صحيفة المثقف

محمود محمد علي: قراءة في كتاب فلسفة هيوم الأخلاقية (2)

محمود محمد عليللأستاذ الدكتور محمد محمد مدين

لا شك في أن "فلسفة هيوم الأخلاقية" لمؤلفه الدكتور "محمد مدين" كما ذكرت في المقال السابق، هو واحد من أهم الأعمال التي شرحت وفسرت وأؤلت فلسفة هيوم على النحو الصحيح، بل لعله المؤلف الأول والوحيد في المكتبة العربية الذي أنصف هيوم وأعطى للعقل مكانته في فلسفته في الأخلاق كما ذكر الصديق الدكتور "حمدي الشريف"، بعد أن انتشر تفسير د. زكي نجيب محمود وساد في الثقافة العربية ومؤداه أن هيوم هو فيلسوف العاطفة في الأخلاق وأنه يعلي من شأن العواطف والإحساسات فقط في مجال الأخلاقيات وليس للعقل دور في فلسفته الأخلاقية .

وهذا الإسهام المميز ليس جديدا بالنسبة للدكتور مدين الذي تحمل كل كتاباته جديدا وإسهامات مميزة إلى المكتبة العربية والفلسفية؛ بفضل امتلاكه للأدوات المنهجية والنقدية والفكرية، علاوة على رؤيته المميزة لتاريخ الفكر الفلسفي والحركات الفكرية والفلسفية

ونستأنف هنا في هذا المقال حديثنا فنقول: الحقيقة أن التركيب ينبغي أن يسبقه تحليل، و"محمد مدين" لا يرغب في الجمع بين العقل والعاطفة، قدر رغبته في قراءة هيوم على النحو الذي يعيد فيه الاعتبار الدور العقل في تأسس الأخلاق، ووسيلته إلى ذلك، إنما هي "إعادة بناء الرسالة"، بحيث تسبق الأخلاق المعرفة النظرية وليس العكس (12) ؛  إلا أن " محمد مدين" يري أنه لا يوجد في الفلسفة الحديثة فكرة أُسيئ فهمها وتقديرها، مثل هذه الفكرة التي نسبت إلي " هيوم"، والتي يُنظر إليها علي أنها فضيحة هيوم Hume`s Scandal، وقد يُشار إليها، في بعض الأحيان بأنها مقصلة "هيوم" Hume`s Guillotine.

وهنا يتساءل محمد مدين قائلا: ما الأساس الذي دفع ديفيد هيوم إلى كتابة الفلسفة؟

وهنا نجد "محمد مدين" يبين لنا أنه قد حاول ماكناب MacNabb  في كتابه عن ديفيد هيوم 1951،علـى حـد تعبيـر مدين، أن يدافع عن هيـوم ويكشف عن دور العقل وأهميته في نظريته الأخلاقية والقيمية وكيف أنـه لـم يغفـل دور العقـل. ولعل كتاب "راشـيل كيد" Kydd Rachael عــن العقــل والسلوك في رسالة "هيوم" يعد أفضل المحاولات الفلسفية التي حاولت إنصاف دور العقل في نظریة دیفید هیوم القيمية والأخلاقيـة؛ حيث تقدم فيـه "راشيل كيد" تحليلاً مسهباً للأدوار المختلفة والمتغيرة للعقل في الرسالة (13).

وبالإضـافة إلى ذلك، نجد أن "محمد مدين" يتفق مع "نورمـان كمب سميث" Norman Smith Kemp  فى كتابه عن "فلسفة ديفيد هيوم"، على أن القـراءة المتأنيـة والمدققة لرسالة "هيوم" في "كليتها"، وبدون التوقف عند جزء منهـا، وخاصة ولو كان هذا الجزء هو "الأول" من الرسالة واعتباره معبراً عن "منهجية" الرسالة كلها، وهنا يقول مدين بأن هذه القراءة  المتأنية سوف تنتهـي بالباحث بنا إلى تأكيد قصور هذه الفكـرة السائدة عـن "هـيوم" في كثير من الأوساط الفلسفية وعجزها عن تفسير ما نجده في هذه الرسالة من "عدم اتساق"، فهـي تخفق في تفسر المواقف المتناقضة التي قام "دفيد هيوم" بتورط نفسه فها، ومنها على سبيل المثال، معرفة السبب الذي من أجله فكر وبوضوح، وجود انطباع للنفس، وذلك في الكتاب الأول من الرسالة، فهو يؤكد على أنه "لا يوجد لـدينا انطباع يقابـل النفس"، بينما في الكتاب "الثاني" من الرسالة نجد أن نظريته في العواطف غير المباشـرة، وهـي النظرية المعروضة بإسهاب شديد، تقوم على افتراض أننا، في الواقـع، نعاني ونختبـر انطباعا للنفس، بل إن هذا الانطباع، ليس انطباعا مؤقتاً وعـابراً، إنما هو انطباع مصاحب دوماً لنا ولا يفارقنا"؟ ولمـاذا إختار "هيوم" عند دخوله عـالم الفلسفة ومجالاتها للمرة الأولى أن يقدم مشروعاً عريضاً واسع المدى إلى حد بعيد، وهـو المشروع الـذي جعله "هيوم" لا يتضمن فحسب نظرية في المعرفـة، وهي نظرية تكفي وحـدها لتكون مشـروعاً طموحاً وكافياً، وإنما قـدم بجانب ذلك نظرية في العواطف ونسقاً في القيمة والأخلاق؟(14).

ثم يميز "محمد مدين" بين الكتاب الأول في رسالة هيوم في الفهم on understanding، والكتاب الثاني في العواطف on passion، والكتاب الثالث في الأخلاق on morals على أساس الاعتبارات التصورية والمنهجية، ومدى تأثير هذه الاعتبارات على منهج البحث الأخلاقي؛ ومن الواضح أن تمييز د. محمد مدين بين الكتب الثلاثة لـ"هيوم" يقوم على أساس فهمه لدور العقل فيهم. وعلى خلاف ما يحاول أن يقدمه السابقون ألا وهو تطبيق دور الحس والتجربة، ويريد مدين "أن يعيد بناء الرسالة من جديد على اختلاف الترتيب الذي رتبه "هيوم" لرسالته (15).

ويعد كتاب (فلسفة هيوم الأخلاقية) عصارة تفكير الدكتور محمد مدين في الفلسفة الحديثة، ولذلك لم أهدر الفرصة وحاولت أن أغتنمها لقراءة هذا الكتاب الرائع، وذلك لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه القراءة التي نتناولها في  ثلاثة أقسام: مدار القسم الأول على التقديم المادي للكتاب من خلال ثنائية البنية، والقسمين: الثاني والثالث ينصبان على أهم القضايا التي بسطها الكتاب للدرس والتأمل والحوار من خلال البنية الثنائية التحليلية والبنية الثنائية التركيبية.

وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي يقوم علي ضرورة إعادة النظر في الدور الذي يقوم به العقل في نظرية الأخلاق عند هيوم (16).

الدافع الثاني: عملي واقعي، حيث يعول علي أن رسالة هيوم برغم ظهورها علي النحو الذي تداولها به أو الترتيب الذي تعامل به "محمد مدين" مع مكوناتها، فإن هيوم عند كتابتها، لم يكتب بنفس الترتيب الذي يراها عليه "محمد مدين"، ومن ثم فإن القراءة الجديدة التي يقترحها "محمد مدين" هي التي تقضي بعدم النظر إلي الجزاء الخاصة بنظريته الأخلاقية علي أنها مجرد تطبيق لنظريته في المعرفة أو الفهن وحسب، وهي النظرية التي تشغل الكتاب الأول، ومن هنا كان تبرير العنوان لكتاب محمد مدين بأنه "إعادة بناء الرسالة" (17).

ولأكثر من سبب فقد جعل الدكتور "محمد مدين" مضمون الكتاب وفحواه ومادته في الاستدلال علي الهدف الأول، أي علي الجانب النظري المعرفي، مستغلاً كل فرصة للتعليق بالسلب علي أصحاب الدافع الثاني، بين نقد أو نقض؛ والدليل علي ذلك ما قاله المؤلف في مقدمة كتابه:" ونحن لو نظرنا إلي القائمة الطويلة التي كان هيوم قد ذكرها في مقدمة الرسالة للفلاسفة الذين سبقوه في مهامه الجديدة فسوف نتبين كم هي قائمة "شاذة" و" غريبة" لو اعتبرنا نظريته في الأخلاق، وكما يفترض علي نحو عام وشائع، مجرد تطبيق وحسب للمبادئ التي كان قد توصل إليها في مجال آخر . وهذه القائمة المشار إليها فيما تشتمل " جون لوك" و"ماندفيل" و" شافتسبري" و"هاتشيسون" . بالإضافة إلي أن هيوم قد حدد بنفسه المهمة التي استهدفها من تأليف الرسالة، وذلك فيما وضعه لها من عنوان فرعي توضيحي؛ فالرسالة في النهاية تعبر، عن محاولة من جانب ديفيد هيوم لا ستخدام منهج الاستدلال التجريبي في القضايا الأخلاقية ومشكلات القيمة (18)

ومن هنا كانت مهمة "محمد مدين" في مقدمة كتابه أن يعرف القارئ بمقصوده بفلسفة هيوم الأخلاقية، وأن يبين أن فلاسفة الأخلاق قد أخطأوا عندما استقبلوا نظرية هيوم في القيمة والأخلاق بشئ من الجفوة وعدم التعاطف بحجة أنه لم ينصف الدور الذي يقوم به العقل في الأحكام الأخلاقية والقيمية والسلوك الأخلاقي (19).

والواقع أنه إذا كان صحيحاً القول بأن للفيلسوف حدثاً واحداً يتكرر كل عدة سنوات كما قال الفيلسوف الفرنسي المعاصر " هنري برجسون"؛ فإنه صحيح أيضاً القول بأن للمفكر المتميز خطاباً واحداً يتكرر دائماً عبر مستويات عديدة تعكس كلها رؤية واضحة ومتفردة، كتلك التي نجدها متضمنة في جميع أعمال "محمد مدين"، كتاباً كانت .. أم ترجمة؛ وهذه الرؤية متجسدة في أسلوبه الفلسفي ومدي ارتباطه بالحركة التحليلية، إذ تشكل تفكير "محمد مدين" من خلال الأطروحات الرئيسة للحركة التحليلية التي تجعل الفلسفة منصبة علي اللغة وتحليلاتها للتخلص مما يشوب التعبيرات اللغوية من لبس أو غموض، أو خلط زائف فهناك توجه منطقي لغوي للفلسفة التحليلية . وربما هذا ما دفع "محمد مدين" للاهتمام باللغة .. فهو مهموم بها، يلقي الضوء علي المفاهيم بهدف الكشف عن أصولها واستيعاب معانيها ودلالاتها الحقة وإيضاحها، وهذا ما شكل لدي "محمد مدين" قناعته الخاصة المستمدة من تأثره بالحركة التحليلية بان اللغة هي الوسيلة الوحيدة لفهم العالم بصفة عامة، والإنسان بصفة خاصة، وهي الأداة الفعالة لحل الإشكالات الفلسفية (20).

ومن هنا يقع كتاب (فلسفة هيوم الأخلاقية) الذي نحن بصدده الآن ضمن الدوال الرئيسية علي معالم هذا الخطاب الذي يمثل بحق اتجاهاً معرفياً جديداً في حقل الفلسفة الحديثة ... وللحديث بقية..

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – بجامعة أسيوط.

................

12- ماهر عبد المحسن: المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

13- السيد عبد الفتاح جاب الله: مدين "محمد" المنهج التحليلى فى الدراسات الأخلاقية، مجلة أوراق فلسفية، نشر أحمد عبد الحليم عطية، العدد 51، 2016، ص782

14- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

15- محمد محمد مدين: فلسفة هيوم الأخلاقية، دار التنوير، بيروت، لبنان، 2008، ص 12.

16- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

17- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

18- المصدر نفسه، ص 7.

19- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

20-غادة إمام: منطق النقد الأخلاقي عند محمد مدين، مجلة أوراق فلسفية، العدد 60، 2018، ص 115.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم