صحيفة المثقف

عدنان حسين أحمد: ناصر الدين دينيه.. الجانح من مدار الفن المُرهف إلى فضاء الفكر الخلاّق

عدنان حسين احمدصدر عن دار "لندن للطباعة والنشر" في المملكة المتحدة كتاب "الشرق كما يراه الغرب" للفنان الاستشراقي والمفكر الفرنسي ناصر الدين إتيين دينيه وصديقه الجزائري سليمان بن إبراهيم، وقد تبنّى ترجمة الكتاب وتقديمه وتهميشه الدكتور محمود براهم. وعلى الرغم من أنّ الكتاب فكري بامتياز إلاّ أن المترجم وكاتب التقديم ارتأى أن يسلّط الضوء على المؤلفَين وخاصة ناصر الدين دينيه ويتحدث عنه كفنان استشراقي، ويتوسع في الحديث عن سيرته الذاتية والإبداعية التي تجاوزت حدود الفن الاستشراقي، وحبه للصحراء الجزائرية تحديدًا، وولعه بالجانب الاجتماعي والأنثروبولوجي، ناهيك عن شغفه بالطبيعة، وتجوّله في ربوعها وواحاتها التي خلّدها في أعماله الفنية التي لفتت انتباه النقاد والمتلقين.

وُلد ألفونس إيتيين دينيه في باريس في 28 مارس 1861م في عائلة مثقفة ميسورة الحال تعمل في ميدان العدالة والقانون، وقد تركت ابنها، شأن العوائل المثقفة، أن يختار المجال الدراسي الذي يفضّله ويجد نفسه فيه ولاغرابة في أن يذهب بكل جوارحه صوب الفن التشكيلي الذي أحبّه منذ الصغر حيث التحق بمدرسة الفنون الجميلة وتتلمذ على أيدي كبار الفنانين أمثال غالان وبوغيريو وفلوري. وفي سنة 1882م أُتيحت له الفرصة لأن يعرض لوحاته في "صالون باريس" حيث حاز على "درجة الشرف" وكان أول عمل له يحمل عنوان "الأم كلوتيد". وفي سنة 1883م اقترح عليه الرسام البريتوني لوسيان سيمون أن يسافر إلى الجزائر. وما إن وطئت قدما دينيه أرض الجزائر حتى شغف بها حُباً. وحينما حصل على منحة دراسية عام 1884م عاد إلى الجزائر بصحبة إدوارد ميشلان، وهو من هواة الرسم وممارسيه لكنهما ما إن وصلا إلى "ورقلة" حتى فوجئ ميشلان بخبر وفاة والده فحزم حقائبه وعاد إلى باريس مسرعاً لكي يتدبر شؤون أسرته ويدير مصنع والده. وفي سنة 1890م التي تُعدُّ سنة فارقة في حياة دينيه لأنه تعرّف إلى السيد سليمان بن براهيم باعمر في مدينة "بوسعادة" حيث تعرّض دينيه في يوم من الأيام إلى اعتداء وحشي من طرف أشخاص يريدون قتله، فدافع عنه بشجاعة نادرة، وأنقذه من موت أكيد، وتحوّل سليمان منذ تلك اللحظة إلى حارسه الشخصي، وصديقه الحميم الذي لا يفارقه إلاّ عند الضرورة القصوى، وصارا يقضيان ستة أشهر في باريس، والستة الأخرى في بوسعادة يساعدان بعضهما بعضاً ، ويؤلفان الكتب المشتركة رغم أن سليمان لا يجيد القراءة والكتابة ولكنه كان يروي له القصص والحكايات الشعبية الجزائرية فيعيد دينيه صياغتها من جديد.

بساطة الإسلام وسماحته

2623 الشرق كما يراه الغربزار دينيه الجنوب الوهراني، وواحة ميزاب، والجنوب التونسي ومصر على ظهور الجمال، وسيلة النقل البدوية التي يفضّلها في تلك المضارب المفتوحة على المدى اللانهائي. وذات مرة قال لصديقه مؤرخ الفن المعروف ليونس بينيديت "هذا بلدٌ ينبغي زيارته كسائحٍ أو كعالِمٍ لا غير". ثم انكبَّ دينيه على دراسة الأديان وأبدى ولعاً شديداً بالإسلام لما رأى فيه من بساطة وسماحة، ومما ساعده أكثر في فهم الإسلام والتعرّف إليه من كثب هو إجادته للغة العربية بعد أن تعلّمها في باريس مع صديقه لوروا، وطوّر معرفته بها إلى الدرجة التي أخذ يتحدث فيها بطلاقة، ويترجم من آدابها إلى اللغة الفرنسية كما فعل في ترجمة قصيدة ملحمية لعنترة بن شداد.

اقتنى دينيه سنة 1904م بيتاً طينياً في الواحة لكن الرَجُلين، دينيه وسليمان، قررا الإقامة في بوسعادة. وفي سنة 1920م اشترى ﭬيلا في ضاحية سانت أوجين بالجزائر لكنه تعرّض للعنف على يد بعض اليهود عندما كان يهمُّ برسم لوحة "الصعود إلى بوسعادة". ولابد من التنويه هنا بأن دينيه رسم العديد من النماذج الإنسانية ولم يرسم الطبيعة إلاّ كإطار للثيمات والفيكَرات التي تشكّل معمار السطح التصويري بينما انصب تركيزه على المشاعر والانفعالات الإنسانية كالفرح والحزن والغضب وما إلى ذلك، وهذا الأمر يدفعنا للقول بأن لوحات دينيه لم تكن واقعية وانطباعية فحسب، وإنما هي تعبيرية أيضًا. يشير كاتب المقدمة إلى أشهر لوحات دينيه المعروضة في أكبر المتاحف العالمية مثل "سطوح الأغواط" في متحف اللوكسمبورغ، و "منظر من مسيلة" في متحف بو Pau، و "ساحر الثعابين" في متحف سيدني.

صديق العرب

تُعدّ سنة 1913م سنة مفصلية في حياة دينيه لأنه اعتنق الإسلام واتخذ له اسماً جديداً وهو "ناصر الدين" فلم تستسغ الحلقة الضيقة المتطرفة من المجتمع الاستعماري هذا التحوّل من المسيحية إلى الإسلام فصبّت جام غضبها عليه ونعتتهُ بنعوت شتى مثل "المرتد، والخائن، وصديق العرب"، وهجره الكثير من أصدقائه وعلى رأسهم الفنان الاستشراقي بول لوروا. ويؤكد الروائي الجزائري مراد بوربون "أنّ سنة 1913م كانت سنة فاصلة بالنسبة للعديد من مؤرخي الفن، فقبلها كان دينيه مستشرقًا موهوبًا وبعدها صار مرتدًا وصديقًا للعرب". اتسمت علاقات ناصر الدين مع السلطات العسكرية في بوسعادة بالتوتر الشديد والمواجهة المباشرة لأنه كان يدافع عن المظلومين في هذه الواحة، ويؤازر مطالب الجزائريين الذين جنّدتهم فرنسا واضطر لأن "يعبر البحر سبع عشرة مرة في زمن الحرب وفي ظل ملاحة محفوفة بالمخاطر"، ولعله من بين القلة الذين تجرؤوا بالكلام عن "الوسخ الاستعماري" أو "العار الاستعماري". وفي سنة 1929م حجّ ناصر الدين إلى بيت الله الحرام وحاز على لقب الحاج الذي يعتز به جدًا. وقبل أن يواجه مصيره المحتوم طلب من ذويه وأصدقائه تنفيذ وصيته التي تتمثل بدفنه على وفق الطقوس الإسلامية، ونقل جثته إلى بوسعادة ودفنها تحت القبة البيضاء التي "كانت أفضل موضع للخلوة، والتأمل، وراحة القلب". وقد تحقق له ما أراد، وحضر جنازته قرابة الـ 6000 شخص جاؤوا من قلب الصحراء الجزائرية، وشيعوه إلى مثواه الأخير. وقد تعرّض بيت ناصر الدين في بوسعادة ،الذي تحول لاحقًا إلى متحف، إلى الحرق على أيدٍ غادرة عام 1994م. كما يتوقف كاتب المقدمة بشكل مقتضب للحديث عن الكاتب الآخر سليمان بن إبراهيم باعمر الذي ولد سنة 1870م في واحة بوسعادة، وتعرّف إلى ناصر الدين سنة 1889م وأصبح مساعدًا له خلال 45 عاماً ، بل مستشاره ومرشده في عالم الإسلام وكان يسافر معه إلى باريس، ويقيم في منزله كفرد من أفراد العائلة إلى أن وافتهُ المنية عام 1953م عن عمر يناهز الـ 83 سنة. وقد شكّك كثير من المحررين في قدرة بن براهيم في أن يكون كاتبًا لأنه ببساطة لا يجيد القراءة والكتابة ولكنه كان يروي لناصر الدين قصصًا وحكايات من التراث الجزائري، والدليل أنه لم يكتب شيئًا بعد وفاة صديقه ورفيق دربه ناصر الدين الذي تعمّق في الدين، ودرس الفقه والتاريخ الإسلاميين، وتنوّرت بصيرته بالعلم والإيمان.

تزوير السيرة النبوية الشريفة

يتضمن هذا الكتاب أربعة فصول وثبْت بالمراجع وملحق بالصور. يتمحور الفصل الأول والثاني على الروايات المتضاربة وعلى السموم التي نفثها المستشرق اليسوعي البلجيكي هنري لامانس المتهم بالتزوير والتحريف للسيرة النبوية لكن ناصر الدين يرد عليه ردوداً مفحمة ويفند أكاذيبه بطريقة علمية لا يُشق لها غبار. وسنتفادى فيها العرض الوقوف عند الاتهامات والتلفيقات التي أوردها المستشرق المذكور في الفصلين الأول والثاني، وننصح المتلقي بقراءة كتاب "الشرق كما يراه الغرب" ليرى بنفسه حجم التشويه المتعمد لشخصية رسولنا الكريم، ومحاولة التشكيك بكتابنا المقدس الذي حفظه الله من كل سوء.

ينتقد مؤلفا هذا الكتاب الأخطاء الجسيمة التي أرتكبها الأب لامانس في ترجماته المُضللة فهو يترجم "ردّة" بانفصال Sécession بدلاً من Apostasie، ومنافقين بفاترين بـ tièdesأو متشككين sceptiques بدلاً من hypocrites، ويترجم "إنّ الله مع الصابرين" Allah est avec les patients بـ "إنّ الله مع المواظبين" Allah est avec Les persévèrents وثمة فرق كبير بين الصابرين والمواظبين التي تنقل الفكرة بصورة مشوّهة وناقصة.

هل أن نهاية العالَم قريبة؟

يناقش الفصل الثالث الأطروحة التي دافع بها كازانوفا في كتابه "محمد ونهاية العالم" فالبعض ادعى أنّ هناك أخطاءً تسربت خلال عملية جمع القرآن الكريم التي أنجزها زيد بن ثابت كاتب النبي بأمر من الخليفة أبي بكر وتحت إشراف عمر.

إنكار الرواية العربية

ينطوي الفصل الرابع والأخير على حوادث محدودة، إذ يرفض المستشرق الفرنسي كليمون هويار مبدئياً الحوادث المتمثلة في الشجرة التي وضعت نفسها أمام الغار الذي اختبأ فيه النبي وأبو بكر، والعنكبوت التي نسجت شبكتها في نفس الموضع من أجل إبعاد شكوك من يلاحقونه". كما يرفض حادثة سراقة بن مالك الذي كُلف بمطاردة الهاربين والقبض عليهما حيث شعر بأنّ أرجل حصانه تغوص بالأرض. ويضيف هويار قائلاً:"نحن لا نجد لها ذكراً في أقدم الروايات كروايتيّ ابن هشام والطبري" بينما تؤكد السردية العربية أن حادثة سراقة بن مالك موجودة في سيرة بن هشام، كما وُصفت بدقة في طبقات بن سعد.

تكمن أهمية هذا الكتاب في الانفتاح على الآخر ومعرفة الطريقة التي يفكّر بها ويروّجها بين القرّاء. وعلى الرغم من حسّاسية المحاور التي يطرحها المستشرقون الغربيون وما تنطوي عليه من أكاذيب وافتراءات إلاّ أن تناولها بالدرس والتحليل هو واجب ديني مقدس هدفه ترسيخ الحقيقة وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.

بقي أن نشير إلى أن ناصرالدين دينيه قد أنجز العديد من الكتب نذكر منها "أشعة خاصة بنور الإسلام"، "حياة الصحراء"، "ربيع القلوب"، "الحج إلى بيت الله الحرام"، و "الشروق في خضرة" وغيرها من الأعمال السردية المهمة.

 

عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم