صحيفة المثقف

عصمت نصَّار: مشروع الجابري والمتلاعبين بالعقول (2)

عصمت نصاريعتقد بعض الأصدقاء في المغرب العربي أنني متحامل على المفكر المعاصر "محمد عابد الجابري" ومشروعه التقدمي، وتجاهلي الحديث عن مشروع "حسن حنفي" ولكن الحقيقة أنني لم أتعرض بكلمة واحدة حيال مشروع المفكر المصري "حسن حنفي" رغم تشابه حديثهما في كثير من المواضع.

والحق أنني لم أتعرّض لمشروع "الجابري" بآليات النقد إلا لكثرة المُروجين له بين شبيبة هذا العصر - الذين اعتبروه مقصد اللهفان والمُخلص من عذابات الشيطان- كما أنني أوكد أن معظم نقودي قد أنصبت على بناء وبنية كتابات "الجابري" الذي أطلق عليها مصطلح مشروع، مخالفاً بذلك ادعاء الضوابط والأسس للمشروعات الفلسفية النهضوية التي تستوجب الرؤية الإصلاحية في المقصد وانتخاب الآليات واللحظة التاريخية المناسبة والسلطة الراعية (الرأي العام القائد أو الرأي العام التابع)، والقوة العاملة المنفذة؛ ذلك فضلاً عن أصالة المنطلق النقدي واتساق ونسقية وموضوعية الأفكار التي يطرحها على مائدة التخطيط والتنفيذ. واعتقد أن أفضل من يُضرب به مثلاً في المشروعات النهضويّة هو مشروع "حسن العطار" الممتد إلى "ذكي نجيب محمود" رغم ما أصابه من إخفاقات واضطرابات فلم يحد عن كونه الممثل الأوحد للاتجاه المُحافظ المستنير الذي نجح في نقل مصر ومثقفي العالم العربي الإسلامي من طور التبعية والتشتت إلى طور التجديد والانتماء وتحديد الهويّة ذلك فضلاً عن تطويره العلوم والمباحث الإسلامية والنهوج النقديّة في الدرس الفلسفي.

أجل أنني لم أقصد الإساءة أو المقابلة بين آراء هذا وذاك؛ بل كنت أسعى ومازالت أوكد على أن المشروع الذي يجب علينا تجديده وتحديثه وتطويره هو ذلك الذي يعمل على تقديم خطة إصلاحية للواقع المعيش ويعمل في الوقت نفسه على تثقيف شبيبتنا على نحو يمكنهم من استيعاب "التفكير الناقد" الذي يؤهلهم لانتخاب النافع من القديم أو الحديث ويؤهلهم للإبداع وصناعة المستقبل.

ومن هذا المنطلق أتعرَّض في عجالة لأهم الاضطرابات التي حاقت بمشروع "الجابري" وجعلت منه مجرد خطاب ثوري على الجامدين والمقلدين ومنتحلي النظم والمذاهب. فها هو يعترف بأن ديمقراطية الغرب خطاب زائف وأن تطبيقه في الثقافة العربية بعيد المنال، وذلك لأن بنيتنا التربوية لم تأسس على هذا النهج، وأن دعاة الاستبداد قد أبعدونا عن حقيقة ديننا وسياستنا الشرعية القائمة على مبدأ الشورى، والاستقلال في الرأي، والعمل من أجل المصلحة العامة، وتقديم الأخذ بالمقصد على ظاهر النصوص، ودرء مفاسد العادات، وإنكار السلطة الدينية، والانتصار إلى العقل والعلم والتجربة في انتقاء النظم وسن القوانين؛ شريطة عدم تعارضها مع قطعي الثبوت والدلالة من صريح الوحي وصحيح السنة.

ويعيب في الوقت نفسه على فلاسفة السياسة المسلمين عدم تقنينهم لنظام واحد في تطبيق مبدأ الشورى لاختيار الحاكم وجمعهم بين أكثر من نظام لتنصيبه (البيعة العامة، الانتخاب الغير مباشر، الملك العضوض، الغلبة والقوى) وابتعادهم عن الروح العقلية والمقومات العملية والعلمية في الشروط التي يجب توافرها في شخصية الحاكم وإغفالهم تعيين مدة توليته ومهام اختصاصاته التي تحد من سلطاته حتى لا يصبح حكمه حكماً ديكتاتورياً استبدادياً.

مستشهداً بواقعة الفتنة الكبرى في فشل الحكم السياسي الإسلامي مبيناً في الوقت نفسه حق من يمتلك القوة في الانقلاب على من يخالفه ومؤكداً عجز الفقهاء عن إصلاح هذا الخلل؛ الأمر الذي أطاح بأهم حقوق الشعب في مبدأ الشورى وفتح الباب أمام المنتفعين ومزيفي الوعي للقول بأن القدر يولي من يصلح، وأن الملك هبة من الله يمنحها لمن يستخلفه على أرضه، وساد في السياسة الإسلامية مبدأ (من اشتدت وطأته وجبت طاعته).

أما ما كتبه الماوردي وابن الأزرق - في رأيه - لا يعدو أن يكون تهذيباً للآداب السلطانية وعليه يجب العدول عن ما نطلق عليه السياسة الشرعية إلى السياسة المعاصرة والدساتير الديمقراطية. ويقول في ذلك (وفي العصر الحاضر ليس هناك غير أساليب الديمقراطية الحديثة، التي هي إرث للإنسانية كلها. إن تحديد طريقة ممارسة الشورى بالانتخاب الديمقراطي الحر، وإن تحديد مدة ولاية "رئيس الدولة" في حال النظام الجمهوري، مع إسناد مهام السلطة التنفيذية لحكومات مسؤولة أمام البرلمان في حالة النظام الملكي والجمهوري معاً، وأن تحديد اختصاصات كل من رئيس الدولة والحكومة ومجلس الأمة بصورة تجعل هذا الأخير هو وحده مصدر السلطة، تلك ثلاثة مبادئ لا يمكن ممارسة الشورى في العصر الحاضر بدون إقرارها والعمل على ضوئها. إنّ عدم حماسة بعض الحركات السياسية التي ترفع شعار الإسلام للديمقراطية الحديثة، موقف لا مبرر له)، وذلك في عدة كتب (العقل السياسي العربي) عام 1990م و(الدين والدولة وتطبيق الشريعة) عام 1996م و(الديمقراطية وحقوق الإنسان) عام 1997م.

والحق أن "الجابري" يضع المتلقي في مآزق يعرقل تطبيق مشروعه (هل يساير ديمقراطية الغرب الذي يتحكم فيه رأس المال والتكتلات الاقتصادية والقوة العسكرية - التي أسهم في شرحها - أم مبدأ الشورى الإسلامي الذي لم يفلح الفقهاء والفلاسفة في تجديد أصوله وتحديث آلياته؟).

وعليه يصبح حديث "الجابري" مجرد خطاب نقدي ليس مشروعاً عمليّاً.

ويبدو ذلك في قوله عن حل المعضلة السياسية التي يواجهها المسلمون (تحويل العقيدة إلى مجرد رأي: فبدلاً من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة يجب فتح المجال لحرية التفكير، ولحرية المغايرة والاختلاف، وبالتالي التحرر من سلطة الجماعة المُغلقة، دينية كانت أو حزبية أو أثنية، أن تحويل العقيدة إلى مجرد رأي معناه: التحرر من سلطة العقل الطائفي والعقل الدوغمائي، دينياً كان أو علمانياً، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي. الفكر العربي المعاصر مطالب إذن بنقد المجتمع ونقد الاقتصاد ونقد العقل، العقل "المجرد" والعقل السياسي ... إنه بدون ممارسة هذه الأنواع من النقد بروح علمية سيبقى كل حديث عن النهضة والتقدم والوحدة في الوطن العربي حديث أمانٍ وأحلام).

إذا انتقالنا إلى القضية المركزية التي انطلقت منها كل مشروعات التجديد والإصلاح في الثقافة العربية الإسلامية الحديثة، سوف نجد "محمد عابد الجابري"، شخص آخر مستنكر ومتبرئ من جل مشروعه، ويبدو مجرد مردد أو مجدد لخطاب محمد عبده وتلاميذه في موقفه من الهُوية العربية ومشخصاتها والتجديد وآلياته وموقف الأنا من الآخر. فقد أكد مفكرنا أنه ليس من دعاة إهمال التراث أو نقضه واستبعاده، كما أنه ليس من انصار التغريب والسير في ركاب الأوروبيين أو الأخذ بمناهجهم في نقد الموروث أو طرائقهم في دراسة الكتب المقدسة أو التنازل عن مشخصاتنا طلباً للحاق بثقافة الأغيار المتقدمة، أي أنه صرح بنقيض ما صرح به في معظم كتاباته، وخلافاً لما كان يعتقد نجده يتخذ من التفكيك نهجاً في قراءة المشهد الثقافي المعاصر بصورة جامعة لواقعات الأنا العربية الإسلامية وحقيقة الآخر. فتبين له أن الأنا العربية الإسلامية ليست واحدة فقد مزقتها الأيديولوجيات والقوميات وهوى الزعامات والأفكار القبلية الشعوبية والثقافات الوافدة الموجهة لتزييف مشخصات الهوية. فانحدرت القيم الأخلاقية والرُّوحيّة وأصبح الدين والوحي وسنة النبي مسار خلاف بين المتطرفين يميناً ويساراً وظل مكان العقل القائد شاغراً حتى أعتلاه تجار الكلمة وحاشية السلطان. وأن الآخر ليس كياناً واحداً، بل هناك الآخر المعاهد والآخر العالم والآخر المعادي والآخر المنافس والآخر المتآمر...، ويضيف أنه من الوهم الاعتقاد بأن كل ما يأتي من القدماء نافع، وأن كل وافد من الأغيار سام وضار، وأن مناهجنا في الاصطلاح يجب أن تأتي من الخارج، وأن مذاهبنا في الأدب والفن يجب أن تحاكي المستحدث والشائع في أوروبا، وأن أخلاقنا وثوبتنا العقدية يجب أن تلين وتذوب في عولمة الآخر المتقدّم، ومع ذلك كله نجده ينحاز ويبرر نظرية المؤامرة التي يلكوها المحافظون ولا ينكر في الوقت نفسه نظرية القصور الذاتي والفساد الداخلي والخيانات الثقافية والسياسية ومنطق التبعيّة التي يفضحها المجددون.

ويضيف الجابري أننا يجب أن نضع في الاعتبار نسبية مصطلح "الأنا" ومصطلح "الآخر"، فالسلف الرجعي مثلاً يعرّف "الأنا" بأنه صاحب الحقيقة المطلقة في حين يعرفها "العلماني المستغرب" بأنها كيان متخلف، جامد، جاهل، متعصب، ويعرفها "المنتمي" بأنها أصل الأصالة والحضارة ولا يمنعها من التقدّم إلا "الآخر" المتآمر. في حين يعرفها "الآخر" الطامع بأنها مصدر الثروات والسوق التي يجب الانتفاع بثرواتها، والعقول التي يجب السيطرة عليها، والعدو الذي يجب اصطناعه حتى نحسن القبض عليه، ونتمكن من السيطرة على مقدراته وموارده وطاقاته، ونجعل منه في الوقت نفسه أداة لنجتمع على مجابهته والتّصدي للإرهاب الذي يكمن بداخله.

ومن زاوية أخرى، يبدو "الآخر" في أعين "الأنا" المتعصبة العدو والكافر بمشخصاتنا، والفاجر الذي يجب اجتنابه، والمتآمر الذي يجب علينا الحرص من حيله وألاعيبه، وهو في عيون المستغربين الأستاذ والمعلم والإنسان الحر المتقدم والعقل الذي يجب اتباعه، والحق الذي يجب السير على سنته.

وصفوة حديث "الجابري" في هذا السياق أنه يريد توجيه نظرته التفكيكية إلى الغرب حتى يتأتى له التعرف عليه وأغراضه عن قرب ويحدّد الطرائق التي تمكننا من الاتصال به دون أن يسيطر علينا ويقول في ذلك (سؤال لا يحتمل إجابة واحدة، في الظرف الراهن على الأقل. إن الجواب سيختلف باختلاف من يُطرح عليهم هذا السؤال، وهم أطراف متعددة مختلفة المصالح والرؤى، مما يجعل من "العربي" مفهوماً مصنوعاً، صورة تختلف مضموناً وملامح حسب نوع الوعي الذي ترتسم فيه والمكان الذي يضعها فيه. إنها في الطرف الذي يضع "العربي" في موضع "الآخر" شيء، وفي الوعي الذي يتخذ منه "الأنا" وصورة مستقبله، شيء آخر تماماً، وبين هذين الطرفين المتقابلين صور متعددة لـ "العربي" بعضها امتداد لهذا وبعضها فروع من تلك وهكذا ... أما على صعيد التعرّف إلى الهويِّة في الفكر الأوروبي؛ فإن الباحث يستطيع أن يجد من الأمثلة ما يؤكد هذا الثابت في طريق التعرّف على الأنا في الرؤية الأوروبية للعالم: وهكذا فمنذ اليونان والرومان "المواطن" يتعرف إلى هويته من خلال "العبد" داخلياً و"البرابرة" خارجياً. أما المسيحية فلم تكن تتعرف إلى نفسها خلال القرون الوسطى إلا من خلال وضعها "الإسلام" كآخر، خصم وعدو. أمَّا في العصر الحديث مع انتشار الرحلات والاستكشافات الجغرافية وذيوع الفكر العلماني في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فإنّ ثنائية "الشرق" و"الغرب" أصبحت تحكم الحديث الأوروبي عن نفسه، وهكذا أصبح الغرب لا يتعرف إلى نفسه إلا من خلال الصورة التي يبنيها لنفسه عن "الآخر" الشرق).

والقول المستفاد من هذا السياق أننا لا نحسن قراءة أنفسنا لنتعرف على مشخصاتنا لنفصل بين ثوابتها ومتغيراتها وأن الآخر يعرفنا ويفهمنا، ولكن لا يريد الاعتراف بوجودنا. أما نحن فندرك وجود الغرب ولكننا لا نعرفه، في حين أن كل ما يدور من حولنا لا يحدث إلا بإرادته ورغم عدم درايتنا بما يحدث. والجدير بالملاحظة أن حديث "الجابري" عن الهوية العربية ومشخصاتها وعلاقة الأنا بالآخر لم تأت جميعها في سياق واحد أو عمل مترابط متصاعد درامياً بل جاء متناثراً في العديد من كتبه نذكر منها: (إشكاليات الفكر العربي المعاصر) عام 1988م و(العقل السياسي العربي) عام 1990م و(مسألة الهوية) عام 1995م.

ومن ثم، لم يعد للحديث بقية عن خطاب "الجابري" وحقيقة مشروعه.

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم