، واجتمعوا بحلقة على أرض الكوخ، وأغلقوا عيونهم. ووراء النوافذ، أشرقت النجوم مثل حليب مسكوب، ويمكن لمسه، وانصب ضوء القمر على البحيرة. واخترت تود ليأخذ دور المافيا، وأن يكون جون سوينسون الطبيب. أما رالف، وكان عدو تود في المخيم، فهو أول قتيل. ومع أن الهجوم لم يكن قويا، ويمكن توقعه بسهولة، اختار جون أن يعالج نفسه.

قلت له:”كان رالف بنزهة حينما هربت المافيا بطائرة. وألقوا من النافذة بنسا واحدا (*قرشا واحدا)، وسقط بسرعة كبيرة وأصابه على رأسه وقتله”.

لم تكن حكاية ممتعة، لكن الأولاد شهقوا من الضحك. وكنت أعلم أن هذا هو المقصود من الحب، وأنني سأنفق كل بقية عمري أفكر بهذه المشاعر؟. وفجأة بدا من المحتمل أن الأولاد الذين بعمري كانوا يلقون حتفهم الآن في الغابة، وتقلصت حنجرتي فورا. وبعد عدة جولات، نصحتهم بالعودة لأسرتهم، وهناك تابعوا الثرثرة، وكانوا في أكياس النوم يشبهون الديدان الملونة.

حياني تود بقوله:”أنت تحب هذا المكان”.

“من أحب؟”.

“ملكة إنكلترا”.

“اذهب للنوم”.

خرجت وجلست على كرسي خفيف على الشرفة، وشحذت سمعي لأتابع حوارهم. كانوا يتناقشون حول جزيرة غيليغان، للتنبؤ من من المبعدين سيربح المعركة الملكية. وتساءلت، وقلبي يدق في صدري، هل سيتجاوز عمري قريبا كل هذا، بل ربما تجاوزت هذه المرحلة فعلا.

**

أخبرتني إنغريد وهي تجلس في حضني إنها تحب الغابة في الليل. وقالت:”دائما أخشى أن أقع بين أيدي دب. ومع ذلك أحضر إلى هنا. كل الأولاد يشخرون. والرائحة كريهة في تلك الأكواخ. ما الغاية من المخيم إن لم تنم في العراء؟”.

“تنامين في الغابة؟”.

“لا يا غبي. أتنزه في الغابة. وأنام على الشرفة”.

فاحت منها رائحة العرق وكريمات الشمس. حركت يدها فوق صدري. وضغطت بوجهها على رقبتي، وأنا أجلس معتمدا على جذع شجرة خشن، متجمدا من العذاب بسببها و سببي. كيف حصل ذلك؟. جمعت أطراف شجاعتي لأدعوها لنزهة أخرى. وطلبت منها أن تخبرني المزيد عن الحرب والسلم، وتساءلت ماذا يجب أن أفعل بيدي. تسلل ضوء القمر من بين الأشجار، وجعل لون الأرض قاسية وألقى ظلا عليها.

سألتها:”لماذا لم نفعل ذلك من قبل؟”.

قالت:”لماذا تهتم؟. كما قلت الكتاب مبالغ بأهميته. الصغير بيتيا و..”.

“هل يمكن أن لا نطرق هذا الموضوع الآن؟”.

“أنت من سألني عنه”.

“أنا فقط --”.

“تريد أن تستلقي”.

وافقت. صعدت فوقي، ودست يدها تحت حزامي، وحكته. وبدأ قلبي يدق.

تابعت تقول:”عموما كان هو المفضل لدي. ولكنه مات في ذهني. كما قلت سابقا الفقرات التي تتناول السلام أفضل من الفقرات الخاصة بالحرب. كان بيتيا على صهوة فرس، و--”.

قاطعتها بصوت نقيق ضفدع:”إنغريد”.

قالت:”آه. حسنا. سأذكر التفاصيل لاحقا”. وسحبت يدها وجلست، وعقدت شعرها بمطاطة زرقاء حصلت عليها من استوديو مهني. وبالضوء الباهت دققت النظر بثدييها، انتصبت الحلمتان.. مالت لتقترب مني والتقت عيوننا. قالت:”توقف عن التحديق. وجهي هنا فوق.. أعلى بقليل”.

قلت:”مفهوم”. هل شعرت بالخوف؟. أفترض أنني شعرت بالخوف، أم ربما كنا نقترف خطيئة؟. هناك مئات الأساليب لألمسها، ولكن لم يسعنا أن نتحرك. تابعت باستسلام:”شاهدت وجهك كثيرا، ولكن لم أشاهد --”. حركت فمها على طول صدري، حتى معدتي، وقالت:”أنت لم تجرب ذلك من قبل”. وكانت تخبرني ولا تسألني، بمحاولة لتتحكم بي في كل الأحوال.

**

في تلك الأيام كنت أستطيع التعامل مع أي شجرة. وبدأت بالتلصص عليها من بين أوراق وأغصان السنديان الأسود. واختلاف الأشخاص يحدد طبيعة الأشياء. فالنزهة برفقة الأولاد، غير التزاحم بالمناكب مع إنغريد، ولكنها كانت تكرر نفسها أينما ذهبت، ومهما كانت اهتماماتها. كانت تقفز على الصخور في البحيرة، وتعض شفتها، وتركيزها الذهني يشبه التوتر. وكانت تقرأ بضوء الشمس، وتقلب صفحات الكتاب الذي لا تطيقه، دون أن تنظر للأعلى. وكنت أتعلق بغصن فوقها يوم انتهت منه. ألقته على العشب، واستلقت على ظهرها، وشاهدتني. صاحت:”أنت أيها القبيح. ماذا تفعل عندك؟”.

“مرحبا يا أنغريد”.

“هل تتلصص علي؟”.

“وما الجديد بذلك؟”.

في ختام الحرب والسلام، اقترن بيير من ناتاشا. وتزوج أيضا نيقولاي وماريا. قالت إنغريد بعد أن هبطت من الشجرة:”لا زلت مقهورة من الأولاد الذين حبسوا الحصان”.

تابعت بعد قليل:”عموما الخاتمة طويلة وتبدو لي مثل درس ومواعظ. هل تفهم ماذا أعني بكلامي؟”.

ونهرتها بسبب السؤال وقلت كاذبا:”طبعا أفهمك. وماذا جرى بعد ذلك”.

“كم مرة تلصصت علي؟”.

“لم يكن تجسسا. هي نظرات فقط. هل تبدو ناتاشا مثل ناتاشا في روكي وبول وينكل؟”.

“أنت صغير. نعم هكذا تبدو. ما الفرق بين التجسس والنظر؟”.

سألت نفسي هل استرقت النظر من أي شخص في حياتها. وهل هي مثل الشمس التي تضيء نفسها؟. كنت مهووسا بها، انحناءة كتفيها، والبعوضة حين تعض ساقها، وكنت مغرما بالنظر لخيالنا على سطح البحيرة، متأملا تعبير وجهي حين أراقبها. هل قرأت ذهني، وهو شيء سهل بالنسبة لها، ونادرا ما تفعل ذلك، ربما كانت تود أن تخبرني أنني لم أكن أنظر لها، وفي الحقيقة كنت أنظر لنفسي.

في تلك الليلة شاهد تود دناهيو كابوسا وانضم لي على شرفة الكوخ. وكنت أستعد للقاء إنغريد وشعرت بغصة من الغضب ولكن سرعان ما تلاشت حينما سمعت صوته يئن ويرتعش. قال:”كل من أعرفهم يحتضر. علينا أن نذهب إلى ماد هاتير في أرض الديناصورات على الأقل لعشر أيام للشفاء”.

قلت:”هذا ليس سيئا للغاية”.

قال:”آه. ولكنهم مريضون جدا. وجوههم طحلبية خضراء ويتقيأون. أنا الوحيد المتبقي على ما يرام، ومسؤول عن الرحلة، لكن زر التحكم يفشل دائما”.

ثم قطب وجهه وتأملني وسأل:”هل لديك سيجارة؟”.

“أنت صغير جدا”.

“هذا ما يقوله الجميع عن كل شيء”.

“هل ستذهب للنوم لو قدمت لك سيجارة؟”.

“آه....”.

سحبت سيجارة من علبة كاميلز وقدمتها له. ولكن المشكلة كانت بأعواد الكبريت. أشعل ستة أعواد قبل أن يحاول إشعال السيجارة وارتعش حينما بدل حركته أخيرا، فقد كانت النار تنطفئ بعد كل محاولة. أخذت منه السيجارة وأشعلتها. أخذ نفسا، وتلعثم، و انتفض بعينين دامعتين. وأعاد لي السيجارة.

سألني:”هل يجب أن تكون كبيرا لتحب السجائر؟”.

قلت:”ربما. هل أنا كبير بالعمر؟”.

“ربما”.

“هل يمكن أن تذهب للنوم الآن؟”.

“حسنا”.

انسحب للداخل. دخنت السيجارة، وسمحت للدخان أن يحتشد في رئتي ونفخته من أنفي. رميت رأسي نحو السماء، وارتحت للقمر الفضي، المنحني مثل ظهر قطة نائمة - وشكرت ربي على رفقة الأولاد.. فهم بعمر تسع سنوات وبعيون براقة وصادقة، كانوا يصفقون بصوت مرتفع كلما قفزت من أغصان الأشجار المرتفعة. وأعلم أنهم يحلمون الآن أن يكونوا ذات يوم مثلي، رجالا، يتحملون مسؤولية هذه الأمور.

سارة برودي Sara Brody كاتبة أمريكية مولودة في سان فرانسيسكو. تنقلت بين جنوب كاليفورنيا وفرنسا والكيبيك. حائزة على ماجستير باللغة الإنكليزية من جامعة ولاية سان فرانسيسكو. تكتب القصة والمسرح.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم