صحيفة المثقف

محمود محمد علي: معرض الكتاب من بغداد إلي القاهرة

محمود محمد عليما زلت أومن بل ربما أكثر من ذي قبل بأن  معرض الكتاب أحد أبرز تلك المناسبات التى تستعيد فيها بغداد والقاهرة قدرتهما على المفاجأة، وتسترد كل ما لديهما من سحر وعطاء، لتملك كل منهما وجها حانيا لا أعرف من أين تستمده العراق ومصر وهما منهكان فى مشكلاتهما اليومية؛ ففي العقد  الأخير من عمر العراق  ومصر.. كان لجيلنا والأجيال التى تلتنا.. النصيب الأكبر من الخذلان.. فقدنا الكثير من حقوقنا فى الحياة الطبيعية العادية التى يستحقها كل إنسان فى شبابه، ليواجه تحدياته الخاصة، ويرسم أيامه ويجاهد لأجل أحلامه.. واجهنا جميعا تحديات أكبر من أعمارنا، وخضنا آلاما أضافت سنين لأرواحنا.. وبقدر ما قد أصقلنا الألم.. بقدر ما أفقدنا الكثير من مباهج الحياة البسيطة.

والحمد لله بدأت الإنفراجة حيث وجدنا كيف تتحول "بغداد" طوال الأسبوعين الماضية قبلة المثقفين والقارئين من خلال قيام معرض بغداد الدولي في دورته الـ "22"، بمشاركة أكثر من 200 دار نشر من 14 دولة عربية وأجنبية؛ وأول ما يلفت النظر فى معرض بغداد الدولى للكتاب فى دورته الحالية هو ذلك التطور الهائل الذى لحق به فجعله يمثل بؤرة إشعاع ثقافى اتسع مداها هذا العام لتصبح هى البؤرة الأولى فى العراق، وذلك بعد سنوات الاضطراب السياسي التى مرت علي أشقائنا العراقيين.

لقد كان معرض بغداد الدولي يمثل بحق نقطة جذب سحرى لعشرات المثقفين العراقيين والعرب الذين يطرقون أبوابها ويعمرون سهراتها دون دعوات رسمية أو بطاقات سفر أو فنادق تفيض بالبذخ؛ ومن أكثر المشاهد المفرحة فى المعرض كانت جموع العراقيين الذين توافدوا على معرض بغداد الدولى للكتاب، ليثبتو للعالم أن العراق برغم عثراته فإنه ليس صحيحا أنه شعب لا يقرأ، أو أن نسبة القراءة قد تراجعت.

علاوة علي أن الجمهور العراقي وحده هو الذى أعطى للمعرض حيويته ونضارته وحضوره رغم كل شىء؛ ما زالت الأسر العراقية البسيطة حريصة على زيارة معرض الكتاب ولو ليوم واحد؛ ما زالت أجيال وأجيال تحافظ على حنينها المتوهج لمعرض الكتاب؛ المواطن العراقي البسيط الذى لا يكترث له أحد هو الذى يمنح المعرض كل هذا البهاء والألق والحضور.

وبالأمس سعدت كل السعادة حين تم افتتاح معرض الكتاب القاهرة للكتاب في زمن كورونا، وكانت زيارتى لمعرض هذا العام دافعا حقيقيا للبهجة، حيث أعادني هذا المعرض لسنوات دراستي بالجامعة حين كان أصحابي وأصدقائي يصطحونني لشراء الكتب الكثيرة، التى- فى أعمارنا الصغيرة- لم نكن ننتهى من قراءة نصفها.. حتى يأتى العام التالى فنشترى (كسوة العام الجديد من الثقافة) قرأت من مكتبة الأنجلو ودار المعارف ودار الكتب العربية والمغربية فى الأيام الأولي من الجامعة.. معظم كتب زكي نجيب محمود، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ومحمد إقبال، وعاطف العراقي، وحسن حنفي، وفؤاد زكريا، وعثمان أمين، ومحمد مهران، ومحمد  محمد مدين.. الخ .. تلك الأسماء التى كنا نقرأ عنها فى كتب الدراسة.. صرنا نقرأ لها بفضل معرض الكتاب..

كذلك من أهم الأعمال التى كنت اقتنيها من معرض الكتاب؛ الترجمة العربية لـ «الكوميديا الإلهية» للشاعر الإيطالى الأشهر دانتى الليجيرى؛ التى صدرت عن هيئة قصور الثقافة (سلسلة ذاكرة الكتابة) فى ثلاثة مجلدات؛ «الجحيم»، «المطهر»، ثم «الفردوس» (بمجموع ما يقرب من 1500 صفحة من القطع الكبير) ثمن الجزء الواحد منها في ذلك الوقت عشرة جنيهات! «الكوميديا الإلهية» من أهم الآثار الأدبية فى تاريخ البشرية كلها، وكان لها تأثير ضخم على الأعمال الفنية والأدبية منذ ظهورها وحتى اليوم.

وفى معرض الكتاب هذا العام 2021 نجد أن هناك إقبال كبير، رصدته بالعين المجردة، وليس عبر الإحصائيات. رأيت جميع الفئات من الأطفال إلى الشيوخ، ومن الرجال إلى النساء، وقد أعجبتني طريقة طريقة توزيع الأجنحة والصالات منسقة بصورة طيبة، وطريقة الدخول والخروج من الأجنحة والصالات مريحة.

ومن أهم الأماكن التى كنت أحرص على زيارتها سنويا فى معرض الكتاب، جناح الناشرين العرب بالقاهرة فهو أرستقراطى الطابع، أنيق الإصدارات؛ غزير العناوين المهمة التى تعالج موضوعات ومعارف شتى أغلبها يتصل بالأدب والتاريخ والحضارة والفنون وتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها؛ وكتب وإصدارات أخرى غاية فى الأهمية والقيمة.

وهنا  أنصح كل محبي المعرفة والثقافة فأقول مع البعض: أذهبوا إلي معرض الكتاب للبحث عن كنوز المعرفة.. احرصوا علي اقتناء الكتب القديمة التي مات أصحابها بعد أن تركوا ثروة من الثقافة والمعرفة.. إنها كنوز ولن تتكرر.. في اعتقادي أن سنوات الازدهار وقراءه واقتناء الكتب بدأت منذ الأربعينيات والخمسينيات ووصلت الذروة في الستينيات والسبعينيات ثم بدأ التدهور من الألفية الثالثة وانتشار الموبايل ودخوله مصر عام 1997 ثم شبكة النت التي تحقق لنا ما نبتغي من الثقافة والمعلومات بسهولة ويسر.. لكن اقتناء الكتاب أهم من كل التكنولوجيا والفضائيات والموبايل.. لا تضيعوا الفرصة واذهبوا اليوم لزيارة معرض الكتاب واصطحبوا معكم أولادكم وللعلم فإن اقتناء كتب الأطفال شيء مهم جدا جدا واقتناء كتب التراث فرصة لا تعوض، وذلك لكونها تحمل ثقافة التنوير، وهذه الثقافة تعني برموزنا المصرية والعراقية والعربية والإسلامية الذين أناروا الطريق أمثال ابن سينا، وابن رشد، والكندي،وابن خلدون، والخوارزمي، ورفاعه الطهطاوي، ومحمد عبده، وعلي مبارك، ولطفي السيد، وسلامة موسي، وعلي عبدالرازق، وطه حسين، وزكي نجيب محمود، ونجيب محفوظ، ولويس عوض، وأحمد زويل، وفاروق الباز، وماجد الغرباوي، وميثم الجنابي، وعلي القاسمي، وعلي أسعد وطفه، وعصمت نصار.. وغيرهم.

وكل معرض كتاب وحضراتكم طيبون وبخير..

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم