صحيفة المثقف

نبيل عرابي: التعاون اللبناني مع مصر لتأسيس جامعة الدول العربية

نبيل عرابيلم يكن قيام جامعة الدول العربية، حالة آنية ولدت من فراغ، بل كان حاجة ضرورية، ساهمت في جعلها تبصر النور عوامل عدة، خاصة خلال الثلاثينات وأثناء الحرب العالمية الثانية، حيث اشتدّت الدعوة إلى الوحدة العربية، ولاقت تأييداً واسعاً في صفوف الطلاب والمثقفين، في سائر الأقطار العربية.

ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، فالبريطانيون وجدوا أن هذا التحرّك يصب في مصلحتهم، فآثروا دعم الفكرة لتصبح مشروعاً عبر بيانات وتصريحات عدّة، تطرقت إلى هذا الأمر، مؤكدة أنه حق مشروع للعرب بأن يكون لديهم وحدة، تتجلى في التعاون ضمن شتى المجالات.

رحّب لبنان بهذه الخطوة، وأعلن عن رغبته في التعاون والتنسيق مع إخوانه العرب، مشترطاً اعترافهم باستقلاله التام وسيادته الكاملة، وأن لا يؤثر التعاون على هذه الثوابت ولا ينتقص منها في أي حال من الأحوال.

والواقع أن موقف لبنان هذا لم يكن يختلف في شيء عن مواقف سائر البلدان العربية الأخرى، لأنه ما من حكومة عربية واحدة، حسب ما ظهر في مشاورات الوحدة العربية، وحسب ما ذكره مصطفى النحاس باشا، كانت مستعدة للتنازل عن سيادة واستقلال البلد الذي تتولى مقدراته لأية وحدوية كانت.

صحيح أن إعلان المواقف الواضحة والصريحة أمر ضروري، لتبيان الخطوة اللاحقة، لكن الإعلان بحد ذاته يجب أن يكون مرتبطاً بأمرين أساسيين عل الأقل، أولاً: جلاء المعلومات المتوافرة حول الأمر المطروح لدراستها والتدقيق بمدى صحتها، وجدّيتها، والأهداف المرجوة منها، ليتم بعد ذلك إعلان الموقف المناسب منها.

وثانياً: عند إعلان الموقف، يجب الأخذ بعين الإعتبار أن هناك خطوات لاحقة، والتزامات محددة ستصبح محط الأنظار، تمهيداً لتحقيقها، أو ردّات فعل وانعكاسات يجب تحمّل تبعاتها بكل أوجهها.

وبالعودة إلى الموقف البريطاني الرسمي، والذي أطلق خلال الحرب العالمية الثانية، من قضية ضرورة إيجاد إطار رسمي لصيغة الوحدة العربية، لا بدّ من التوقف عند الأسباب التي دفعت ببريطانيا للإقدام على ذلك، فنجد أنها وقت إعلان هذا التصريح (العام1941) كانت قد أوشكت على حركة رشيد عالي الكيلاني التحررية في العراق عام 1941، فأرادت امتصاص غضب العرب، هذا أولاً، كما كانت على وشك التدخّل العسكري في سوريا ولبنان، بالإشتراك مع قوات فرنسا الحرّة، لطرد القوات الفرنسية الفيشية الموالية للمحور (ألمانيا- إيطاليا- اليابان) فيها، هذا ثانياً، كما أرادت تجميع الدول العربية في منظمة واحدة تربطها في النهاية بعجلة سياستها الإستعمارية لتحقيق مصالحها في المنطقة... هذا ثالثاً، والأهم هو امتصاص الروح الثورية العربية في بناء وحدة عربية قوية.. وبالتأكيد هناك أسباب أخرى عديدة لا مجال لذكرها.

وكما سبق وقلنا أن لبنان قد رحّب بالفكرة، وتجلى ذلك رسمياً في تلبية بشارة الخوري، في العام 1942، دعوة مصطفى النحاس باشا لزيارة مصر، وفي الخطاب الذي ألقاه بمجلس النواب بعد إعلان انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية عام 1943.

أضف إلى ذلك البيان الوزاري الذي ألقاه رياض الصلح في مجلس النواب في السابع من شهر تشرين الأول عام 1943، مشدداً على أهمية التعاون بين لبنان والدول العربية على قدم المساواة والإحترام المتبادل. وقد وقفت الدول العربية إلى جانب لبنان، في معركة الإستقلال التي خاضها، واعترفت به بلداً حرّاً مستقلاً، ودعمت ذلك بالتبادل الديبلوماسي معه.

والحصول على الإستقلال، وتبادل التمثيل الديبلوماسي، يجعلان موقف أي دولة أقوى وأفضل، وأكثر قدرة على الفاعلية في المواقف التي تتخذها، أو المشاريع التي ترغب في المشاركة بها، أو العمل على تحقيقها.

لقد كانت مصر هي المحور والمحرّك لقضية الوحدة العربية، والحكم يومها كان لمصطفى باشا النحاس، الذي كان رئيساً لحزب الوفد، وتسلّم رئاسة الحكومة بعد سقوط الملك فاروق تحت الضغط الإنكليزي.

ولهذا الهدف، وعلى مدى سنتين تقريباً، أجرى خلالها رئيس وزراء مصر اتصالات واسعة ومشاورات مكثفة مع حكومات الدول العربية المستقلة السبع، وفي طليعتها لبنان.

ومن الطبيعي جداً أن يكون للبنان ردّاً رسمياً رفيع المستوى، يليق بالأسلوب المصري الذي اتبعه مصطفى باشا النحاس. فكان أن حدّد لبنان موقفه في هذه المشاورات ببيان مكتوب سلّمه رياض الصلح، رئيس وزراء لبنان، في مطلع عام 1944 إلى النحاس باشا، وجاء فيه أن لبنان يرغب في التعاون مع الأقطار العربية لأنه يتفهم ضرورات هذا التعاون ومنافعه، ولأن الدول العربية أصبحت تتفهم أسباب موقف لبنان المتحفظ من الوحدة العربية، وتعترف بكيانه المستقل وحدوده الحالية.

وكما يظهر جلياً، فإن لبنان كان يحظى بمعاملة مميزة من قبل مصر، في تلك الفترة، ويعود ذلك إلى أسباب عديدة جداً. وتُعتبر مصر الدولة العربية الأولى، التي اعترفت باستقلال لبنان في الأربعينات، وشكّلت القاهرة مركزاً للتفاوض على استقلال لبنان، حيث تمّ إعلان التحالف بين بشارة الخوري وسامي الصلح، وصياغة " الميثاق الوطني "، الذي أسس نظام الحكم في لبنان في مرحلة ما بعد الإنتداب الفرنسي.

وأخذت المراحل التحضيرية لمشروع الوحدة، تتخذ منحًى عملياً جادّاً، يقتضي من كل الأطراف المعنية الإلتزام والصدق. ولبنان أحد هذه الأطراف الأساسية الذي تسعى مصر لجعله متواجداً بشكل فعلي وفعّال في كل الخطوات التي سبقت الولادة الحقيقية للجامعة. وكان ذلك يُقابل من الطرف اللبناني بالمشاركة الرسمية الرفيعة المستوى، والمنبثقة من موافقة شبه إجماعية من كل الجهات الحكومية، والدوائر المعنية، والشرائح السياسية والشعبية.

فتشكّلت اللجنة التحضيرية برئاسة مصطفى النحاس من مندوبين عن مصر وسوريا ولبنان والعراق والسعودية واليمن والأردن وممثل لعرب فلسطين. وتألّف الوفد الذي مثّل لبنان فيها من رياض الصلح رئيساً، ومن العضوين سليم تقلا وزير الخارجية، وموسى مبارك مدير غرفة رئاسة الجمهورية.

وعقدت اللجنة التحضيرية سلسلة من الإجتماعات أفضت إلى ما عُرف يومها ب"بروتوكول الاسكندرية"، وهو مشروع الميثاق المتضمّن الخطوط العريضة، والمبادىء الرئيسية التي خلُصت إليها نقاشات اللجنة التحضيرية، لإنشاء جامعة الدول العربية. وزيادة في حرص الوفود العربية على تأكيد احترام الدول العربية لإستقلال لبنان وسيادته، واستجابة منها لرغبة الوفد اللبناني، ضمّنت اللجنة التحضيرية بروتوكول الإسكندرية قراراً خاصاً يتعلّق بضمان استقلال لبنان.

ولكن الأجواء السياسية تتبدّل وفقاً لمعطيات وتغيّرات وظروف كثيرة، فكان تعليق اجتماعات اللجنة التحضيرية من تشرين الأول 1944 إلى شباط 1945، حصل خلالها تبدّل في رئاسات حكومات بعض الدول العربية، من بينها لبنان حيث استقال الرئيس رياض الصلح وخلفه عبد الحميد كرامي، ومصر حيث خلف أحمد ماهر باشا وحكومته سلفه مصطفى النحاس باشا.

ومع عودة الحياة إلى مشروع جامعة الدول العربية، الذي كان على الحكومات العربية المشاركة في عضوية اللجنة الفرعية الموكلة دراسة الميثاق الخاص به وإبداء الملاحظات عليه. وبالتأكيد فإن لبنان تابع مسيرة العمل في هذا المشروع، وبقي يسلك السياسة ذاتها، فكان أن شكّلت الحكومة الوفد الذي يمثل لبنان في هذه اللجنةمن وزير الخارجية هنري فرعون، وأمين عام وزارة الخارجية فؤاد عمون، ووزير لبنان المفوض في القاهرة يوسف سالم.

وكانت المناقشات قد شهدت ارتفاعاً في حدّة التمسّك ببعض البنود الواردة في البروتوكول، وتوتراً ملحوظاً في الإختلاف بوجهات النظر، ولبنان كان معنياً بما يجري.. إلى أن خلُص الأمر لصالحه، وتمّ صرف النظر عن ضرورة توحيد السياسة الخارجية للبلدان المشاركة في الجامعة، وأيضاً أن لا تكون مقررات الجامعة ملزمة إلا لمن يقبلها.

وبعد مضي شهر ونيّف، أعلن عن قيام "جامعة الدول العربية" في 22/آذار/1945، بعد أن أشبع ميثاقها دراسة وتمحيصاً ومناقشة واعتراضات، وهو يتضمن مقدمة وعشرين مادة. وبالنسبة للبنان، فقد حقق باسهامه في جامعة الدول العربية وانتمائه إليها مكاسب جمّة، وحصل على الضمانات التي أراد.

لقد أثبتت مصر بهذا الإنجاز الذي وُلِدَ بجهود مضنية، مكانتها وثقلها في العالم و تحققت أمنية عربية عمل لها العرب منذ مؤتمر باريس الأول عام 1913، وخلال الحرب العالمية الأولى، إلى جانب أن الأحداث الخطيرة بالمنطقة قد دفعت الدول العربية إلى الإسراع بالوحدة، فالوضع الفلسطيني كان يثير قلق الشعوب العربية وخاصة في مصر، واعتداء فرنسا على استقلال سوريا ولبنان عام 1943، فكان الواقع العربي حينذاك يتطلّب مثل تلك الوحدة لمواجهة الظروف والتحديات،... وكان مصطفى النحاس زعيماً مصرياً يلقى ترحيباً لدى الأوساط المثقفة.

 

نبيل عرابي

....................

المصادر والمراجع:

- معركة مصير لبنان في عهد الإنتداب الفرنسي، شفيق جحا، الجزء الثاني، مكتبة رأس بيروت، بيروت، 1995.

- قضايا عربية في البرلمان المصري، د. نبيه بيومي عبد الله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996.

- صحيفة الأهرام عدد 13/شباط/2017.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم