صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: علم العروض أو موسيقا الشعر بين الخليل والاصمعي

يسري عبد الغنيحكى ابنُ جِنِّي، في "الخصائص" عن الخليل: أنَّ الأصمعيَّ كان أراده على أن يعلِّمَهُ العَرُوض، فتَعَذَّر ذلكَ على الأصمعي وبعُدَ عنه، فيَئِسَ الخليل منه، فقال له يومًا: يا أبا سعيد، كيف تُقَطّع قول الشاعر:

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ        وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ

قال: فعلمَ الأصمعي أنَّ الخليل قد تَأَذَّى بِبُعدِه عن علم العَرُوض، فلم يعاودْه فيه.

ليستْ صعوبةُ هذا الفَنِّ إذًا وليدةَ هذا العصر، ولا نتيجة من نتائج تَدَنِّي مستوى التعليم، أو ثمرةً أعقَبناها طولُ الأمد، وبُعْدُ الشُّقَّة، وتبلُّدُ الحسِّ، وتنوُّع فنون الأدب؛ وإنَّما هي مشكلة قديمة قِدَمَ هذا الفَنِّ نفسِه؛ إذ تَعُود إلى عصر الخليل واضعِ العَرُوض، وقد اصطَلَى بنارها الأصمعي، وهو مَن هو معرفةً بالشِّعر، ورواية له، ودرايةً بأساليبه وفُنُونه، ونقدًا لغُرَرِه وعيونه.

على أنَّ الخَطْبَ اليوم قد عمَّ؛ إذ سرى اعتياص هذا الفن إلى صُفُوف بعض المُدَرِّسين والمُتَخَصِّصينَ؛ بَلْهَ الطُّلاَّبِ والمُعَلِّمينَ؛ لضياع هذا العلم الجليل في زماننا، وقلَّة الاحتفال به وبأهله.

وبِتَّ تفتقد هذا الحسَّ العَرُوضي، لدى الكثرة الكاثرة مِن خِريجي الجامعات، ذَوي التَّخَصُّص الدَّقيق في العَرَبيَّة وآدابها، بل الكارثة  الكبري في أدعياء الشعر من المتشاعرين والمتشاعرات وصارَ الأمر إلى ما قاله أبو العلاء:

تَوَلَّى  الخَلِيلُ  إِلَى   رَبِّهِ      وَخَلَّى العَرُوضَ لِأَرْبَابِهَا

فَلَيْسَ  بِذَاكِرِ   أَوْتَادِهَا        وَلاَ مُرْتَجٍ فَضْلَ أَسْبَابِهَا

أسباب صعوبة العَرُوض:

يوصَف العَرُوضُ بأنَّه: العلم الموسيقيُّ السَّهل بطبيعته، الصَّعب بطريقته، ولهذه الصُّعوبة أسباب مختلفة، يمكن أن نذكرَ منها:

1- إغفال الصِّلة بين العَرُوض من ناحية، وبين الموسيقى والنَّغَم والإيقاع من ناحية أخرى، مع أنَّ الصُّلَة بينهما قديمة، تعود إلى نشأة العَرُوض وابتكاره، ولو عُدْنا إلى أخبار هذه النَّشأة لَوَقَفْنا على حقائقَ كثيرةٍ، تجلو هذه الصلة.

من ذلك ما رواه أبو الحسن الأَخْفَش، عن الحسن بن يزيد، أنه قال:

سألتُ الخليلَ بن أحمدَ عن العَرُوض، فقلتُ له: هَلاَّ عَرَفتَ لها أصلاً؟ قال: نعم، مررتُ بالمدينة حاجًّا، فبينما أنا في بعض طُرُقاتها، إذ بصُرت بشيخٍ على بابٍ يعلِّم غلامًا، وهو يقول له قل:

نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم  نعم        نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم لا لا

قال الخليل: فَدَنَوتُ منه، فسَلَّمتُ عليه، وقُلتُ له: أيُّها الشيخ، ما الذي تقوله لهذا الصَّبي؟ فذكر أنَّ هذا العلم شيء يَتَوَارثه هؤلاءِ الصِّبية عن سَلَفِهم، وهو علم عندهم يُسَمَّى "التَّنعيمَ"؛ لقولهم فيه: نعم.

قال الخليلُ: فَحَجَجْتُ، ثمَّ رجعتُ إلى المدينة، فأحكمتُها.

ومِن ذلكَ ما يُروَى: أنَّ الخليلَ كان يُقَطِّع بيتًا، فرآه ولده في تلك الحالة، فخَرَجَ إلى الناس يقول: إنَّ أبي قد جُنَّ، فدَخَلَ النَّاس عليه وهو يُقَطِّع البيتَ، فأخبروه بما قال ابنه، فقال له:

لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا أَقُولُ عَذَرْتَنِي     أَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا تَقُولُ عَذَلْتُكَا

لَكِنْ جَهِلْتَ  مَقَالَتِي  فَعَذَلْتَنِي        وَعَلِمْتُ أَنَّكَ جَاهِلٌ  فَعَذَرْتُكَا

وقيل: إنَّ الخليل مَرَّ بالصَّفَّارين، فأخذ العَرُوضَ من وقع مِطْرَقَةٍ على طسْتٍ، ولا ريب أن الخليل كان على علم جمٍّ بالموسيقى؛ بل إنَّ بعضهم ينسب إليه اختراع علم الموسيقى العَرَبيَّة، وتكاد مصادر ترجمته تُجْمع على أنَّه صَنَّف كتابًا في الإيقاع وآخرَ في النَّغَم، قال عنه السيوطي: "وكذلك ألَّف كتاب "الموسيقى" فَزَمَّ - أي ربط - فيه أصناف النَّغَم، وحصر به أنواع اللُّحُون، وحدَّد ذلك كله، ولخَّصه، وذكر مبالغ أقسامه، ونهايات أعداده، فصار الكتاب عِبْرةً للمُعتبرينَ، وآيةً للمُتَوسِّمينَ".

فالصِّلَة إذًا بين العَرُوض والمُوسيقى قديمةٌ ثابتةٌ، وإغفالها يُؤَدِّي إلى فَصْم عُرًى وثيقةٍ فَصْمًا يخلُّ بفَهم العَرُوض، وإتقانه، وتطبيقه.

2- التَّوَسُّل لتقطيع الأبيات، بوضع الإشارات المختلفة، التي تمثِّل المُتَحَرِّك والسَّاكن (/، O، أو -، .) ولا تفيد شيئًا في معرفة وزن البيتِ أوِ الكَشْف عن مَواطِن كسرِه، وما قد يكون فيه من خَلَل؛ بل هي وسيلةٌ يَتَحَوَّل فيها هذا الفَنّ السَّماعي المُعتمِد على الذَّوقِ إلى رموزٍ مكتوبةٍ، لا طائل منها، وأذكر أنَّ  أستاذَنا محمد على حسن الدشناوي  - رحمه الله - كان يَنْهانا عن سلوك هذا المسلك - أي عن استعمال هذه الإشارات التي لا تُغْنِي عن المُقَطِّع شيئًا، وكان أن اعترضَ عليه أحدُ الطَّلَبة بأنَّه لا يَقْوى على التَّقطيعِ إلاَّ بهذه الوسيلة، فأجابه الأستاذ على التوِّ: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [سورة مريم: 75].

3- ربطُ تعلُّم العَرُوض بفَهم دوائر البُحُور، وهيَ دوائر تدلُّ على عبقريَّة الخليل، وقوة إبداعه في تأليف تفعيلات البحور، وفكّها بعضها من بعض، والإشارة إلى ما استعمل من البحور وما أهمل؛ لكنَّها على ما فيها من إبداع وابتكار، لا تفيد في تيسير معرفة الوزن، ولا تُقَوِّي الحسَّ العروضي؛ بل لا تكاد تُسْهِم في ذلكَ، ووقعها على المتعلم الريّض المبتدئ أشبه بوقع الطَّلاسم والمعمّيات، ومن طريف ما يُروَى أن محمد بن عبدالوهاب الثقفي لَقِيَ ابن مُناذِر الشاعر - وكان بينهما إِحْنَةٌ - في مسجد البصرة، ومعه دفترٌ فيه كتاب العَرُوض بدوائره، ولم يكن محمدٌ يعرف العَرُوض، فجعل يلحظُ الكتاب، ويقرؤه فلا يفهمه، وابن مناذر متغافلٌ عن فعله، ثم قال له: "ما في كتابك هذا؟"، فخبَّأهُ في كمِّه، وقال: "وأيُّ شيءٍ عليك مما فيه؟"، فتعلَّق به ولبّبه، فقال ابن مناذر: "يا أبا الصلت، اللهَ اللهَ في دمي، فطمع فيه وصاح: يا زنديقُ، في كمّك الزَّندَقة، فاجتمع الناس إليه، فأخرج الدَّفتر من كُمِّه، وأراهم إيَّاه، فعرفوا براءته مما قذفه به، ووثبوا على محمد بن عبدالوهاب، واستخفوا به، وانصرف بِخِزْيٍ، هذا؛ وقد تناول نَفَرٌ من علماء العَرُوض المُحْدَثِينَ الاحتكام إلى هذه الدَّوائر بالنَّقد.

4 - مُوَاجَهة الطالب بحشد منَ المباحث والمُصطَلَحات العَرُوضيَّة المُتَداخلة، ينوء بحفظها، ويطول عهده بتطبيقها، أو بتوزيعها على أبحرها الخاصَّة بها، وحقُّها أن تُرْجَأَ، وتُوَزَّع على بحورها، فلا تُذْكَرُ أمام الطالب إلاَّ بعد معرفته البحر الذي ترد فيه.

5- البَدْءُ بالصَّعب منَ البُحُور، والتَّدَرُّج نحو الأسهل، مع أنَّ طبيعة الأمور تقتضي العكس، فالبدءُ بالأسهل يُعِين على فَهم الأصعب، وأعني بالأسهل ما تَأَلَّفَ من تفعيلة واحدة بسيطة أو خفيفة؛ كـ"فاعلن"، و"فعولن"؛ إذ إنَّ تَعَلُّمها، ومعرفة إيقاعها يُعينُ الطَّالبَ على تَعَلُّم التَّفعيلات الأطول، ويُمَهِّد لمعرفة تداخل التَّفعيلات المختلفَة.

إنَّ أسباب الصُّعوبة هذه - على اختلافها - جديرة بالدِّراسة والبحث، وفي تَجَنُّبها تيسير لتعليم العَرُوض، وتذليل لكثيرٍ منَ العَقَبات المُعتَرضة طريقَه، على أنَّ أهمَّها وأكثرَها تأثيرًا في تعليم العَرُوض السببُ الأَوَّل، وهو إغفال الصِّلة بين العَرُوض والموسيقى والإيقاع، ففي إعادة هذه الصلة عودٌ بالعَرُوض إلى منابِعه الأولى وموارده الصافية، وهو ما يرمي إليه هذا البحث.

علاقة العروض بالغناء والإيقاع:

يقول حسَّان بن ثابت شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا  كُنْتَ  قَائِلَهُ        إِنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ

والعَلاقة بين الشِّعر وبين الموسيقى والنَّغَم والإيقاع عَلاقةٌ وثيقة، لا تكاد تخفى على أحد، وأمثلتها في أدبنا القديم أكثر من أن تُحصَى أو تستظهر.

ولعلَّ من أبرز مظاهرها الحُداء، الذي كانت تُساق به الإبل، فإذا ما أسرع الحادي أسرعت الإبل، وإذا أَبْطَأ أَبْطَأَتْ، ومنه الحديثُ المشهور: ((ارْفُقْ - يَا أَنْجَشَةُ، وَيْحَكَ - بِالْقَوَارِيرِ))، يريد أن يبطئ وقع الحُداء؛ لتبطئ الإبل وقع المسير.

ومن نحو هذا ما يُرْوَى عنِ النابغة، حين أَقْوَى في شِعْره، فلم ينبهه على ذلك إلا تَغَنِّي الجواري، ومَدُّهن الصوت بحركة حرف الرَّوِيِّ، وهو الدال في قوله:

زَعَمَ البَوَارِحُ أنَّ رِحْلَتَنَا  غَدًا        وَبِذَاكَ خَبَّرَنَا الغُرَابُ الأَسْوَدُ

لاَ  مَرْحَبًا  بِغَدٍ  وَلاَ  أَهْلاً  بِهِ        إِنْ كَانَ تَفْرِيقُ الأَحِبَّةِ فِي غَدِ

ولأهمية عنصر الموسيقى في الشِّعر قيل: الشِّعر موسيقى، وقال النُّقَّاد عن البُحتري: أرادَ أن يُشْعِرَ فغنَّى، ولا أدلّ على ذلكَ أيضًا من كتاب "الأغاني"، الذي رمى منه مصنفه إلى جمع أشهر أغاني عصره، فجاء سِجِلاًّ ضَخْمًا لأشعار العرب وأخبار الشعراء والمغنِّين على حدٍّ سواء.

ومِن ثمَّ؛ كان العَرُوضُ علمَ إرهاف الآذان، وإتقانِ الألحان، يَتَطَلّب أول ما يَتَطَلّب ذَوْقًا سليمًا، وأُذُنًا مرهفةً، تُمَيِّزُ الإيقاع الصحيح منَ الإيقاع المُخْتل، والنَّغَم المنضبط منَ النغم النَّشَاز.

من أجل هذا كله؛ لا بد منَ العودة إلى هذينِ العُنصرينِ في معرفة العَرُوض، وهما: النَّغَم والإيقاع، ويمكننا الإفادة منهما

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم